رباب قُتل أبوها في حروب العراق التي لا تنتهي، وقُتلت أمها بانفجار عبوة إسلامية ناسفة، وتشرّد وضاع أقاربها الأباعد في أرجاء البلد السنية والشيعية والكردية، وهي لا تملك اليوم إلا أختاً تزوجت وسكنت مدينة خرنابات، وأختاً أخرى ترملت وتعيش بمدينة مندلي مع أبنائها. وعلى مفرق قادم من مدينة شهربان وينحدر إلى قرية ضباب والقرى والقصبات التي تحاذي مسار الأنهر على طول الطريق، وضعت رباب عربة تبيع فيها مشاوي تكة وكباب ومعلاگ “كبد”، وچلاوي “كلى”، وگلب “قلب”.
رباب حنطية البشرة بشعر كثيف تغمره شقرة طبيعية، وهي قوية البنيان مكورة الأطراف، وتعمل بجد منذ ساعات الفجر الأولى، فيتقاطر عليها الذاهبون إلى أعمالهم والعائدون منها باتجاه مصالح أخرى، لتجهّز لهم بسرعة مطالبهم، وليس عندها وقت لأن تعمل زلاطات ولا خضر، بل تشوي لحماً وبصلاً وطماطة، والباقي يتولاه الزبائن بأنفسهم. وقد تعلمت أن تقدم أطباقها للمشترين بأوانٍ ورقية وبشوك وسكاكين بلاستيكية لا تنظفها، بل تنتهي من أيدي الزبائن إلى سلال القمامة المبطنة بأكياس الزبل السوداء والمنتشرة حول منقلها الفاخر المنتصب فوق عربة أنيقة هي عين مطعمها المسافر الجوال. مع رباب ينشط كريم وهو صبي يتيم مجهول في العاشرة من عمره، يأتي معها ومع عربتها، ويغادر معها في تمام الساعة الرابعة عصراً. رباب لا تنتظر حلول العتمة، بل ترحل لحياتها بعد الظهر سراعاً. العمل وفير، والربح كثير، لكنها لا تريد قضاء كل أيامها تشوي للناس مآكلهم.
بالتكتك تأتي وتذهب رباب ومعها كريم، وهذا يحل أغلب مشكلاتها، ولا أحد يعرف أين تسكن، لكنّها تستأجر دكاناً خارجاً من بستان قريب، تضع فيه عربة المطعم حين تغلق بسطيتها. وسرعان ما نما عملها واتسع، وصارت تحتاج إلى من يمدها باللحوم يومياً، وقد عثرت على قصاب أمين في منتصف العمر يبدو طامعاً في الزواج منها، وصار القصاب يرسل لها اللحم لها 3 مرات في اليوم، عدى أيام الجمعة والسبت، بستوته زرقاء تحف بها النجوم والزهور والغصون البلاستكية، وكل ما عليها هو أن تدفع قيمة البضاعة التي تصلها، وتجهز السائق بقائمة طلباتها التالية، وهكذا تدور عجلة اللحم والشواء وتتراكم الثروة ويعم الخير.
مثابة عربة شواء التي كتبت عليها صاحبتها “رباب للمشاوي والكباب” باتت نقطة دلالة يتواعد عندها الناس ويلتقون، ليأكلوا المشويات اللذيذة ويمضوا إلى مصالحهم. وذات صباح جاءت للمكان أم علي، وهي أرملة قتلت زوجها حروب لا تنتهي، واستأذنت من رباب أن تفتح قرب عربتها، عربة أخرى للشاي والقهوة والعصير. واشترطت رباب على الوافدة الجديدة أن تكون عربتها بنفس أناقة عربة “رباب للمشاوي والكباب” الحمراء النظيفة، على أن يكون لونها أخضر. وهكذا ظهرت بعد أسابيع عربة “شاي وقهوة أم علي” بلون أخضر لامع، تزينها قناديل وفوانيس تنوس نيرانها ليل نهار. رائحة قهوة أم علي البرازيلية وشايها السيلاني لا يُعلى عليها، وهي تقدم المشاريب بأقداح ورقية وكرتونية، يُلقي بها الزبائن بعد رشفهم مشاريبها في سلال القمامة النظيفة التي تطوّق العربتين. وهكذا بات المفرق يعبق برائحة الشواء المحببة مختلطة بعطور القهوة والشاي، وكانت رباب تحرص على وضع قطع الشحم وجلافيط اللحم بين الفحم في نيران موقدها، لتعم رائحة الشواء وتجلب الناس من كل حدب وصوب. ولا يكاد يمر أحد بالعربتين دون أن يتوقف ليأخذ منهما ما يسرّ نفسه. أم علي جاءت معها بولديها علي وغسان وهما في الثانية عشرة والعاشرة ليعيناها بكل شيء. وسرعان ما اشترت لعلي تكتك جديداً أنيقاً، بات يستخدمه لنقلهم ونقل المشتريات من الأسواق إلى جايخانة أمه الجوالة. وفي الليل، استأجرت أم علي لعربتها مكاناً في نفس الكراج الذي تأوي فيه رباب عربتها.
وخلال أقل من عام، بنى خلف السلمان، العسكري المعاق المتقاعد، تنوراً في حديقة بيته بقرية الجلالي، وبات يجهز رباب بالخبز الحار طيلة اليوم، وكان ابنه عداي الذي بلغ السادسة عشرة هو من يتولى نقل الخبز، ونقل الطحين إلى التنور على مدى اليوم بشاحنة صغيرة (بيكاب) جديدة قرر الأبن أن يسدد اقساطها من خلال تشغيلها في المنطقة. إدارة العمل وتنفيذ الطلبات كان يتم بناء على طلبات الزبائن بهواتفهم الجوالة، ومنهم رباب. عالم آخر يتفتح في مفرق مدن ديالا الصغيرة المحصورة بين نهر ديالا وشاخة خريسان.
مع انتشار الرخاء وعميم الخير، نمت حول موقع عربتي رباب وأم علي أعشاب وادغال على حافات أشجار البساتين وأطوافها الطينية، وتكاثرت فيها الكلاب والجرذان والفئران، فيما صارت الغريريات تزور المكان ليلاً لتلتقط ما تخلف عن الناس من شحم وجلد وبقايا طعام غمره دسم اللحوم. وحارت رباب وأم علي في كيفية القضاء على هذا الحضور الحيواني غير المرغوب فيه، وهكذا احتكمتا إلى السموم للقضاء عليها، وهنا ظهرت مشكلة أجساد الحيوانات النافقة وسبل التخلص منها الوعرة، ثم اشترت رباب جهازاً كهربائياً صغيراً، قيل لها أنه يطلق أصوات فوق سرعة الصوت الطبيعية لا يسمعها البشر، لكن تسمعها الكلاب والحيوانات وتخاف منها فتغادر المكان، وهذا ما جرى، لكنّ التيار الكهربائي، كما هو حاله في كل العراق، كان متقطعاً غير منتظم، فيما أمست الكلاب والجرذان تهرب نهاراَ اثناء زعيق الجهاز الذي لا يسمع، ثم تعود إلى المكان غروباً بعد إطفاء الجهاز.
فجأة هجرت المكان الكلاب والجرذان والقطط والفئران، والغريريات المفترسة التي تزور المكان ليلاً، وساد الصمت في تلك البقعة لسبب بدا غامضاً أول الأمر، ثم تكشفت الأيام عن غزو الضِباب والعقارب للمنطقة وما حولها، والضِباب جمع ضب، وهو سحلية زاحفة تختلط على كثير من الناس مع الورل أخضر اللون، والمسمى “أرول” بلغة العراق، والحقيقة أنهما فصيلتان من جنس السحالي، لكنهما فصيلتان مختلفتان. على كل حال، تدور حول الضب قصص وأساطير، منها أنه يرضع الأبقار والجواميس فيسمم حليبها، وحين يلسعها يقتلها فوراً، ومنها إنه يبصق في عيون الماء والآبار فيسمم المياه، أو أنه يرافق الجن في رحلاتهم الليلية ويزور معهم المقابر فيفترس عيون الجثث التي دفنت تواً!
لكن أغلب هذه القصص تصدق على الأرول، أما الضب فهو زاحف مسالم غير عدواني، ولا يفترس اللحوم وكثير من الناس يربونه في البيوت كحيوان أليف، يتراوح طوله بين 40-43 سم، ولا يزيد وزنه عن 450 غراماً، ويعيش 15-35 سنة. غذاؤه الخنافس والنمل وسحلية سليمان وأبو بريص وحشرات أخرى، علاوة على، عشبة السلق وأوراق السبانخ وبعض النباتات الصحراوية ذات الألياف. وفي المنطقة، يقتل الرعاة الأرول حيثما شاهدوه، لأنه يغير على الماشية ليلاً حسب رواياتهم.
في البساتين القريبة من عربتي رباب وأم علي، انتشرت الأراول الخضراء، والضِباب صحراوية اللون، وحتى سحالي التيغوانا البنفسجية النادرة، كما ظهرت بكثرة عقارب سوداء وصفراء. ويعرف سكان المنطقة أنّ هذه الزواحف والسحالي والعقارب موجودة في البراري البعيدة على سفوح مرتفعات سانوبا وتلال زين القوس، أي بمسار المرتفعات التي تصنع حدود العراق مع إيران، لكنهم فوجئوا بها تتكاثر في هذه المنطقة دون سبب واضح، وعزا البعض ذلك إلى بقايا الطعام التي تتخلف عن مطعم رباب. هل لظهور الزواحف والعقارب علاقة باختفاء الكلاب والجرذان والفئران والقطط البرية؟
ثم بدأت الضِباب والأراول والعقارب تظهر في بساتين وحقول وبيوت قرى الجلالي والشطاوي وضُباب والحساوية وذيابة والعواشق. ويبلغ مجموع سكان تلكم القرى نحو 20 ألف نسمة، أغلبهم مزارعون وفلاحون ومربو مواشي ودواجن، وقد أقلقهم جداً ظهور الزواحف والعقارب بهذا الشكل المفاجئ. ودارت أحاديث غامضة مترعة بالشكوك عن درويش أقام تكية ومزاراً في قرية العواشق، وإليه ينسب كثيرون توافد السحالي والعقارب. ثم أوفدت مديرية صحة محافظة ديالا ودائرة البيطرة في المحافظة لجنة مشتركة لتقصي حقيقة الموضوع، ومعرفة مستوى التهديد الذي تفرضه هذه الظاهرة على حياة السكان وعلى سلامة مواشيهم.
وخلال عمل اللجنة البطيء المتعثر، كما هو حال كل وفد أو هيئة أو مشروع حكومي في هذا البلد المسكين، بدأت تظهر حالات تسمم حاد لدى الناس، وخاصة الأطفال الرضع، وتمكّن الأطباء من حصر سبب التسمم في الحليب المنتج محلياً، ثم جرى فحص عينات من ذلك الحليب، وكشفت التحاليل عن وجود سموم غريبة فيها، لم يستطع أحد تحديد مصدرها. ثم تمكنت الدكتورة ابتسام، وهي صاحبة ومديرة مختبر تحاليل في مدينة المقدادية، خريجة كلية الطب البيطري وحاصلة دبلوم عالي تحليلات مرضية من كشف سبب التسمم، وعزته إلى زواحف الأرول التي ترضع من الأبقار، أو تشرب من حليبها المخزون بطريقة غير محكمة، حيث أن لعاب الأرول سبب مباشر لتسمم الحليب، وحتى تسمم الأبقار. وأثار كشف الدكتورة ابتسام عاصفة شكوك ومخاوف، فأطلقت السلطات حملة مشددة لإبادة الزواحف والعقارب في المنطقة، وظهر التحدي الأكبر في تحديد مصدر تسرب تلكم الكائنات.
ثم ذاع بين السكان أنّ سبب هجوم الزواحف والعقارب هو عربة “رباب للمشاوي والكباب” وعربة “شاي وقهوة أم علي”، واشتكى بعض السكان لدى المجلس البلدي لقضاء شهربان “المقدادية” مطالبين بحلول جذرية، قبل أن تتفاقم الظاهرة وتصبح كارثة تدمر الناس وتقضي على مصادر رزقهم. والحقيقة غير ذلك، لأنّ من بث تلك الشائعة هو القصاب عدنان، الذي كان طامعاً في الزواج من رباب الكببجية لكنها رفضته بأدب، معلنة تفرغها لعملها وعدم رغبتها بالزواج، لاسيما أنه متزوج وعنده ولد وبنت، لكنه قد أثرى، وحين يثري الشرقي، يتزوج مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيمانكم. وذات صباح، صحا الجيران على صوت نحيب وعويل في بيت القصاب، وتجمع سكان الطرف على صراخ زوجته وأطفاله، ليجدوا عدنان جثة منتفخة وقد اسودّت أطرافها، وسارعوا بالجثة إلى المشفى ثم إلى الطب العدلي، ليتضح أنّ عدنان قد توفي بعد أن لدغته عقرب في الوريد الظاهر في صدغه، فتسرب السم سريعاً إلى دمه وقتله بلا هوادة. وبعد وفاته، صارت زوجته تعلن في كل مكان أنّ مصدر العقارب والسحالي هو مطعم رباب وجايخانة أم علي، ولابد من منع المرأتين من العمل في تلك المنطقة وأحراق المكان للقضاء على الزواحف والعقارب.
سلطات الشرطة والبيطرة والطبابة والتمريض، لم تجد دليلاً منطقياً يدعم تلك الاتهامات، لاسيما أن زوجة القصاب لم تدهن لهم السير، ولم تحلّي أفواههم!؟ فأعلنّ مسؤولوها بحزم أنه لا يوجد ما يدل على أنّ مصدر الزواحف والعقارب هو تلك البقعة من الأرض على مفرق طرق القرى.
ذات ظهيرة خريفية، أوقفت الدكتورة ابتسام سيارتها عند مفرق العربات، ونزلت لتتذوق مشاوي أم علي الشهيرة. وعرفتها رباب، وسارعت تقدم لها أجود أطباقها، وتبادلت المرأتان الحديث اثناء اعداد الطعام، وإبان تناول الدكتورة ابتسام للحم المشوي، روت رباب ما جرى لها، وكيف دهمتها الكلاب والجرذان والغريريات في بدء عملها فباتت تتعرض للزبائن وتهدد أمن المنطقة، مشيرة إلى أنها قد استفادت من جهاز يطلق أصوات لا نسمعها، بل تسمعها الكلاب والحيوانات فحسب، وبسبب أصوات هذا الجهاز، هربت الحيوانات، لكنّ هجوم الأراول والعقارب الذي يعم كل المنطقة بات كارثة لا يعرف أحد مصدرها، ولا سبيل لعلاجها. استرعت كلمات رباب انتباه الدكتورة، فطلبت منها أن تريها الجهاز المذكور، وسارع كريم يعرض للدكتورة الجهاز، فقلبته متأملة شكله، ثم صوّرته بهاتفها النقال، ورغم كرم وحفاوة رباب، أصرت على أن تدفع قيمة ما أكلته، وإزاء رفض البائعة الكريمة، اضطرت أن تدفع المبلغ إلى كريم إكراما لخدماته، وغادرت المكان على عجل. وفي مختبرها بمدينة شهربان، فتحت الدكتورة كومبيوتر مكتبها، وراجعت مصادرها الطبية والعلمية حول الأجهزة الصوتية، ثم توصلت إلى حقيقة مذهلة. الجهاز الذي طرد الكلاب والقطط البرية والجرذان هو نفسه جاء بالأراول والعقارب إلى المكان، وهكذا فإنّ القول بأنّ مصدر العقارب والزواحف هو عربات رباب وأم علي، قول صحيح لا غبار عليه!؟
في اليوم التالي، ذهبت الدكتورة إلى رباب، وابلغتها همساً أن جهاز طرد الكلاب، هو من جاء بالأراول والعقارب، ثم أوصتها أن تكتم الأمر، واخذت منها الجهاز كي تمنعها عن استخدامه، وابلغتها أنها ستعالج الأمر بطريقتها من خلال معارفها.
ثم اتصلت بمديريتي البيطرة ودائرة مكافحة القوارض والأوبئة، وطلبت منهم شن حملة تطهير فورية على الأعشاب والأشجار المحيطة بمكان وقوف العربتين، للقضاء على كل ما يمكن أن يكون سبباً لقدوم الزواحف والعقارب، ولدى نفي الادارتان لهذا الاحتمال ابلغتهم الدكتورة أنها زارت المكان بنفسها، وشاهدت فيه فئراناً وجرذاناً مسببة للأوبئة والأمراض، ولابد من مكافحتها بشدة. وهذا ما جرى، وشنّت السلطات حملة قضت على كل ما هو حي في تلك البقعة، حتى أن أغلب الأعشاب واشجار القوغ والصفصاف والكالبتوس قد ذبلت واصابتها صفرة كامدة تنبئ بقرب هلاكها ما لم تجد السماء بأمطار تغسل عنها تلكم السموم وتزيل آثارها المدمرة.
بعد بضعة أسابيع، اختفت تماماً الأراول والضباب والعقارب، ولمس السكان اختلافا بيّناً في بيئتهم. وتفتحت الحياة وأزهرت آمال الناس في تلك الديار، وبقي السرُّ محفوظاً في صدر المرأتين.
*هذه قصة من وحي الخيال، وأيّ تشابه مع الواقع هو مجرد صدفة.
بون / شتاء 2022
0 تعليق