تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

لو تأتي رسالة

أبريل 29, 2023 | 0 تعليقات

جلست السيدة ماكاولي في مقعدها الهزاز العتيق في البيت الواقع بمحلة “سانتا كلارا أفنيو” بانتظار عودة ابنها إلى البيت. وقد وصل الردهة بعد دقائق من حلول منتصف الليل، كان متسخ المظهر يبين عليه الإرهاق والنعاس، لكنها استطاعت أن تلحظ فيه هلعاً وقلقاً. وأدركت انّه إن تكلم، فسوف تطغى على صوته بحة توحي بأنّ فمه مكمم، كما كان يلوح في صوت زوجها. إنه ابن ابيه وصوتهما متشابه. أطال الوقوف في الغرفة المعتمة، اطال المكث في ذلك الفضاء، وبعدها، وبدلاً ان يشرع في الحديث عن الأشياء الأكثر أهمية، شرع يقول: “كل شيء على ما يرام يا أمي. لا أريد أن تعتادي الجلوس كل ليلة بهذا الشكل”، ثم خلد إلى الصمت لحظة وعاود القول: “كل شيء سيكون على ما يرام”.

-“أعرف ذلك،” قالت الأم، “عليك بالجلوس!”

وتحرك ليجلس في المقعد الوثير، لكنه ما برح أن انهار متداعياً، فتبسمت أمه وقالت: “أعرف أنك مرهق، لكني أراك مثقلاً بالمشكلات أيضاً، ما الأمر؟”

تريث الفتى برهة ثم صار يتحدث برفق وهدوء “كان عليّ أن اسلّم برقية لسيدة في شارع غي، إنها امرأة مكسيكية”، ثم صمت ونهض واقفاً، ثم قال “لا أعرف كيف سأخبرك عن ذلك، لأن البرقية مرسلة من طرف وزارة الحربية. ابنها قد قتل، لكنّها لم تصدّق الخبر، انها ببساطة لم تصدق الخبر! لم أر انساناً كسير القلب بهذا الشكل من قبل. قدمت لي حلوى مصنوعة من عصارة نبات الصبار، وعانقتني وهي تقول إني ابنها، ولم اعترض على ذلك مادام أنه كان يسعدها، حتى الحلوى التي قدمتها لم تكن تثير اهتمامي”، وتوقف عن الكلام، ثم عاود القول: “ما برحت تتطلع فيّ كأني ابنها، وخلت لوهلة إني فعلاً ابنها، وأثار ذلك حزني”.

وتوقف عن الكلام وبات يتخطى في الحجرة، ومضى يتوقف عن الباب المفتوح متطلعاً إلى الأفق بعيداً عن والدته، ثم قال: “فجأة، أخال نفسي وحيداً، وحيداً كما لم أشعر من قبل، حتى حين توفي أبي لم أشعر هكذا، السبب انّنا كنّا جميعاً نتطلع لك، وأنتِ لم تدعينا نحس أن شيئاً قد تغيّر، وبالفعل لم يتغير شيء حينها، وكان كل شيء على ما يرام، لا أدرى ماذا حصل، الوضع مختلف الآن، كل شيء قد تغيّر” وأضاف بقوة التعميم التي تسم الشباب” كل شيء!”.

واستدار مبتعداً عن الباب المفتوح مواجهاً والدته وهو يقول: “خلال يومين، تغير كل شيء، وينتابني إحساس بالوحدة، لا أدري لم يعتريني إحساس بالوحدة” وتحرك مقترباً منها وهو يقول: “أماه؟”

لم تجبه، بل بقيت تنتظر أن يواصل الإفصاح عما يعتريه، فواصل القول: “لا أدري ما الذي أصاب العالم، ولا أدرى لماذا يحدث هذا، لكن مهما جرى لا تدعِ شيئاً يؤذيك بهذا الشكل! لقد تغيّر كلّ شيء لكن لا تدعي الأمور تتغير بالنسبة لنا!”.

ابتسمت المرأة منتظرة أن يواصل كلامه، لكنه لم يضف شيئاً فقالت: “كلّ شيء قد تغيّر بالنسبة لك، لكنّ في نفس الوقت ما زال الوضع كما هو. احساسك بالوحدة مبعثه أنك لم تعد طفلاً غريراً، وطالما كانت الوحدة تغمر العالم، الوحدة لا تأتي من الحرب، الحرب لا تصنع الوحدة، بل لعل الوحدة هي من صنعت الحرب. إنّه الياس من كل شيء وسببه غياب بركة الرب عن الأشياء. سنبقى نحن معاً، ولن نتغير كثيراً”، وفكرة صامتة لوهلة ثم اخبرته برد فعلها وكيف سيكون عند تلقي رسالة ستغير العالم بهذا القدر، “لو وردتني رسالة كتلك التي وصلت السيدة المكسيكية هذه الليلة، سأصدق ما تكشف عنه كلماتها، ولكن ليس أكثر من ذلك. ولن انتحب باكية لأني أعرف أن ابني لن يُقتل” وصمتت، ثم عاودت الحديث وقد اعترتها بهجة من نوع ما: “ماذا تناولت في عشاءك؟”

لقاء متلفز نادر مع الكاتب وليم سارويان

“فطيرة”، أجاب هومر “فطيرة تفاح مكسوة بكريمة الشوكولاتة، مدير الدائرة دفع ثمنها، إنّه أعظم انسان التقيته حتى الآن”.

“سأرسل لك طعام الغداء يوم غد بيد بيس”، قالت السيدة ماكاولي.

“لا أريد أي طعام للغداء” قال هومر “يطيب لنا أن نخرج معاً ونبتاع شيئاً ونجلس سوية لتناول الطعام. لا تتجشمي عناء اعداد الطعام وارساله مع بيس، فالخروج وتناول الطعام معاً أكثر متعة”، وتوقف عن الكلام، ثم مضى إلى القول “يروقني جداً هذا العمل، لكنّه بلا شك سيجعل المدرسة تبدو شيئاً سخيفاً”.

ردت السيدة ماكاولي “بالطبع، المدارس أعدت لمنع تسرب الأطفال إلى الشوارع، لكنهم عاجلا أم آجلاً سيذهبون إلى الشوارع، سواء راق لهم ذلك أم لا، من الطبيعي أن يخشى الآباء والأمهات على أطفالهم من العالم، لكن خوفهم لا موجب له في الحقيقة. العالم مليء بصغار الأطفال الخائفين، ولأنهم خائفون تراهم يخيفون بعضهم، حاول أن تفهم ذلك”، ومضت تقول “حاول أن تحب كلمن تلتقيه، وسأبقى بانتظارك في هذه الردهة كل ليلة، ولكنك لن تكون مجبراً على المجيء والتحدث معي ما لم تكن راغباً حقاً في ذلك. سوف اتفهم الأمر، سأتفهم أن قلبك لن يكون بوسعه أن يمنح لسانك كلمة واحدة للبوح بها”، وتوقفت عن الكلام وعادت تنظر إلى الفتى قائلة “أنت متعب، أعرف ذلك، اذهب لتنال قسطاً من النوم!”

“حسنا يا أماه”، قال الفتي، ثم مضى لحجرته.

                                             ***

*هذه ترجمتي لفصل من رواية “الكوميديا البشرية” للكاتب الأمريكي من أصل أرميني وليام سارويان المتوفى عام 1981، والذي يعده كثيرون أفضل كاتب أرميني، وقد يكون أكثر كاتب مقروء على مدى العصور

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

الوراقون في مكة المكرمة زمن الرسول قبل البعثة

الوراقون في مكة المكرمة زمن الرسول قبل البعثة

الكاتب والباحث محمد حسين صبيح كبة هذا المقال / البحث محاولة لدمج عبق الماضي الثر مع جزء من التقدم التكنولوجي الحديث. يخبرنا التاريخ أنه قبل البعثة المحمدية في مكة المكرمة بزمن قصير كان هناك حوالي 30 شخصا هاربين من روما، ووصلوا إلى مكة المكرمة كانوا يسمونهم بالوراقين....

قراءة المزيد
خطأ أنقذ روما

خطأ أنقذ روما

يسيح الكاتب محمد حسين صبيح كبة في تأملاته بشأن روما وتاريخها، معلنا استنتاجاته غير المألوفة بهذا الشأن. يقال في علوم جغرافية معينة أن هناك 7 أرضين و7 سماوات طباقا هي التي يعيش عليها البشر وغير البشر في امر الاختبار الإلهي ما بين النزول على الأرض وقبل الذهاب للجنان أو...

قراءة المزيد
الحوت الأزرق…لعبة خطرة أم ماذا؟

الحوت الأزرق…لعبة خطرة أم ماذا؟

يتأمل الكاتب محمد حسين صبيح كبة فيما يفعله عالم اللعب الإلكترونية، مقارنا ذلك بالأدب الكلاسيكي الذي دئب الشباب على قراءته، ومن هنا فإن موبي ديك والشيخ والبحر تتخذ معاني أخرى في عالم اللعب الإلكترونية. تمهيد: يخبرنا صالح مرسي، وهو نفسه مؤلف رأفت الهجان، في إحدى قصصه...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *