تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

ماثلاً أمام محكمة الثورة المرعبة

مارس 14, 2023 | 0 تعليقات

ها أنا أنتظر مع المنتظرين في باحة محكمة الثورة سيئة الصيت، والهلع والأسئلة تجتاحني حول كيفية وصول قضية عسكرية بسيطة متكررة ويومية إلى هذا المستوى المرعب من القضاء. يخفف من هلعي وجود ضابطين آخرين من وحدتي معي في هذا الموقف.

في قاعة انتظار محكمة الثورة في أبو غريب، نحو 60 إلى 80 عراقياً، مدنيون وعسكريون، وهناك عدد من عناصر الانضباط العسكري وعناصر انضباط الشرطة والشرطة والأمن، يقومون بتنظيم العمل والدخول إلى المحكمة. قاعة الانتظار تملؤها مصاطب جلوس منثورة بشكل عشوائي لكنها غالباً غير متقابلة! 

استدعيت إلى هذه المحكمة بصفتي شاهد في قضية عسكرية، لكنّ الرعب يأخذني، فالمواقع قد تتبدل ولا أحد يعرف مزاج القاضي المرعب مسلّم الجبوري. معي في القضية م. أول خلف بصفة مشتكي، وم. أول ثائر بصفة شاهد. لا نعلم متى سندخل إلى القاضي المرعب، وهناك قول شائع بين العراقيين، أن من يدخل إلى مسلّم الجبوري (ويدعوه معارفه بكنيته أبو أفكار) لابد أن يخرج بعقوبة، سواء كان مشتكياً أم شاهداً أم مظنوناً! لذا كان الخوف يلفنا نحن الثلاثة ونحن نتهامس محاولين عدم الكشف عن مشاعرنا.

ثم بدأ التوتر يخف، حين دخلت صالة الانتظار، 3 بنات وأمهن، فبدأت أحدى البنات ترمقنا بنظرات ذات مغزى، واستقرت على أحدنا وهو الضابط الأشقر م.أول ثائر، فبدأت بينهما مسيرة الهمسات والغمزات والصمت الرهيب كما تقول نجاة الصغيرة.

وانشغلنا أنا وم. أول خلف بالحديث عن عموميات العمل العسكري، وفجأة تقدم أحد عناصر الانضباط العسكري، وسلّم بشكل حميم على زميلنا م أول ثائر، واتضح أنّه يعرفه، فهما من قرية واحدة. ثم ما لبث أن خفض رأسه بهدوء، وأسرّ شيئا في أذن زميلنا، ثم انصرف. وسرعان ما تغيرت سحنة ثائر بعد كلام الانضباط معه، وما لبث أن غيّر مكان جلوسه بحيث بات ظهره للبنت اللعوب. وسألناه عن حقيقة ما جرى، فانحنى يهمس بصوت خفيض: “إنّها مصيبة، هؤلاء ثلاث أخوات وأمهن، متقدمات بشكوى إلى القانون بشأن قيام أبوهن بمعاشرة بناته جنسياً، وافتضاض بكارة اثنين منهن، وباتت الصغيرة حبلى منه، والصغيرة هي من كانت تغمز لي، شوف المصيبة شلون! القضية وصلت للرئيس صدام حسين، فأحالها إلى محكمة الثورة. لكنّ معلومات الأمن والشرطة كشفت أنّ البنات يمارسن الدعارة وأمّهن تلعب دور القوادة لتشغلهن، والأب الكبير المريض رافض لهذا العمل، وقد حرّم عليهن الخروج، وقطع هاتف البيت، وامتنع عن إعطائهن مصرف للبيت ولغيره، ومنعهن من الذهاب إلى المدارس والعمل، من هنا قررن أن ينتقمن منه بهذه الشكوى الفظيعة، لكن الأمن يعجز حتى الآن عن اثبات هذه المعطيات اللاأخلاقية بشأنهن، ولهذا يؤجل قاضي محكمة الثورة منذ 3 سنوات البت في قضيتهن، لكن المتضرر بات الأب، فهو ماكث في التوقيف منذ 3 سنوات. شوف بالله، وهي ميخيله عليّه وتأشر وتغمز، خوش مصيبة والله”!! ضحكنا لكلماته، وبقينا نتكلم، حتى حان دور قضيتنا، فأبلغنا الانضباط أننا سندخل على القاضي لندلي بإفادتنا. وجرى استدعاء المشتكي أولا، ثم الشاهد م.أول ثائر، ثم جاءت نوبتي. ودخلت مرتعدا إلى المكان الذي يخرج أغلب العراقيين منه إلى منصات الإعدام، أديت التحية وقدمت نفسي ووقفت حيث دلني الانضباط أمام القاضي مسلّم الجبوري، وهو رجل ناحل في أواخر اربعينيات عمره، عيناه جامدتان كأنهما عين ميت!

قال القاضي: تقدم إلى أمام، وضع يدك اليمنى على المصحف، وردد القسم!

فعلت ما طلب مني، وبدأ أحد أعضاء هيئة المحكمة يتلو القسم الرسمي وأنا أردد خلفه، ثم قال سألني القاضي أن أروي ما جرى يوم الواقعة.

فبدأت بالقول: هذه الواقعة جرت مطلع عام 1981في قرية السترة قاطع سربل زهاب، قبل أن ينتقل لواؤنا إلى البصرة، وقد حصلت مشادة بين المتهم جندي مطوع ع. ه. وبين م. أول خلف الجبوري الذي كان يأخذ إفادته في مجلس تحقيقي يترأسه هو ونحن أعضاؤه. ونتيجة المشادة، هوى ملازم أول خلف على كتف المتهم الواقف أمامه بمسطرة صغيرة من مساطر المدارس كانت بيده، وهو يقول له” أنت جندي مطوع، كل يوم تدخل هروب وتعود منه، هذا لا يليق بك يا ولد، عيب عليك”.

فانفجر الجندي المتهم، بالكلام بصوت عالٍ، وهو يصيح على رئيس المجلس التحقيقي “أنت ضربتني، لا يحق لك ذلك، عيب عليك أنت، أنا جندي مطوع، والجيش لا يسمح لك بضربي، سأشتكي عليك، سأشتكي عليك عند أكبر مرجع، بل سأذهب إلى السيد الرئيس وأعرض عليه أنّك ضربتني بعصا”!

وجاءت ردة فعل الملازم أول خلف عنيفة، فقال بصوت عالٍ “لا ترفع صوتك، أنت الآن أمام آمر سريتك، وفي نفس الوقت أمام رئيس وأعضاء المجلس التحقيقي الخاص بهروبك للمرة الرابعة، أنت مذنب أمام القانون، وبدلاً من أن تعترف بذنبك، ترفع صوتك على الما فوق، سأرفع كشفا بشأن سلوكك هذا، وسيأخذ القانون حقي منك، الطاق بعشرة”.

ورد الجندي المتهم، بقوة “أرفع كشف وأفعل ما تريد، سوف أفضحك أمام القانون، واذا كان القانون العسكري لا يرد لي حقي، لعد أخره بالعسكرية، إذا هذه هي العسكرية لعد خرة بيها”. وساد صمت رهيب، بسبب حجم الإهانة التي نطق بها المتهم، والتي شملت بلا تردد القائد العام للقوات المسلحة صدام حسين دون الاشارة لأسمه”.

وسكتُّ عن الكلام، فسألني القاضي: “هل ضرب رئيس المجلس التحقيقي م أول خلف، المتهم جندي مطوع ع. ه. بالعصا؟”

أجبت: “بل ضربه بمسطرة مدرسية نستعملها في تخطيط أوراق المجالس التحقيقية، وكانت موضوعة على طاولة صغيرة أمام كاتب قلم السرية الذي كان يدوّن الإفادة، وقد ضربه مرة واحدة على كتفه في محاولة للتنبيه وليس للضرب بمعنى الكلمة”.

نظر رئيس محكمة الثورة مسلم الجبوري إليّ بعمق مخيف، وصمت نحو دقيقة، ثم قال: حسناً، وقّع على إفادتك، وتفضل خارج المحكمة.

أمضيت الإفادة، وأديت التحية، وخرجت من المكان، وانا أتعرّق رعباً، ويجتاحني شعور قوي أنّ القضية قد وصلت صدام حسين شخصياً وقد أحالها إلى محكمة الثورة، وإلا فمحكمة الثورة لا تنظر في الخلافات بين العسكريين، فهذه قضايا لا تهدد الأمن القومي.

التقينا خارج المحكمة، وروينا لبعضنا تفاصيل افاداتنا، التي جاءت متفقة تماماً مع ما جرى، ثم عدنا إلى الباب الشرقي وتفرقنا كل إلى شأنه.

بعد أكثر من شهرين، وصل مقتبس الحكم إلى الوحدة، وقد قضى بسجن الجندي المطوع ع.ه لمدة 3 سنوات لتطاوله على الجيش وقيم العسكرية، مع احتساب مدة موقوفيته إن كان موقوفاً، ويقرن ذلك بطرده من سلك الجيش، وبقائه ليؤدي الخدمة الإلزامية لحين تسريحه مع تسريح أقرانه في المواليد.

والحقيقة أنّ هذا الجندي، وهو من سكنة الطارمية في أطراف بغداد، كان قلقاً ويعيش أزمة، منذ عرفته عام 1980، فقد كان مصنّفا بصفته مصوّر على صنف الاستخبارات العسكرية، ولسبب بقيّ غامضاً علينا، طردته الاستخبارات إلى لوائنا عام 1980، وهناك بقي محتفظاً بصنفه، إلا أنه لا يمارس التصوير، نظراً لعدم وجود ملاك مصور في لواء مشاة جبلي. وقضى كل خدمته هارباً، أو متأخراً أو سجيناً، حتى آل أمره إلى ما أسلفت. 

 ملهم الملائكة / بغداد 1982       

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

يصف الكاتب محمد حسين صبيح كبة برنامجاً روسياً افتراضياً عن لقاءات مع الناس ومع مهندسي نفط روس حول برج للنفط مائل الطباع بناه العراقيون، ويمضي ليصف أشياء أخرى غير ذات صلة بالنفط وابراجه. الحكاية بدأ الأمر بشكل لطيف وبدم خفيف. كان الأمر على شكل كاريكاتير في كتاب عن...

قراءة المزيد
كتابات ومفارقات

كتابات ومفارقات

يرى محمد حسين صبيح كبة أن فكرة التحول مما بين بشري وحيواني ونباتي وجمادي هي فكرة رهيبة راودت بعض العلماء مثل ذلك مثل محاولات العرب والمسلمين أمر محاولاتهم في الكيمياء وفي غير الكيمياء مثلا أمر إكسير الحياة ومثلا أمر تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. الفكرة ممكنة...

قراءة المزيد
من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

كتابات ساخرة من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم. يروي محمد حسين صبيح كبة طرفة تفيد أنّ خطيباً في أحد المساجد هبط من المنبر بعد خطبته وهو يرتجف من الخوف بعد أن أحاط المصلون به من كل جانب، ثم قالوا له بكل وضوح: قولك وخطبتك أن موقعة بدر كانت بالدبابات والقنابل...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *