علاقة الانسان بالعالم الرقمي وفضاءات السايبر تتحقق من خلال الشاشات التي تنقله من عالمه الطبيعي الحلي إلى عالم افتراضي لا وجود له سوى في وعي الانسان. كل الأحياء التي تقاسمنا الحياة على الكوكب الازرق تجهل كل شيء عن العالم الرقمي، ولا تحس به ولا تعرفه. نحن والأشياء ونحن والأرض، شقان من علاقة في حياة الإنسان، رسما إلى حد كبير تفاصيل لوحة الحياة على كوكب الأرض، وبات أثرهما ينتقل إلى كواكب أخرى، رغم أن العلاقة الوشيجة بينهما تبقى منسيّة غالباً.
لا أحد يعرف بالضبط متى وكيف تعامل الإنسان الأول مع الطبيعة وسخّر مواردها لنفسه. وضمن الطبيعة بلا شك الحياة، فالأنسان تفوّق على الكائنات بعقله وبسيره منتصبا، وهكذا استعبد أجدادنا الأولون بلا هوادة الكائنات والمواد الحية حولهم.
ولكي نبدأ، لنجعل الطوفان فاصلاً بين عصرين، فأديان الشرق الأوسط التوحيدية والأرضية تحدثت عن طوفان نوح الذي قضى على كل حياة، وأقلع نوح بفلكه الشهير محمّلاً بأصحابه وتابعيه، وبالحيوانات والنباتات، وبالحشرات والمكروبات والبكتريا التي صعدت إلى الفُلك دون أن يراها ويشعر بها نوح النبي.
فكل نخلة وبرتقالة وتفاحة وكرمة عنب وغصن ورد وعريشة استوائية وصبارة أمريكية وشجرة جوز كولومبية وشجرة مانجو آسيوية، وملايين النباتات الشوكية صعدت على الفلك تحمل في خلاياها مليارات البكتريا الضارة والمفيدة، وملايين المكروبات الضارة والمفيدة، حدث ولا حرج عن ألوف الحشرات الدابة والطائرة والمتسلقة على غصونها. ومثلها كلّ خروف وبقرة وأسد ونمر وحمار وفيل وجمل وقندس وسنور وكلب وذئب ينتشر في صوفه وشعره ووبره ملايين الحشرات والمكروبات، وفي جوفه تعيش مليارات البكتريا دون أن يدري، وقد نقلها الحيوان إلى سفينة النجاة دون أن يعرف الطرفان (الناقل والمنقول) أنّ مستقبلاً باهراً ينتظرها بمعية الكائن اسطوري الذكاء، الإنسان.
هل استعبد النبي نوح الماء الحي؟
لو جردنّا الحقائق، فإنّ نوحاً وظّف الماء لإنقاذ ما تمكّن من انقاذه من أشكال الحياة، دون أن نتساءل عن سر حياة ملايين الطيور والحشرات الأخرى التي نجت من الطوفان، فهذا شأن آخر.
نوح سخّر الماء الحي لخدمته، وقبل نوح كان الماء وسيلة الحياة الوحيدة لكل الكائنات. لكنّ الإنسان سخّر الماء من خلال السدود لينتج الكهرباء، وليغرق المدن في الحروب، وليسقي الزرع، أو ليتقتل الزرع والضرع بطوفاناته وفيضاناته التي لا آخر لها مذ عرفت الحياة على الأرض.
وفيما نصّ القرآن صراحة على أنّ الماء صناعة ربانية بقوله “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ” أفرط الإنسان في التعامل مع سر الحياة ومصدرها، وقسى فجعل منه وسيلة يتنقل خلالها وتدخل في صناعاته وزراعته. وحين بلغت الحضارة عصرها النووي، استخدم الإنسان الماء لتبريد المفاعلات النووية، فتتلف إلى الأبد ملايين الالتار منه بلا أمل أن تعود لتروي الحياة، أو أن تدب فيها الحياة.
ومثل الماء، النار التي استعبدها الإنسان إلى درجة أنه بات يختصرها في رصاصة قاتلة تافهة، تُنهي حياة كائن حي، ثم بات يختزلها في قنبلة نووية تُنهي كل أشكال الحياة في لحظة جحيم لم يحلم بها دانتي ومن سبقوه، ولا يعلم أحد كيف سيكون مستقبل النار النووية.
ومن النار صنع الإنسان وقوداً بحرق الخشب، وجعله فحماً، ثم اكتشف النفط وأسراره، فبات يحرقه لينتج ناراً، يا ترى من هو الإنسان الذي أوقد بنفسه ناراً أول مرة؟
الدجاجة- قد تكون أول ضحايا الاستعباد البشري
ولمزيد من الاستعباد، لنفكر في أول انسان استعبد وربى دجاجة، فباتت لشدة وطول سجنها عاجزة عن الطيران رغم أجنحتها، وعن ذلك تقول الكتب العلمية إنّ بعض الطيور لا تطير، ومنها البطريق، وما يدرينا أنّ إنسان العصر الجليدي لم يستعبد البطاريق في كهوف معتمة فضمرت أجنحتها وعجزت عن الطيران؟
وما يدرينا أنّ إنسان الكهوف- الذي عاش قبل آدم- أو غيره من أناس قضوا في زمنٍ غفل عنه التاريخ وقد يكون متطاولاً خارج حواسنا في بعد لا نراه وفي زمن لا نحسه، ما يدرينا أن ذاك الإنسان دون أن نحدد شكله، ومنذ عصور سحيقة لم يستعبد النعامة التي تشبه إلى كبير طائر الرخ المسمى علمياً “Quetzalcoatlus “، فسمنت وباتت أجنحتها عاجزة عن حملها؟
وتتصل الأسئلة عن البقر والغنم والبغال والحمير والخيل والجمال، ومثلها عن الكلاب والسنانير والبلابل والحمام والنحل والسمك بأنواعه، حتى بتنا نرى اليوم من يربي تمساحاً في حديقته، أو دلافين في حوض السباحة في قصره، أو فهداً أسود في شقته الصغيرة، أو ثعبان أصلة فتاك في بيته ليلعب معه أطفاله!
قائمة حيواناتنا الأليفة مذهلة وتضم عجائب، فالشاب الهندي الذي يعشق أن ينام في كنف العقارب عُرفت قصته عبر العالم، والشاب الفلبيني الذي يفضل أن يكبر أولاده في عقدة الافاعي بغابات بلاده شاعت قصته، والأمثلة بلا نهاية.
صانع العجلة وصانع الصواريخ
لكنّ الإنسان أبدع، وذكاؤه المتفوق على كل أشكال الحياة في الأرض، جعله الصانع الوحيد الحي في هذا الكوكب، فصنع العجلة، وابتكر الرياضيات والحساب، وصنع التاريخ وصاغه، وصنع الجغرافية وحبس الأرض في حدود الخرائط.
ولعل أغرب الأشياء التي صنعها الإنسان، هي النقود، ففي فترة غير معروفة عُرفت النقود، ويحصرها البعض بخمسة آلاف سنة قبل الميلاد، لكنّ الاكتشافات الأثرية تغير كل التواريخ باستمرار، فيقول البعض إنّ أصل النقود هم أهل الصين، ويذهب آخرون إلى أنّهم شعوب وادي الرافدين في أزمنة بعيدة، وغيرهم يؤكد أنهم الفراعنة وشعب مصر القديم، ويرى غيرهم أنهم أهل أمريكا الجنوبية من شعوب الأزتيك والمايا.
ثم صنع الإنسان الأسلحة، من حجر صغير، حتى القنبلة الهيدروجينية المحمولة في صاروخ يطير لمسافة 8 آلاف كيلومتر ليصيب مدينة منكوبة فيحولها إلى طحين ويقضي على كل أشكال الحياة فيها إلى أبد.
وبنى الإنسان البيوت من طين، وهو يبني اليوم ناطحات سحاب شاهقة، تمتنع الحياة فيها دون وجود مصاعد وسيل لا ينقطع من التيار الكهربائي، وأما صعود الماء إلى طوابقها العليا المئوية فرهين حتماً بمحطات دفع عملاقة وجب إنشاؤها أسفل العمارات.
ثم صنع الإنسان الكومبيوتر وتطور اليوم إلى هواتف ذكية، وحاسبات شخصية ذكية، وساعات ذكية، وصولاً إلى منتجات الذكاء الإصطناعي المرعبة. ومن هذا النتاج الآلي تطورت الاتصالات إلى ايميلات تتنقل بن المشتركين عبر العالم خلال ثوانٍ وتلغي معنى الجغرافية لتواصل الوعي والعقول. وجاء مارك زوكربيرغ باختراعاته المدهشة، فصار العالم متصلا في بيت واحد اسمه فيسبوك، وعلى قائمة هاتف مجانية اسمها واتس آب، فيما يتصل كل أطفال ومراهقي وحتى شبان العالم على انستغرام.
الإنسان- سيد الطبيعة وعبد صناعته !
لكنّ جانباً هاما لايزال خفيا في هاتين العلاقتين، فنحن نقتل كل ما استعبدناه، نقتل الدجاج، ونحرق الماء، ونقتل الأبقار والأغنام، وندمر النباتات والأعشاب، ونقضي على الغابات بسرعة قياسية، وندمر التربة، ونلوث الهواء. الإنسان يقضي على عبيده، وبهذا يقضي على الحياة.
في الجانب الآخر، هذا الإنسان نفسه، بات عبداً لما يصنع، فظهرت المشروبات الغازية، التي تحول الماء إلى كولا ومشن وبيبسي وسفن آب وتبيعها لمليارات الناس عبر فضاء الكوكب الذي تغلفه غازات عوادم السيارات والمصانع ومفاعلات الطاقة النووية. وأدمن الناس في بلدان كثيرة على المشروبات الغازية، وباتت ملازمة لوجبات غذائهم اليومية، وأدمن عليها ملايين الناس.
العبودية الأشد التي يعاني منها الإنسان هي عبودية المال، فالناس يحتاجون إلى النقود التي صنعوها، بشكل باتت فيه النقود أهم من الحياة لدى ملايين الناس، وبات همُّ البشرية ليس أن تعيش، بل أن تحصل على وتجمع نقوداً تمكّنها من شراء مزيد من العبودية لتعيش.
وظهر إلى العالم المليونيرات، ثم تبعهم المليارديرات، وبات الناس ينظرون إليهم نظرتهم إلى الآلهة، وهم ليسوا أكثر من عبيد لحاجاتهم وأموالهم. إذ يمكن للإنسان أن يعيش في بيت من طين في مزرعة نائية، وقد يُعمّر، لكنّ مليارديرات مثل دونالد ترامب، وباريس هيلتون، جيف بيزوس، بيل غيتس، مارك زوكربيرغ، أمانادو اورتيغا، ديفيد كوخ وغيرهم، لا يعيشون إلا في بيوت طليت جدرانها بنقوش مذهبة، ويتربعون في قمم المباني، وفي أطراف المدن الفاخرة المزهرة، ويتنقلون بطائراتهم الخاصة، ويأكلون أفخر ما في العالم، وهم في كل ذلك عبيد لهذا كله، لذا لا يمكن لأي منهم أن يعود ليعيش مثل باقي الناس، وبذا فقد بات عبداً لما يملك .
الشباب اليوم عبيد للإلكترونيات والتطبيقات المحمّلة عليها والتي صنعها ويملكها المليارديرات الذين ذكرناهم اعلاه، وبالتالي هم عبيد لعبيد.
كيف يحيى الإنسان دون كهرباء؟
الإنسان لا يحيا اليوم دون طاقة كهربائية، مع أن عمرها لا يزيد عن 150 سنة، والإنسان لا يشرب إلا مياهاَ معدنية، صنعها خلال العقود الثلاث الماضية، والإنسان لا يأكل إلا طعاما مطبوخاً غنياً بالروتين، فهو عبد للحوم والشحوم. والانسان لا يتنقل إلا بسيارة شخصية، حتى باتت السيارات تزاحم الناس في المدن وتسرق هواءهم وتحرق صدورهم بغازاتها.
ويسافر بعض الناس بالطيارات مرتين أو أربع مرات كل شهر، وباتت الطيارة جانبا أساسيا في حياتهم في عصر العولمة. بل إن الأثرياء ما عادوا يعيشون دون طائرات خاصة بهم.
المعادلة باتت هكذا: يقتل الإنسان الحياة ليصنع هاتفاً ذكياً وقنينة كولا وسندويشته هامبورغر ولوح شوكولاته، وهكذا يجب عليه أن يشتري سيارة، وأن يبني بيتا بألوف الدولارات، وحين يموت، و يا للمفارقة، لا يجد في الأرض التي خربت متراً واحدً يمكن أن يضم قبره، فيُوصي قبل الموت أن يحرق رفاته ويسلم غباره إلى ورثته ليضعوه أمام أعينهم في صالة الجلوس، ويتمتعون بالنظر إليه وهم يمضغون الشوكولاته والبطاطا المقلية فيسمنون وهم جالسون أمام شاشات التلفاز العملاقة.
ملهم الملائكة
0 تعليق