تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

نسرين وأنا

أغسطس 18, 2022 | 0 تعليقات

ولدتُ قريباً من ضفاف دجلة الخضراء في الكرادة، فيما ولدت نسرين في بيت يبعد عن ضفاف دجلة نحو 100 متر فحسب. ولكن ظروفنا بدأت متباينة وظلت متباعدة، إلا في أحيان نادرة. فقد ولدت نسرين لتكون آخر العنقود في أسرتها بعد أختها وأخيها الأكبر منها، فيما ولدتُ أنا وكبرت لأبقى البكر في أسرتي التي لم ترزق بآخرين إلا بعد 10 سنوات من مولدي، فجاءت أختي الأصغر، وبعدها أخي الذي تفصلني عن مولده 12 عاماً، وهكذا كنت أكبر الأبناء في بيتي والأعز بين الأشقاء.

ولدت نسرين لتشهد أن أبيها بعيدٌ دائماً عن بيتهم الأنيق العتيق. هي لم تكن تفهم سر نأي أبيها عن بيتهم وسفره المزمن المستمر، رغم أنّه دئب على زيارتهم أسبوعياً راكباً في أحدث السيارات الأمريكية الفخمة التي يقودها سائق خصوصي. كان يأتي محملاً بأغلى الهدايا، لكنه بقي ضيفاً يزر غباً، ولم يصبح رب البيت المقيم. فيما كان أبي الفنان مقيماً معنا نحن العائلة المكونة من الأب والأم والابن الوحيد آنذاك، وهذا يجعلني متفوقاً على نسرين بخيمة الأب التي تظللني وأمي. أبو نسرين ولد وعاش اقطاعياً ثرياً غارقا بالمال، فيما كان أبي يسارياً طموحاً تطرده الدوائر الحكومية، ليتنقل بلا هدف بين وظائف القطاع الخاص، بلا سيارة ولا بطيخ!  

كبرت نسرين منذ البداية في مدارس الراهبات، وتخرجت من “ثانوية راهبات التقدمة” التي كانت وما زالت تقع في الباب الشرقي مطلة على شارع السعدون، وكورنيش أبي نؤاس، ومدخل شارع الرشيد، وجسر الجمهورية، وما برحت حافلات المدرسة الامريكية الصفراء من نوع “سكول باص” تقلها كل يوم ذهاباً إلى المدرسة وإياباً إلى البيت. فيما رفضتني روضة وابتدائية دجلة للراهبات الواقعة في ارخيته بالكرادة الشرقية جوار حسينية التميمي الشهيرة، لسبب لم أفهمه، ونسبته أمي وأبي إلى انتماء أبي الشيوعي، الذي جعل مدارس الأمريكان ترفض قبول ابنه!! وهكذا فقد درست وكبرت في المدارس الحكومية بعيداً عن ثقافة الامريكان والانكليز والراهبات والتربية الغربية.

كبرت نسرين وهي تعيش على ضفاف الطبقة الارستقراطية المنقرضة في العراق، وكبرتُ لأعيش على صفاف الطبقة الوسطى التي أمست تقوى وتبني مستقبل الوطن.

غرفة نسرين في بيت أهلها، كانت أكبر وأجمل من غرفة الضيوف في بيتنا، وكانت حلماً رومانتيكيا متشحاً بستائر وردية فاتحة الألوان تتخللها ستائر من الساتان المنقش الأبيض الثمين. شبابيكها خشبية بيضاء طويلة بنيت في روازين عميقة في جدار يبلغ عرضه متراً كاملاً، وتطل على حديقة الآس والليمون والنارنج الظليلة، وكان يناديها كل صباح، بلبل سكن تلك الجنينة. أما غرفتي في الطابق العلوي من بيتنا فكانت صغيرة ساخنة متربة صيفاً، رطبة باردة شتاء، فيها نافذتان كبيرتان تطلان على شرفة عريضة كبيرة تطوق الطابق العلوي برمته، وشبابيكها بلا ستائر، وضلفها الحديدية غير محكمة الاطباق، لذا يتسرب الغبار منها صيفاً، والبرد شتاء، وكان الحمام يحط على الشرفة كل صبح ليطلق حفلة صاخبة وهو يصارع الغربان التي تزاحمه على الشرفة الفسيحة، فيوقظنا كل صباح هديل الفواخت المسماة في بغداد “طيور الحضرة” مختلطاً بنعيق الغربان في حفلة يومية مضحكة. ثم أضاف أهلي لغرفتي جدة أبي التي اقامت معنا لبضع سنوات، وهكذا باتت غرفتنا نحن معاً، رغم وجود غرفة فارغة جنب غرفتي، وفقدتُ خصوصية تفردي بالمكان. كانت جدة أبي مصابة بالصمم بسبب عمرها المتطاول، وفرض هذا بيننا في ليالي الشتاء حين ننام باكراً، صمتاً قطبياً ساحقاً. أما بيت نسرين فقد ضم خالتها المفتشة في وزارة المعارف، وهي لم تكن تشاركها الغرفة بالطبع بل تنام في غرفتها الطويلة الأنيقة المطلة على باحة الدار الخلفية.

وبما أني قد ولدت بعد ست سنوات من مولد نسرين، فانّ اهتمام أقاربي/ أقاربها الذي كانت تستأثر به، قد انتقل إلى الوليد الجديد، وبهذا فقدت نسرين مساحة عشق فسيحة كانت ترفل فيها محفوفة بكرم شاسع ينسيها أنها الصغيرة الأخيرة في بيتها. واضطرت أن تتكيف مع الوليد الجديد، وهكذا حملتني عصر ذات يوم ربيعي عليل وأنا بكامل أناقتي الطفولية وقد بلغ عمري عاماً ونصف عام، وألقت بي في حديقة الدفلى أمام بيت جدي، وهو خالها، والتي كانت قد غمرت بالماء الطيني الخام من صنبور جبار في الحديقة. وفي لحظة غادرة، تحولت اناقتي إلى بهدلة موحلة، وكسى الطين وجهي وشعري المسبل الأنيق، وغادرت البنية مكان الجريمة خلسة، دون أن تبلغ أحداً، فاجتاحني خوف كوحشة أطفال ضيّعهم أهلهم في مزارات مقدسة مكتظة بالمصلين والزائرين، وبكيت منتحباً فسمعت أمي عويلي المستوحش، وخفّت لنجدتي من شر الوحل ومن فيض الماء الخام ومن مخاطر ورد الدفلى السام القاتل الذي يطوّق الحديقة الواقعة خارج جدار بيت جدي الحجري المعزز بسياج محجّر.

وفي غروب ذات عيد، حملتني نسرين بعد أن وعدت أمي بأن لا تتخلى عنّي مهما تغيرت الظروف، وقصدت بي شارع بيتهم وبيت جدي المتحدر من كورنيش ابي نؤاس، والمزدحم دائما بسيارات تروح وتغدو بلا نظام لتريني الناس وهم يحتفلون بالعيد، ولا أدرى ماذا جرى بالضبط لكني شعرت فجأة بشيء صلب يضربني في جبهتي، ما ابكاني بشدة، فهرعت خالاتي وأمي إلى المكان ليرين رأسي وقد تورمت جبهته، بعد أن ارتطمت بعمود الهاتف الأسطواني المعدني أمام البيت. وبكت نسرين وهي تروي كيف أنّ قدمها قد تعثرت بسبب ثقل وزني، ففقدت توازنها وسقطت على عمود سلك الهاتف، فشج رأسي الذي استقبل العمود قبل أن يستقبله رأسها! وهكذا لم يعد أحد يسمح لنسرين أن تحملني للفسحة.

وكرت السنين، وكبرنا كل في بيته، فصرت أزور بيت جدي أحياناً أصابيح الجمعة، أو عصاري أيام الخميس بدراجتي الفيلبس الهولندية الحمراء، فأجدها مع صديقتها الساكنة في نفس الشارع، وهما تمتطيان دراجات نسائية بيضاء إنكليزية، علقت على مقاودها سلات معدنية بيضاء ملونة بالوردي، وزينت حافاتها بالورد الصناعي، وتتجولان بالدراجتين بهدوء وهما تقرعان جرسي الدراجة الرفيقين بالبيئة. وكنت ألح عليهما أن أرافقهما، لكنهما كانت ترفضان، لسبب لم أفهمه قط!؟ وكان رفضهما يغيظني لدرجة إنني قررت ألا أكلم نسرين قط بعدها. فاحتالت عليّ بطريقة أخرى لترضيني، ودعتني مع صديقتها إلى أن نذهب مساء الخميس المقبل إلى كازينو سعد العائلي على شاطئ دجلة، ونتعشى عنده هامبرغر. فوافقت على مقترحها على مضض في ظل شكوكي بنواياها الحقيقية.

عصر الخميس التالي، حضرت في الموعد المقرر بدراجتي، فوجدت نسرين على دراجتها لوحدها أمام باب بيتهم، وسرعان ما عرضت عليّ أن أرافقها في جولة بالدراجات لحين حضور صديقتها، وفعلنا ذلك، وترددنا عدة مرات بدراجتينا بين نهاية الشارع ومقدمته، حتى جاءت صديقتها، فرحلنا معاً بلا دراجات، إلى كازينو سعد العائلي. وهناك طلبت نسرين لنا جميعا هامبرغر وكوكا كولا (قبل أن تمنع الكوكا في العراق عام 1967 إثر حرب الأيام الستة ضد إسرائيل). هكذا تذوقت الهامبرغر لأول مرة في حياتي، ورافقته الكوكا كولا لترسّخ في ذاكرتي ثنائية احتفالية بهيجة، اقترنت على الدوام بالرخاء والخير والسعادة والأمان.

وتكررت لقاءات من هذا النوع مع نسرين وآخرين من عائلتينا، بينها زيارات للسينما ولنادي العلوية، وسفرات قصيرة إلى الزعفرانية وسلمان باك وإلى جراديغ جريد النخل التي تبنى في الجزر الموسمية التي تظهر وسط نهر دجلة.  ورغم تقاربنا بقينا مفترقين في كل شيء تقريباً.

حين كبرنا، تباينت طرقنا بشدة، فقد انسلخت نسرين عن طبقتها الارستقراطية، وذهبت لتتزوج بصحفي شيوعي من عائلة يسارية/ ارستقراطية معروفة! فيما انسلخ أبي عن اليسار، وصار يكره البروليتاريا ويرفض الاختلاط بها، فلم أسلك طريق اليسار مثله. وسرعان ما انقلب البعثيون على الجبهة، فضربوا الشيوعيين وألقوا بهم في السجون، وضربوا الكرد وضيقوا عليهم. وحوصر زوج نسرين، فأخذها معه لطريق الهجرات، حيث كبر ولداهما في بيروت والقاهرة والمدن المثلجة الكندية.

وفيما كانت نسرين تتقلب بين العواصم بحثاً عن وطن، كنت اتقلّب على الحدود مع إيران التي ميشنا لحربها عام 1980 دفاعاً عن تراب الوطن. ثم تهنا وتهدمت احلامنا بعد أن خسر العراق غزوة الكويت عام 1991، ودفع ثمناً تاريخياً لتلك الغلطة.

نسرين وأنا، قد أضحى الثنائي بمعنى الكلمة بديلاً عن تدانينا، وسافرت سفائننا عبر بحور متباعدة ثائرة، ومرت مياه كثيرة في نهر دجلة، وتداعت البيوت وهجرها أهلها، وبات الوطن فندقاً نزوره حين تهدأ البنادق وتتوارى الكواتم وحين يتنفس الناس نسيم الحرية والأمان لوهلة دون قنابل ومفخخات، ويحل البرد في أرض العراق التي تجف انهارها، ويحرق الناس صيفها المدمر.

كازينو سعد العائلي، تحول إلى مطعم وكازينو الياقوت في ثمانينات القرن العشرين حتى تسعيناته.      

بون 2022  

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

يصف الكاتب محمد حسين صبيح كبة برنامجاً روسياً افتراضياً عن لقاءات مع الناس ومع مهندسي نفط روس حول برج للنفط مائل الطباع بناه العراقيون، ويمضي ليصف أشياء أخرى غير ذات صلة بالنفط وابراجه. الحكاية بدأ الأمر بشكل لطيف وبدم خفيف. كان الأمر على شكل كاريكاتير في كتاب عن...

قراءة المزيد
كتابات ومفارقات

كتابات ومفارقات

يرى محمد حسين صبيح كبة أن فكرة التحول مما بين بشري وحيواني ونباتي وجمادي هي فكرة رهيبة راودت بعض العلماء مثل ذلك مثل محاولات العرب والمسلمين أمر محاولاتهم في الكيمياء وفي غير الكيمياء مثلا أمر إكسير الحياة ومثلا أمر تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. الفكرة ممكنة...

قراءة المزيد
من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

كتابات ساخرة من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم. يروي محمد حسين صبيح كبة طرفة تفيد أنّ خطيباً في أحد المساجد هبط من المنبر بعد خطبته وهو يرتجف من الخوف بعد أن أحاط المصلون به من كل جانب، ثم قالوا له بكل وضوح: قولك وخطبتك أن موقعة بدر كانت بالدبابات والقنابل...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *