جرى ذلك في مطلع صيف عام 1980 قبل اندلاع حرب قادسية صدام ببضعة أشهر، كان يوماً معتاداً في مقر لواء 23 مشاة جبلي بضاحية مدينة راوندوز أقصى شمال أربيل، استيقظت صباحاً وخرجت بالسرية للتدريب، بعد نحو ربع ساعة، جاءني انضباط مقر اللواء وهو يبلغني أن أذهب إلى مقدم اللواء، ذهبت إليه فأخبرني بأنّ زائراً هاماً جداً سيفد إلينا، وعلينا أن نهيئ الوحدة للزيارة.
دبت حركة غير اعتيادية في وحدتنا، الجميع ينظفون ويرتبون، وحضيرة انضباط اللواء وقفت مع المبوّق بأبهى صورها، وكل الأجزاء البيضاء في قيافتهم قد جرى تشميعها بالطباشير فباتت شديدة البياض. بعد ساعتين من الاستعدادات، لم يصل الزائر المنتظر، وابلغت أن أوزع مفرزتي رشاشات خفيفة على بيوت قرية كاولوك التي تنصّف الطريق بيننا وبين راوندوز لحماية الزائر المنتظر. كنت في السرية وحدي، آمر السرية المقدم ز. في إجازة، ضابط المخابرة الأقدم في دورة بمدرسة المخابرة، الضابط الإداري في بغداد لاستلام مواد من العينة، وحتى آمر الفصيل الكيماوي الملحقة وحدته بسرية مقر اللواء ذاهب في فرضية تدريب مع فصيله، وهكذا وقع كل العبء عليّ. ذهبت بالمفرزتين، وأزعجت سكان البيتين بطلبي أن أضع رشاشات وجنوداً فوق أسطح بيوتهم!
أغلب من في السرية يتوقع أن يكون الزائر قائد الفيلق، لكن لا أحد بوسعه أن يجزم. بهو الضباط أعد ذبيحة كاملة على شرف الضيف دون أن نعرف مستواه أو متى يصل، لكن كان ذلك إجراء احترازياً، وتطاول الانتظار، حتى قاربت الساعة الثانية ظهراً، ثم دخل رتل سيارات تويوتا لاند كروزر وشاحنات تويوتا هاي لُكس دبل قماره مدنية، ومعها سيارة لاند كروزر واحدة عسكرية إلى مقر اللواء، وسارعنا نحاول استقبال الضيف، فأنتشر عناصر حماية يقودهم م.أول أرشد ياسين! وهكذا عرفنا أنّ الزائر هو صدام حسين، وقد زارنا وهو يرتدي بدلة نقابية خضراء اللون، وقد تمنطق بصف رصاص جلدي أسود اللون فوقها، وتدلى مسدسه البراوننك المعتاد فوق فخذه الأيمن، وعلى رأسه يضع كوفية حمراء، ومعه مجموعة من أقاربه كلهم بالملابس العربية، وقد تمنطقوا بأحزمة الرصاص، كأنهم أمراء خليجيون خرجوا إلى الصيد في البادية ويحملون بنادق انكليزية. انطباعي الأول أنهم خرجوا إلى الصيد، ثم عنّ لهم أن يزوروا لواءنا لسبب ما، ثم تأيّد صدق حدسي فيما بعد.
آمرُ لوائنا آنذاك كان المقدم الركن خلف العليان، وكان في إجازته الدورية، وكذلك غاب كل ضباط الركن أما في إجازاتهم أو في مأموريات باستثناء مقدم اللواء رائد ركن حميد، ومن سرية مقر اللواء كنت أنا الموجود فحسب، وقد سبب لنا هذا الوضع، حرجاً فجرى على عجل استدعاء ضباط الفوج الأول المستقر في حامية راوندوز الملاصقة لنا.
وطوّق عناصر حماية صدام مقر اللواء “بناية قديمة لمخفر انكليزي”، ومنعوا دخول أي شخص له، وتقدمت لهم وقلت لهم أني الضابط الوحيد في سرية مقر اللواء التي يزورها السيد الرئيس، ولابد أن أدخل لأكون في استقباله ولألبّي ما يطلب، لكنهم رفضوا، ثم نادوا ضابطاً من عندهم برتبة ملازم أول، فسألني عن اسمي وصفتي وأخبرته بالحال، فأوسع لي كي أدخل، وكنت مسلحاً بمسدس ولم يطلب مني نزع المسدس أو تجريده من مخزن الإطلاقات على الأقل، وكانت هذه سابقة لا مثيل لها، ولم أجد لها تفسيراً سوى أن صداماً كان في بداية رئاسته ولا يريد أن يعزل نفسه عن أفراد القوات المسلحة، ولا يريد أن يبدي عدم ثقته بهم، أو أنه كان مطلق الثقة بالجيش.
استقر صدام حسين ومن معه في البداية في غرفة آمر اللواء، ولم يكن قائد الفرقة أو قائد الفيلق برفقته، ما يعني أن زيارته مفاجئة للجميع ولم يعلم بها مقر الفرقة أو مقر الفيلق، وذهبت إلى المطبخ لحث الجنود على إعداد الطعام بسرعة، وتقديم الشاي للضيوف، وكان الجميع مرتبكون، ثم نبهني الجنود إلى أنّ مطبخ “السيد الرئيس” قد دخل بطاقمه في غرفة آمر اللواء، وهم يعدون الطعام له هناك، وقد أبلغوهم أن لا يقدموا أي شيء قطعاً إلى “السيد الرئيس” فكل شيء محمول معهم، وجاء مقدم اللواء راكضاً وأمرهم بمد سفرة الطعام في حديقة اللواء، وليس في بهو الضباط، وهكذا كان.
ثم دخل صدام ومن معه إلى البهو، ورافقناه في الدخول نحن ضباط مقر اللواء وعنهم مقدم اللواء وأنا من سرية مقر اللواء، إضافة إلى أمين سر فرقة راوندوز العسكري الحزبية وهو برتبة ملازم أول لم أعد اتذكر اسمه، علاوة على بعض ضباط الفوج الأول. وما إن جلسنا حتى وفد ضابطان من الفوج الأول هما أمراء سرايا فوق جبل هندرين، وقد وصلا تواً إلى مقر اللواء، ودخل الضابطان وكلاهما برتبة ملازم أول وهم يحملان بنادق، فتنكب أولهما البندقية على كتفه، وأدى التحية على السلاح وقدّم نفسه رسمياً، ورد صدام بكلمة أهلا أهلا، فيما دخل الثاني، وقد حمل البندقية بيده اليسرى على امتداد ذراعه الأيسر بوضع كانت فيه الفوهة إلى أسفل، وأدى التحية العادية بكفه وقدّم نفسه رسمياً فرد صدام بنصف رفعة ذراع.
كان الارتباك يخيم على الجميع، لكن الملفت للنظر أن أغلب ضباط اللواء كانوا مسلحين (لابد من الإشارة هنا، إلى أن الزيارة تمت قبل قيام الحرب العراقية الإيرانية في نهاية شهر حزيران/ يونيو 1980 تقريباً، أي في وضع سلام، لكن لواءنا كان منفتحاً في منطقة راوندوز بوضع حركات، وهكذا يتاح للضباط حمل أسلحتهم الشخصية، أو حمل بندقية (وهو ما كان يفضله ضباط المشاة في ربايهم). والأكثر غرابة أنّ أياً من أفراد حماية صدام لم يعترض على وجود ضباط مسلحين في حضرة عمهم، وبالمناسبة لم يكن عدد أفراد الحماية يزيد عن قوة فصيل (حوالي 30 جندياً) !!
ثم طلب صدام من الجميع تعريف أنفسهم، ونهض مقدم اللواء لتقديم نفسه وحاول أن يخطو لمنتصف البهو ليفعل ذلك بصفة رسمية، لكن “الريس” قال له: ” قدم نفسك وأنت بمجانك (في مكانك)”، ففعل الرجل، وسأله صدام بضع أسئلة عن آمر اللواء وعن باقي ضباط الركن، ثم تواصل تقديم الضباط لأنفسهم، حتى وصلت نوبتي، فنهضت وأديت التحية وقدمت نفسي “ملازم مجند مخابرة.. آمر رعيل المخابرة الثاني سرية مقر ومخابرة لواء المشاة الثالث والعشرون”، وسألني صدام وهو ينظر إليّ في وجهي “أنت مهندس؟”
– لا سيدي، خريج كلية الآداب قسم اللغة الانكليزية.
فهز رأسه مع ابتسامة خفيفة وهو يقول، ياهلا بالخريجين، تفضل!
وجلست في مكاني وقد أخذ مني العرق مأخذاً.
وتواصل تقديم الضباط لأنفسهم له، وشرع صدام يتحدث مخاطباً الجميع في عموميات العمل العسكري، والاجازات، ثم سأل عن الرواتب، “هل تكفي العسكر رواتبهم”؟ ثم أعطى الضوء الأخضر بحديث الحاضرين عن احتياجاتهم!
فرد عليه المقدم محمود آمر الفوج الثالث، الذي وفد متأخراً، بشيء لا أتذكره، وكذلك فعل مقدم اللواء، وتكلم البعض عن سلفة زواج، وتحدث آخر عن حاجة الضابط الملحة إلى سيارة، واقترح ضابط لم أعد أذكر اسمه أن تمنح الشركة العامة للسيارات أفضلية للعسكريين بالحصول على سيارة مقابل ثمن. ابتسم صدام ورد بالقول “إن شاء الله”!
كان الملازم الأول أرشد ياسين، يدوّن بالقلم في دفتر صغير، أشياء مما يدور، لكنها غالباً مما يقوله صدام، ثم التفت صدام ناحيته فاقترب أرشد وأحنى رأسه، وما لبث أن خرج من البهو، وانشغل صدام يحادث الموجودين، وبقيت أتأمله، كانت في أسفل رسغه الأيمن نقطة وشم زرقاء (دكة)، وكان يجلس وقد وضع قدميه بثبات على أرض المكان، ولم يضع ساقاً فوق ساق، وكان ينتعل حذاء شبه عسكري عالي الرقبة قد علته الأتربة، ما يدل على أنه كان في البراري، وبقي يتحدث بهدوء غير مسموع إلا لمن هم حوله، فيما كان يشمل بنظره الجميع، وعاد أرشد بعد دقائق، وهمس ثانية في أذن صدام، ثم تسمّر واقفاً خلفه.
للحق أقول إن حضوره كان طاغياً مهيباً مخيفاً، وكان الجميع يشعرون بالرهبة أمامه والصغر في حضوره، ربما لهذا علاقة بالروايات المخيفة التي تشيع عنه وعن حفلاته الدامية، خاصة تلك التي جرت قبل أشهر في قاعة الخلد وصفّى فيها خيرة رفاق حزبه وأقربهم إليه لأسباب بقيت مجهولة لكن الإجماع السائد هو أنها أسباب شخصية تتعلق به وبهم، وليس بالحزب أو البلد أو الصالح العام، لاسيما أن من بينهم أعز اشخاص إلى نفسه ظاهراً، وهم عدنان الحمداني، ومحمد عايش.
كان الصمت يخيم على الجميع في قاعة البهو وقد تجمع نحو 40 ضابطاً وكأنّ على رؤوسهم الطير، ثم تساءل مقدم اللواء بحياء من الرئيس إن كان يرغب في تناول الغذاء الآن، فحرك صدام رأسه لأرشد، وانحنى الأخير مرة أخرى وهمس في أذنه، وكانت قد وصلت له إشارة على جهاز ووكي توكي صغير في يده، نهض صدام، وقال للجميع “يالله”…وكان إيذانا بنهوض الجميع له، ووقوفهم بوضع الاستعداد لا يريم لهم طرف، خرج صدام، ومعه اثنان من اقاربه بالملابس العربية جلسا طيلة الوقت يمينه ويساره، ثم تصدر مائدة الطعام الكبرى، فكانت المفاجأة أنّ رأس المائدة المحجوز له ولضيوفه لم يقدم عليه شيء من طعامنا، وقد وضع له طباخه، وهو مسيحي يتكلم العربية بلكنة، طبق رز فوقه حكاكة (أسفل قدر الرز الدسم)، وطبق باميا، تميل مرقتها إلى الصفرة وليس إلى الحمرة على طريقة وسط العراق، وطيور مشوية في صحن منفصل، وتكرر المشهد مع كل ضيوفه، أما خروفنا والقوازي الشامية وأنواع الرز والمرق والحلوى التي جاد بها بهو الضباط في كرم باذخ، فقد ذهب بعضها إلى عناصر حمايته، وتوزع الباقي علينا.
حرصت أن أقف قريبا منهم، لأرى عن كثب من هو هذا الرجل المخيف الذي يحكم العراق، والذي حاول اغتيال عبد الكريم قاسم. وسمعت جزءاً من حواره مع أقاربه، وبينهم شخص قبيح الشكل، قصير القامة، لا شفة له، وتظهر أسنانه من فكيه كأنها أسنان جمجمة، يغطيها شارب كثيف طلي بلون أسود داكن لإخفاء شعراته البيض، فهمت من الحوار أن اسمه “زبن” وكان قريباً إلى درجة كبيرة منه، بحيث أنّه يرفع التكليف ويتكلم باسم أبو عداي!!
قال له صدام وكان يأكل بيده دون ملعقة ويقطّع طيراً ويضع بضعاً منه في صحن زبن: وهذي لقمة الزينة نخليها للزلمة الزين.
قال زبن: والنعم من أبو عداي، والسبعت انعام والله… بس عاد هذني من طيورنه، لو من طيور الي ما حشناهن (التي لم ينلها رصاصنا) !؟
صدام: هي عاد كلها انشوت، بعد ما تنعرف أيهو، لكن جن ذني بالماعون مالي هنّ صيدي، ما بيهن دم، وما طارن هواي، بالمجان طكيتهن!
وضحك الجميع مجاملة واكباراً لإنجازه المفترض، وقال زبن في معرض المجاملة مرة أخرى: أبو عداي وصدج لو كالوا، ما يفوته طير الطاير!
وهكذا تأكّدتُ أنهم كانوا في رحلة صيد، وقد اصطادوا غالباً طيور الحجل (القبج) المنتشرة في مناطق الجبال الكردية، وكنّا أقرب وحدة لهم، لذا جاءوا لنا كي يشووا صيدهم ويأكلونه، وهذا يفسر أيضا لماذا لم يرافقهم أي من القادة العسكريين والميدانيين والمحافظين، واقتصر الأمر على رفاق الصيد، وهم المقربون.
شخص آخر كان اسمه فاضل، يرتدي صاية زرقاء اللون داكنة، وقد تكحل طرفها بالأتربة، ويضع زناراً مطرزا بالرصاص، وقد تدلى من جنبه مسدس ربع ويبلي قصير الفوهة، وما برحت بندقيته الانكليزية القصيرة (المعروفة بالبترة) بجانبه، خاطبه صدام بالقول: فاضل ما ياكل طيور، لازم معلّم على الغزلان، هناك بالجزيرة يمهم هواي غزلان.
رد الرجل بصوت خفيض فلم اسمع ما قاله، لكن بعد سنوات، فهمت أن المتكلم هو فاضل صلفيج وكان ابن خالة صدام، وكان من ضحاياه بعد سنتين من ذلك اللقاء، حيث اعدمه صدام مع أربعة من اشقائه وأرسلهم جثثا دامية ملقاة في ظهر سيارات بيك اب إلى بيت أمهم، خالته!
هذا الرجل المغرق في البداوة هو حاكم العراق المطلق، وبهذه العشيرة هو يقود العراق، رفاقه هنا تدور همومهم حول صيد الطيور، وكأنهم ما زالوا يسكنون خيم الصحراء. انتابني هلع هائل، ولم أنم لعدة ليالٍ بعدها، وأنا أفكر بسبيل ينقذني من غزو البادية المتوحش.
أعقبت تلك الزيارة في احتفالات تموز 1980، زيادة كبرى في رواتب الضباط، ورواتب الضباط المجندين والاحتياط ورواتب المراتب والجنود المتطوعين والمكلفين والاحتياط بلغت نسبة الزيادة 300 بالمائة، وبين ليلة وضحاها بات راتبي بمستوى راتب مدير عام.
ثم صدر قرار، بحق كل ضابط متطوع في الحصول على قطعة أرض وسيارة وسلفة من المصرف العقاري للبناء. ومع هذه الزيادات الشاسعة، صدرت الأوامر بأن تنفتح القطعات في تمارين مكثفة على الحرب، وتحرك لواؤنا بين اسكي كلك واربيل وديانا و راوندوز خمس مرات خلال شهري تموز وآب. كل ما في الأفق كان ينذر بحرب كبرى، ولكنّ ساعة الصفر بقيت مجهولة، كما بقي العدو المحتمل مجهولاً، رغم وجود أصابع تشير نحو شرق العراق.
***
ملهم الملائكة
فصل من كتاب “حين مشينا للحرب” / يوميات ضابط في قادسية صدام
0 تعليق