منذ أسبوع نحن بلا ماء، حوضية نقل الماء الخاصة بمقرنا دمرتها قذيفة، وفرّ سائقها العريف المطوع المشاكس من الخدمة، فبقي الجيش عطشاناً في قيظ حزيران بين البصرة والمحمرة. عطش النهار لا تطفئه ليالي الرعب.
في اليوم الثالث عشر على أبواب المحمرة، تلاشت قوة الوحدات، ووصلت نسبة الغياب والهروب إلى 40 بالمائة. غالباً، كل من ينقل جريحاً إلى المستشفى، لا يعود لوحدته بل يذهب إلى البيت أو يتوارى.
القطعات قادة وآمرين وضباطاً وجنوداً، لا يعرفون واجباتهم، وفرق الإعدام تترصد الناجين من القتل في الحرب أو الأسر، فتعدمهم، ويا للمفارقة، ليس أمامنا سوى أن نموت أو نموت بلا معنى.
نحن نقاتل في حرب لم نعرف لماذا بدأت، ولم نختر أن نكون فيها، وليس لنا أن نشارك في قرار إنهائها، نحن مجرد رصاص وتروس في ماكنة الحرب، ومثلنا الإيرانيون مقابلنا، لكنّ تفوقهم العددي الساحق علينا، يبدو أنه سيحسم الحرب، ويمنحهم نصراً بطعم هزيمة الدم.
كانت خيبتنا الكبرى حين وزعت سيارات فاخرة للضباط، ومنحوا قطع أرض سكنية وقروضا لبنائها، فيما منح الضباط القادة قطع أرض زراعية اضافة للقطع السكنية ليقيموا عليها مشاريع زراعية انتاجية ! وبقينا نحن الاحتياط والمجندون خارج بركات القيادة، وهناك قصة متداولة في الجيش لا أعرف مدى صدقها، لكنّ يقال إنّ أحد الجنرالات، سأل صداماً وهو في مزاج رائق، لماذا لا تشمل مكارم القيادة الضباط الاحتياط والمجندين؟
فضحك “عمود البيت” ضحكة عريضة اهتزت لها أكتافه، ويا للعجب كيف يهتز كتف الرجل وهو يضحك!؟ ثم أنزل سيكاره الكوبي الفاخر من شفتيه وأجابه:
القضية مثل بيت عدهم كونه (معركة)، أهل البيت زلم ونسوان يفازعون ويكاونون (يحاربون)، وياهم يكومون (يقوم) بعض الجيران الطيبين ويفزعولهم (يقاتلون معهم) العسكر هم أهل الكونه، أما المجندون والاحتياط ضباطاً وجنوداً فهم جيران أهل الكونه.
لو صدق هذا الكلام فهو تزوير مطلق للحقيقة، فمن قاتل العدو هم الجنود المكلفون والاحتياط يقودهم الضباط المجندون والاحتياط، من الدورة 26 وصولاً إلى الدورة 38. نسبة الجنود وضباط الصف المتطوعين إلى نسبة المكلفين والاحتياط لا تتجاوز 8% من عديد الجيش.
كنت تحت جسر الشلامجة المشتعل كالجحيم، أتذاكر مع ما تبقى من عقلي بهذه الخواطر، وأمسك نفسي وأنا في الرمق ألأخير، أن انفجر وأطلق العنان لغضبي. في كل لحظة أفكر في الخطوة التالية بعد لحظة، هل أنجو من هذا الجحيم، ماذا لو أسرت وذهبت لدولة المعممين الملائية؟ الصلاة والصوم واللطم عندهم فروض اجبارية وخاصة في أوساط العسكر!
أكثر سؤال صعب يلح علي: لماذا لا يستثمر الإيرانيون نصرهم الساحق في المحمرة ( قتلوا أكثر من 10 آلاف جندي عراقي، وأسروا 20 ألف كما تقول أرقام تتداولها ألسن القوات المسلحة)، وفي كل هجمة على قواتنا يكسبون أرضاً، حتى وصلوا إلى حدود البصرة، لم لا يستثمرون النصر ويحتلون البصرة؟
خلال هذه التداعيات، تتساقط القذائف والرصاص على الجسر، وقد تواريت تحته، في أقصى زاوية من انفتاح مقر لوائنا أو ما تبقى منها. جاءني أحد الجنود راكضاً، وأخبرني أن مقدم اللواء يطلبني بشكل عاجل، ذهبت إليه، فسلمني ظرفاً كتب عليه “سري للغاية وشخصي وعلى الفور” وطلب مني أن اذهب به إلى رئيس أركان الفرقة 11 فوراً.
خرجت لا ألوي على شيء، وعلى مدخل عتبه، أوقفتني مفارز علي حسن المجيد، وسألوني عن وجهتي، فأريتهم الكتاب، وظهر بينهم جندينا عبد ال… فهمس في اذن أحدهم، وتركني الآخر أمضي في طريقي.
في مقر الفرقة، ذهبت إلى غرفة الحركات، وسألت عن رئيس الأركان، فأدخلوني الى قاعة مبردة بشدّة كأنها صالة سينما أنيقة في يوم صيفي. شاهدت ضابطاً برتبة عقيد ركن، أبيض الوجه، رقيق الملامح، أنيق المظهر بقيافة زيتوني مكوية بعناية، وقد جلس إلى منضدة الحركات، وهو يقرأ في مجلة أو شيء من هذا القبيل، وحين أديت التحية وقدمت نفسي بصوت عالٍ، نظر إلي باحتقار وقال “ما هذا الوضع، كيف تسمح لنفسك وأنت ضابط أن يكون مظهرك بهذه البهذلة؟”
وكان عليّ أن أمسك أعصابي، لئلا أشهر مسدسي وأقتل هذا الجنرال اللئيم في مكانه، وتماسكت ولجمت غضبي فأجبت بعبارة قوية متحدية “للأسف سيدي، لم تنشأ لنا حمامات في الشلامجة، لذا لم استحم وأكوي بدلتي لآتيكم بما يليق بكم!”
نظر إليّ بتحدٍ، ثم تجاهل ردي وقال بحدة: تفضل ماذا تريد؟
مددت يدي بالمغلف محاولا إيصاله له، فلم يرفع يده بل قال باحتقار” نعم، نعم، سلمه إلى قلم الحركات”!
قلت له وقد بلغ حنقي أشده: إنه سري للغاية وشخصي وعلى الفور، هل أسلمه لقلم الحركات، ومن يعطيني كتاب الاستلام إذا؟
نهض من مقعده واقترب مني، فأخذ الكتاب بيده ثم نظر إليه، وقال مخاطباً نفسه أكثر من توجيهه الحديث إليّ “في النهاية لن يفتحه سوى القائد، إنّه شخصي وسري للغاية، والقائد الآن ليس موجوداً!”
سارعت أقول له” طلب مني آمر اللواء إيصاله إلى رئيس الأركان شخصياً!”
نظر في وجهي وقال” أنا رئيس الأركان، وصل الكتاب أخي، شكراً لك!”
قلت” أريد كتاباً يؤيد استلامكم الكتاب، ويعيدني إلى وحدتي، الطريق تسيطر عليه مفارز مقاومة المتسللين!”
قال غاضباً بصوت عالٍ” أخي لا أستطيع أن أفتح الكتاب لأنه شخصي، يعني بريد السيد القائد، ولكي أعطيك كتاب استلام، لابد من الإشارة إلى رقم وتاريخ كتابكم، فماذا نفعل؟” كانت الدماء قد تصاعدت لوجهه بسبب غضبه، فيما اشتعلتُ غيظاً لهذا الروتين الذي يتجاهل حياة الناس، فقلت يائساً:
“متى يمكن أن يراه السيد القائد، سأبقى انتظره هنا في مقر الفرقة، يا سيدي أنا لا أستطيع عبور جسر عتبه دون كتاب، مفارز مقاومة المتسللين لا تسمح لأحد بالعبور، كما أن كتابنا سري وشخصي، لابد من أجابته بكتاب يؤيد الاستلام “.
قال بصوت عالٍ: يا أخي القضية قانونية، لا أستطيع أن افتح مغلف معنون شخصي! انتهى الأمر. تفضل أفعل ما تشاء!
أديت التحية، وخرجت حائراً، ثم قررت أن أنتظر وصول القائد، فذهبت إلى غرفة ضباط الارتباط، وهي ملحقة بقاطع الحركات، ووجدت فيها ضابطين، أحدهما ضابط من دورتي هو الملازم م. ع من مقر لوائنا (ضباط الارتباط وظيفة يقوم بها ضباط من مقرات التشكيلات، منسّبون الى قيادات الفرق والفيالق خلال المعارك، وتتلخص في نقل الرسائل بالغة السرية والشخصية بين المقرات). جلست اتحدث لهما وأشرح محنتي الصعبة، فاستماحا له العذر في تلكؤه بسبب الظروف الصعبة التي يمر بها الجميع.
ثم سألتهم من يكون رئيس أركان الفرقة فأجابني ابن دورتي إنه عقيد ركن فوزي حميد العلي.
بقيت عندهما نحو ساعتين، حتى سمعت صوت سيارات تقف أمام غرفة الحركات، ثم صوت تحيات وقرع أحذية شديدة على الأرض وقبضات تضرب أعقاب البنادق بشدة، فاستنتجت أنه موكب القائد، انتظرت نحو ربع ساعة حتى دخل الموكب وهدأت الحركة. فسألت صاحبي من يكون قائد الفرقة 11، فأجاب إنه “الفريق الركن محمد عبدالقادر، وقد التحق بمنصبه منذ 3 أيام”.
بعد نحو 10 دقائق، ذهبت مرة أخرى إلى غرفة الحركات، فمنعني الحرس والانضباط من الدخول لوجود السيد القائد، فأكدت لهم أني جلبت كتاب شخصي من لواء 23، وأريد كتاب استلام وكتاب إعادة لي فقد تأخرت عن اللواء، وأكدت عليهما أني هنا منذ 3 ساعات بانتظار الكتاب!
دخل الانضباط، وعاد بعد دقائق ليقول لي “يقول السيد رئيس الأركان، خذ كتاب الإعادة من قلم الحركات”.
ذهبت إلى قلم الحركات، فقال نائب الضابط المسؤول عن القلم إنه لا علم له بما جرى، فرجوته أن يذهب إلى رئيس الأركان، ليأخذ منه صورة الكتاب ويعد ديباجة كتاب عودتي، لأني هنا منذ 3 ساعات.
ذهب الرجل، وعاد خلال دقائق، وهو يخبرني أن الكتاب في بريد القائد، وغير معلوم متى ينظر القائد في بريده!
أسقط في يدي، ولم أعد أعرف كيف أتصرف. فخرجت من قلم الحركات، وذهبت إلى ملجأ ضباط الارتباط، وطلبت من الملازم م أن يؤمن لي اتصالاً هاتفياً مع مقر لواء 23، فأخذني إلى أحد الملاجئ، واتصل ببدالة الفرقة وطلب منها مقر اللواء، وتكلمت مع بدالتنا، وطلبت مقدم اللواء، ورويت له ما جرى، فسألني من هو رئيس أركان الفرقة، فأجبته أنه عقيد ركن فوزي حميد العلي، فطلب أن يكلمه، وقلت لزميلي أن يحولوا مقدم اللواء إلى رئيس أركان الفرقة، وبعد نحو ربع ساعة، اعدت الاتصال بمقدم اللواء، واستبينت منه الموقف فأعلن أنّ علي الانتظار حتى يرى السيد القائد البريد، وهكذا عدنا إلى نفس النقطة. ثم قلت لزميلي ضابط الارتباط أين يمكن أن أستريح، لاسيما أنه من أهل البصرة، وعرضت عليه أن ننزل الى البصرة كي استحم، وآكل شيئا مادام من غير المعلوم، وضع البريد في الفرقة.
رحب الرجل بمقترحي، ورافقني بسيارتي إلى البصرة، حيث استضافني في بيته قرب ساحة أم البروم. وأرسلت سائقي علي، وهو بصري أيضاً، في استراحة عند أهله في حي الجمهورية، واسترحنا في بيت صديقي وابن دورتي وابن لوائي حتى الساعة السادسة مساء. كانت القذائف تتساقط على البصرة، والوجوم والخوف يخيم على الناس. تناولنا طعام الغداء، وأخذت دوشاً، وأسمعني أشرطة كاسيت لأغان فؤاد سالم، وأغان خليجية، في جو بصري مفعم بالود، فخرجنا لأربع ساعات من جو الحرب، ولا يتخيل الإنسان، أنّ حربا طاحنة تدور على بعد 10 كيلومترات من هذا المكان.
في السادسة عدنا معاً إلى مقر الفرقة، وذهبت إلى قلم الحركات، فوجدت كتاب الاستلام وكتاب عودتي جاهزين، أخذتهما وذهبت إلى مقر اللواء، كان الوقت يقترب من الغروب حين وصلت جسر عتبه المخيف، ومرة أخرى صدمني منظر الإعدام الرهيب، فعلى نخلتين تهدلت جثتا جنديين ترك الرصاص فيهما عشرات الثقوب الدامية. قرب الجسر كانت صبية في الرابعة أو الخامسة عشر من العمر، تلطم على رأسها، وتهيل من الأرض تراباً وتحاول أن تلقي بنفسها تحت عجلات السيارات والدبابات المارة من وإلى الشلامجة، فيما التأمت حولها مجموعة نسوة، يندبن وهن يمنعنها من الانتحار اليائس. يبدو أن أحد القتيلين من أسرتها. يمر الجيش المهزوم بهذا المشهد ليل نهار، والرعب يفاقم الهزيمة. سياسة الدولة إرعاب الجيش لإجباره على القتال، وسياسة الجيش الفقير الاستسلام للعدو.
وصلت مقر اللواء، فأعادني المشهد المخيف إلى ما نحن فيه، لكن الغريب، أن شدة الرمي والقصف قد خفت إلى حد كبير.
تلك الليلة، خيم على آلاف القطعات المهزومة المنهكة المرتمية خلف السدة الحدودية صمت لا يقطعه سوى رشقات رصاص أو قذيفة هاون تسقط هنا وهناك. هدوء الليل أجبر الجيش المتعب المهزوم أن ينام، الجبهة بأكملها كانت نائمة. ويخرج بين حين وآخر مقدم اللواء، الرائد الركن ن.ع.ش وهو يصرخ” “يول أين الحراسات، يول هسه يهجمون علينا ويذبحونا، يول العدو قريب، قريب جداً”.
ولكن الرائد الركن ستار، كان بين النائمين والنقيب همام، بل كل القطعات أمامنا التي تمثل حجابات القطعات كانت تغط في نوم مشوب بالرعب. في نحو السابعة صباحاً ظهر آمر اللواء بيننا، وتكلم بهدوء مرتبك مع مقدم اللواء، ثم غادنا بسيارته، وبقينا نحصي ما تبقى لنا من لحظات الحياة في يوم كئيب غامض آخر.
ملهم الملائكة / فصل من كتاب حيسن مشينا للحرب
0 تعليق