قنبر تلميذ مشاكس. التلامذة والتلميذات يشكون منه، فهو دائم الشجار، دائم الصياح، متهرب من واجباته المدرسية، ومتأخر دائماً عن دخول الصف، سواء كانت الحصة أول الدروس أو آخرها. غالباً يشكو المعلمون والمعلمات منه في اجتماع المعلمين الشهري والفصلي والسنوي. قنبر ما زال في الصف الثاني ابتدائي ولكنّ سلوكه ينبئ بكارثة.
أسوأ ما في برد الصباحات الشتائية القريرة التي تدهمني في الصف الثاني، كان منظر قنبر بقميصه الخاكي الصيفي الوسخ المهترئ، وبقايا حذاء تاريخي ينتعله ربما مذ وطأت قدماه الأرض، وهو حذاء لم يبق منه، سوى قصاصتي جلد سوداوين تعتعهما الزمن لتستقرا على شسعي نعل تدنيا متصاغرين حتى باتا بمستوى الأرض، وهكذا يخال الناظر إلى الحذاء أن قنبر ينتعل قطعتي جلد سوداوين بلا شسع نعل!
جبين قنبر مركب من فصين منتفخين في جبهته، يحجبان تجويفاً لحدقتي عينين لونهما رمادي كأنهما عينا عجوز تقادم عليه العمر. الحاجبان متفرقان في كثافة خصلات الشعر، ومجتمعان في المنتصف في عقدة غريبة، تجعل من قنبر “عاقد الحاجبين” لكنه دون “جبين لجين”، بل يبدو جبيناً من قصدير صدئ! أما اذناه فرفيعتان نافرتان مزرقتان، تتدلى شحمتاهما بشكل منفر لتصلا رقبته مثل قرطين من لحم!
لا يرتدي قنبر في عز الشتاء معطفاً، وبدا واضحاً للجميع أن أباه لا يملك ثمن المعطف، وهكذا أهدته المدرسة في احتفال عيد الفطر، معطفاً شتوياً غليظاً أنيقا، باللونين الأسود والأزرق، وقد ارتداه قنبر مرة واحدة ولم يعد يرتديه، وكلما سألناه عن المعطف يقول إنه نسى أن يرتديه، وفي بعض الصباحات تكون درجة الحرارة 13 تحت الصفر، ومع ذلك يفد قنبر إلى الدرس بقميصه الأشعث الخاكي بشكل يثير الرثاء. ولدى السؤال من أبيه عن مصير المعطف ولماذا لا يرتديه قنبر، أجاب الأب إنه لا يعرف شيئاً عنه، كما إن قنبر يملك 3 معاطف، ولا يعرف الأب لماذا لا يرتدي الولد أيّاً منها؟ فالأب يغادر البيت في الخامسة صباحاً إلى دكانه، والولد يستيقظ لوحده ويتناول لقمة الإفطار وحده ويرتدي ملابسه وحده ويجمع كتبه وحده ويأتي الى المدرسة التي تبعد عن بيته نحو كيلومترين وحده!
أصل الحكاية أن قنبر قتل أمه ساعة مولده. تلك ساعة سوداء على الأب المسكين الذي كان يعشق أم قنبر، وعلى الوليد المشوه. وكانت معاناة الأب في الليلة الأولى هو حليب الرضاعة، من أين لأب المفجوع بزوجته القتيلة في ريعان شبابها بحليب يرضعه قنبر؟ وجاءت النجدة من عمة قنبر وقد كانت مرضعة، فألقمته ثديها طيلة الليل لتشبع جوعه الوليد. لكن عمة قنبر رحلت قبل طلوع شمس الصباح إلى بيتها، فهي أم لثلاثة أطفال أصغرهم ما زالت رضيعة تحتاج الحليب.
بدأ قنبر ساعاته الأولى في الحياة بحرمان مطلق، بلا أم تحتضنه، وبلا حليب يسد جوعه وعشه، كان على الأب في قريته الوادعة بأعلى الجبال أن يحتار في حل يطفئ هذا الحرمان. وهكذا نصحته أمه العجوز أن يبتاع لطفله رضّاعة ومسحوق الحليب السويسري نيدو، ليؤمن له الغذاء على الأقل ثم يفكر في حل لحل مشكلة غياب الأم.
قنبر الصغير رفض بشدة مسحوق الحليب والرضاعة البلاستيكية، وهكذا، أجبر أبوه على البقاء إلى جانبه، ليترجى امرأة الجيران أن ترضعه لعله يسكت، وهكذا كان، فشبع قنبر ونام راضياً عن عالمه.
ومر الأسبوع الأول من عمر قنبر كالجحيم على أبيه، فالمشكلة هي أين يجد مُرضعة له في القرية الصغيرة؟ ثم اقترحت عليه أمه حلاً نسوياً نموذجياً، وهكذا أعلن الأب أحمد في مسجد القرية حاجة ابنه الرضيع يتيم الأم إلى حليب الأم لأنه يرفض مسحوق الحليب، واعداً بأن يمنح كل أم متبرعة برضعة، شيئاً من النقود. وعصر ذلك اليوم، جاءت إلى محل الكماليات الفقير الهزيل الذي يملكه ثلاث نسوة عارضات عليه كاسات من حليبهن، مقابل دراهم قليلة.
وفي اليوم التالي، تدفق الحليب مدراراً على الأب المفجوع في محله، واحتار أين يذهب به، فنصحته أمه أن يضعه في البراد، ووعدت هي أن تقدمه للرضيع بالرضاعة الزجاجية ما دام يرفض الرضاعة البلاستيكية.
وهكذا حلت أزمة قنبر الغذائية بالمال، فالمال فيه حل لأغلب مشكلات العالم. لكن مشكلات من نوع آخر باتت تظهر في حياة قنبر كلما نما وكبر. وحين بدأ يذهب إلى المدرسة، تضخمت المشكلات وتفاقمت، ففي كل يوم يخوض قنبر معركة، وتخلص المعركة إلى أنه قد تقاتل مع أخيه بالرضاعة! كل صبيان وبنات القرية هم أشقاء قنبر في الرضاعة، وهذا وضع لا شبيه له في العالم.
وكلما اختصم قنبر مع صبي في صفه، جاءت أم الصبي تعاتب أبا قنبر في بيته وتقول له إنّ قنبراً قد ضرب أخاه، وهل جزاء إحسانها بإرضاعه وتنشئته، أن يضرب شقيقه في الحليب؟
احتار قنبر واحتار أبوه، فالأب واحد، والأمهات بالعشرات، وربما كان سبب ذلك طقوس الدين التي تعتبر الرضاعة سبباً للأخوة. وفي كل معركة، بات الأب ملزماً بالاعتذار لأحدى أمهات قنبر، وكأنّ الرجل قد تزوج كل نساء القرية!
تفاقم الأمر حين كبر قنبر، فهو لا يعرف من العالم غير أهل قريته، وقد ترك المدرسة وانضم لأبيه في دكان الكماليات الشعبية الذي يديره بطرف الناحية، وبذا لم يزدد عالمه عن عالم أبيه المحدود بالقرية.
الأب رفض بشدة أن يتزوج امرأة أخرى بعد وفاة زوجته، فكانت هذه لعنة إضافية للبيت الذي بات بيتاً رجالياً بامتياز!
وحين آل قنبر إلى سن البلوغ وتجاوزه لسن الرجولة، أراد الأب أن يزوجه لتعود الأنثى الى البيت الذي خلا من نفسها سنين طوال، فبدأت محنة من نوع آخر، إذ أنّ قنبراً عاشق!
العشق بذاته ليس جريمة، لكن عشق قنبر، ككل شيء في حياته التائهة بات مشكلة! فالبنت التي عشقها واسمها سحر خرساء صماء، وهي عيوب خلقية فيها قد لا يراها البعض عيوباً، وهذا جميل.
عرف قنبر سحراً، وهي تتنقل كل يوم بين بيتها في أقصى القرية فوق قمة صخرية قليلة الارتفاع وبين مطحنة القرية، حيث تنقل على عربة هرمة أكياس الحنطة، لتعود بها دقيقاً أسمرَ تعبق رائحته، فيما يكسو جمالها الصامت بياض الدقيق فتبدو كفتاة المهرج الهاربة من مهرجان أو من حلبة سيرك!
سحر المغلفة بالطحين، أيقونة جمال صامت، عشقها قنبر رغم شكلها المضحك، فهي ترتدي سروالاً رجالياً عتيقاً مرتقاً أسود، وقميصاً عسكرياً بكتافيات صلبة عتيقا حائل اللون، والدقيق يغمرها من رأسها حتى حذائها المصنوع من الكاوتشوك الأسود الرخيص، حذاء القرويات. رغم كل هذا عشقها قنبر، وبات يساعدها في إيصال حمولة الدقيق إلى بيتها على بردعة فوق ظهر حمار يكتريه خصيصاً لهذا الغرض، ويغادر دكان أبيه حتى يصل بالحمار والحمل وصاحبته إلى بيتها.
ثم تكلم إلى أبيه وباح له برغبته في الزواج من سحر، وتعجب الأب من تعلق ابنه بفتاة خرساء تكد ليل نهار، لكنّه في النهاية أنساق لرغبة قنبر، وقرر أن يرسل بعض النساء للحديث مع أمها، وهكذا ذهبت ثلاث من مرضعات قنبر لخطبة البنت، وهن بمثابة أمهات هذا الرجل العجيب!
في بيت سحر، تفجرت مفاجأة غير منتظرة بوجه الخاطبات، فأمّ سحر التي يريد أن يخطبها قنبر لتكون زوجة له، قد أرضعته، وبات على هذا الأساس شقيق ابنتها ولا تحل له، ولا يجوز زواجه منها!؟
حين ابلغوه بهذا، تهدم الحلم الجميل، وتحول قنبر من شاب يغمره الفرح ويضحك لأتفه الأسباب، إلى رجل هرم حزين، لا يجد ما يداوي به حزنه سوى التبغ ومزيد من الدخان يحرق به رئته بعد أن ضاع الأمل.
ذات يوم، كنت ماراً بدكان أحمد، لأجد تلميذي المشاكس القديم قنبر جالساً في برد الشتاء بباب الدكانة وهو ينفث بحرقة دخان سجائره، ويتطلع مهموماً صوب مطحنة القرية. وخطر لي أن أسلم عليه، فتوقفت أحاوره، ونهض الشاب الذي كان مرحاً من مقعده، وصار يتحدث إليّ وهو يتجنب النظر في وجهي، وتلك عادة أغلب من كانوا تلامذتي، حرصاً منهم على إبداء الاحترام لمعلمهم القديم. وانتهزت فرصة تواضعه الظاهر لأسأله عن سبب حزنه، وانغماسه في التدخين الضار بالصحة، فتنهد متحسراً وشرح لي ما جرى، وكيف تحولت من كان يحلم بالزواج منها إلى أخت له بالرضاعة!
أثار حزنه عندي مشاعر التعاطف، فعدت أؤكد له أن الإرضاع من ذات الأم لا يجعل الرجل والمرأة اشقاء إلا بشروط معينة، وعلى حد علمي فإنّ الفقهاء يحددون عدد الرضعات الموجبة للشبع ب 15 رضعة، يكون بعدها الأثنان أشقاء، فهل تحقق هذا العدد من رضعات أم سحر لك؟
نظر قنبر إليّ ببلاهة مشوبة بالأمل وقال: من أين لي أن أعرف جواب هذا السؤال؟
قلت له مهدئاً: أرسل النسوة الثلاث ليسألن أم الحبيبة الصامتة عن عدد الرضعات التي منحتها لك، هذا مهم جداً على حد معرفتي!
وفارقته مؤكداً عليه أن يوافيني بالأخبار سِراعاً.
بعد أسبوع مررت عامداً بدكان أحمد للكماليات لأعرف ما آل إليه حال قنبر ومشروع زواجه، فرأيته جالساً أمام المحل وهو يدخن ساهماً، واقتربت منه بالسؤال عما آل إليه حال خطوبته فقال والحيرة تغرق آماله: تقول الأم إنها لم ترضعني سوى مرتين أو ثلاث لا أكثر لأنها لم تكن تدر ما يكفي من حليب لابنتها سحر آنذاك، لكن الخاطبات يقلن، إنّ رضعة واحدة تجعل الولد والبنت شقيقين، ولست أدري كيف أحل هذه المشكلة!؟
ابتسمت له وأخذت من يده لفافة التبغ، ودعستها تحت حذائي قائلاً: قنبر يا ولدي، لا عليك بكلام النسوة، أذهب إلى الشيخ حسنين وهو الذي ينظم عقود الزواج، واروِ له ما جرى، واستمع إلى ما يقول!
نظر قنبر بعين دامعة إلى لفافته التي سحقتها، ثم نظر إليّ بعين أترعها الرجاء وسألني ملتمساً: انا أخجل أن أفعل ذلك وحدي أستاذ، تعال أنت معي إلى الشيخ محسن لتسأله أنت عني؟ من فضلك، لن أنسى لك هذا ما حييت؟
ضحكت، وامسكت بقنبر من يده وأنا أقول: اسمه حسنين وليس محسن، ولا مانع عندي أن نذهب إليه معاً، انتظرني غداً الظهر وقت الصلاة أمام باب المسجد، وسأكون هناك لنكلم الشيخ بعد الصلاة.
وكما توقعت، فقد أكد الشيخ حسنين كلامي، وقال إن الرضاعة يجب ألا تقل عن 5 وبعضهم يقول إنها 15 رضعة، ليتواءم الصبي والبنت فيكونا شقيقي رضاعة.
انفرجت أسارير قنبر المعقدة، وانبسطت تضاريس وجهه الغريبة لهذا التأكيد، وذهب راكضاً إلى أبيه ليبلغه بما جرى.
بعد أسابيع، احتفلت القرية بزفاف قنبر على سحر، وانتقلت الفتاة لتستقر في بيت قنبر، الملحق ببيت أبيه. وبدأ الاثنان حياة جديدة ستزيل عن قنبر المتعب لعنة المرضعات.
ملهم الملائكة
مبروك وتهانينا لقنبر بيوم عرسه ..مشكلة الرضاعة في زمن قبل انتشار حليب الصناعي كانت مشكلة حقيقية
ةتعرقلت كثير امور بسببها.
تحياتي
شكرا لمروركم وتعليقكم المفيد دكتور مؤيد. وما زال جزء من المشكلة قائماً حتى اليوم بسبب التشريعات المدنية والدينية.