بناء على الحاحي اشترى لي أبي حذاء ماركة RETRO للعب كرة القدم، وجوارب بيضاء طويلة بشريطين اسودين، وشورت منتخب إنكلترا، وتراكسوت اديداس في بداية ظهوره، كما اشترى لي كرة قدم غريغر من ماركةRETRO . ولأني صاحب الكرة، وأكثر اللاعبين اناقة، فقد اضطرو فريق المحلة أن يشركني في مبارياته الكريهة. وللأمانة، فقد كنت أكره القدم، فهي رياضة قائمة على الركض الذي امقته، وعلى ركل كرة جلدية ثقيلة عديمة الطعم والشكل والمذاق بشكل مستمر، ومحاربة الاخرين للاستئثار بركل الكرة. هي كرتي، وعليّ أن انتزعها من الآخرين!! وهذا ما لم أكن احبه قط، لكني كنت ألعب معهم في كل الأحوال.
تسمية فريقنا صارت مشكلة، هم مصرون على “أشبال أبو قلام”، وانا أقول لهم إنّ الاسم يجب أن يكون “ناشئة أبو قلام”، لأنّ وصف اشبال في الرياضة يعني من هم دون العاشرة، ونحن جميعاً فوق الثانية عشرة، فلماذا التمسك بهذا الاسم؟ ولكنهم تمسكوا ولا عجب، فأغلب أعضاء الفريق كانوا من القرى المسيحية التي هاجرت إلى بغداد في الستينات، وكلهم لا يتقنون العربية، وكابتن الفريق صبي أشقر ثري من تلكيف اسمه جوني، وهكذا فازت الأغلبية الجاهلة على صوت العقل. أما في ساحات اللعب، فلم أكن موفقاً، والحقيقة أني ألعب كرة القدم لأنّ جميع أولاد المحلة والمحلات المجاورة في الكرادة الشرقية، وفي كل العراق كانوا ولسوء حظي يعشقون هذه اللعبة، وهكذا ينتصر رأي القطيع على رأي صبي في الثالثة عشرة من عمره.
كانت متعتي الكبرى هي امتطاء وقيادة الدراجة الهوائية وجولاتها، ولكني مجبر عن التنازل عن متعتي لأكون مع أبناء المحلة. كان فريقاً عجيباً غير متجانس، ولكنّ كل العراق كان غير متجانس:
جوني كابتن الفريق، وهو ابن عائلة مسيحية قروية هاجرت إلى بغداد مطلع ستينات القرن العشرين، وأثّرت فجأة دون مقدمات فبنت قصراً مرأب سياراته الطويل معبد بالشتايكر المستورد، وباحته معبدة بالمرمر الإيطالي الأخضر المعرق. بُني القصر على قطعة أرض شاسعة المساحة مقابل بيتنا، ويجاوره بيت الخضيري. مع جوني، أخوه الأكبر منه رومي ذو الوجه النعسان والعيون الزرقاء التي اثقلها الدسم، البدين المصاب بالروماتيزم، والعاجز عن الركض، لكنه مصر على اللعب إرضاء للقطيع. سائر عائلة جوني مكونة من الأب وهو تاجر معروف جداً في بغداد، والأم، وبنتها البكر س. وشقيقها الأصغر منها س.، ون. الشقيقة الأصغر منهما، ثم رومي، جوني المار ذكره، واختهم الصغيرة ب.. هذه العائلة كانت تغيّر سيارة شيفروليه كلّ عام، وكان سعر سيارة شيفروليه الجديدة آنذاك، يكفي لشراء 5 بيوت محترمة!
وهناك طلال وشقيقه الأكبر رافد، ويلعبان في موقع الدفاع دائماً وكلاهما من القوش التي غادرتها عائلتهم اثناء حوادث الموصل السياسية مطلع الستينات. هما من عائلة فقيرة، تسكن ببيت نزول قديم مقابل بيت العائلة الثرية (شقيقان واختان والأب والأم والجدة يسكنون جميعهم في غرفة واحدة)، وكلهم لا يتقنون العربية إلا لماماً.
كما كانّ هناك ممتاز، النحيف الشاحب المصاب بالربو، وكان يلعب حامي هدف، ثم رقوه إلى مهاجم رغم ضعفه، ومعه أخوه راضي وهما من عائلة مسيحية مهاجرة من قرى الموصل تسكن مع رجل وزوجته في مشتمل مليمتري الابعاد! فيه غرفتان فقط، ومطبخه مفتوح في طارمة صغيرة، ويغسلون أوانيهم وقدورهم، تحت صنبور يصب في حوض اسمنتي في فناء الدار الخارجي ومساحته بضعة أمتار!! وتدور حول ملكية المشتمل المصاب بالكساح شبهات كثيرة، ويرجح أنّه كان تابعاً لمديرية الأمن العامة (في زمن عبد الرحمن عارف).
ويلعب في الهجوم علي، صوته ملعلع دون سبب، ويرتدي بيجامة مقلمة على مدى الدهر، ولم أره قط يلبس ملابس خروج إلا حين يذهب للمدرسة، وهو ابن خياط في سوق السراي أنجب 5 أبناء وبنتين ويسكنون بيتاً كبيراً شيّد على قطعة أرض تفوق مساحتها ألف متر، لا أحد يعلم كيف آل إليهم، ولكن يتهامس الناس أنّه كان عائداً لعائلة يهودية هاجرت بعد مذابح الفرهود في الأربعينات، وأمنّت البيت عندهم حتى اشعار آخر!؟
الأغرب، أنّهم كانوا يملكون سيارة مرسيدس 220 موديل 1962، رصاصية اللون، واقفة أمام باب البيت، ولا تتحرك سوى مرة في الأسبوع ولا أدري إلى أين تذهب!
كما كان في خط الهجوم جواد كاظم جواد، وهو ابن عائلة ثرية، تسكن بيتا كبيراً، وتملك عمارة وسط شارع أبو قلام (شارع السمكة) ملتصقة ببيتهم، ومؤجرة لوزارة الدفاع العراقية، ويسكنها خبراء عسكريون روس وعائلاتهم (العمارة ما زالت قائمة حتى اليوم). وذات يوم، اختفى فجأة جواد وعائلته، وبُني في حديقة بيتهم على عجل، بيتان متلاصقان حديثان، سكنت إحدهما إحدى بنات عبد السلام عارف (بعد أشهر من مقتله) وزوجها وهو ضابط برتبة نقيب، وفي البيت الثاني، سكن رجل عراقي ومعه زوجته البريطانية وابنتاه الصغيرتان.
معنا في الفريق يلعب بشكل متقطع عصام، ابن القس عمانوئيل، ويسكن مع شقيقه رامي الاعرج والذي يكبره ببضع سنوات، ومعهما شقيقتاهما وامهما في بيت صغير مملوك للكنيسة البروتستانتية، أو شيء من هذا القبيل.
كما يلعب معنا عامر، وهو ابن عائلة عجيبة، فالأب سني من التاجي، ويملك كراج غسيل وتشحيم سيارات في شارع الشيخ عمر، والأم شيعية من العطيفية لا تتقن العربية، ولا تعتني بأولادها الثلاثة، كما لا يزورهم والدهم إلا نادراً، وأنا شخصياً لم أره قط. كل الأولاد دون الثانية عشرة، ويقضون حياتهم ليل نهار في الشارع وهم يلبسون بيجامات أكل عليها الدهر وشرب. ولم يزوروا أيّ مدرسة بشكل منتظم، بل بشكل متقطع، ولولا أن التعليم الابتدائي كان اجبارياً، لباتوا أميين في قلب بغداد!
هذه تشكيلة فريق “اشبال أبو قلام” وفي ذات يوم، حمل إلينا عامر دعوة من فريق “الطلقة النارية” الذي كان في أحد شوارع العطيفية، حيث بيت أخوال عامر، وطلب الفريق أن يلاعبنا على ملعب الكشافة في نزال ودي!؟!
وجلسنا نناقش التحدي، والجميع متحمسون لفكرة اللعب على ملعب الكشافة، لكن جوني كابتن الفريق ابدى شكوكه في صحة التحدي، لأنّ ملعب الكشافة مخصص لفرق ومنتخبات احترافية، ومن غير المعقول أنّ المسؤولين سوف يسمحون لفرق ناشئين مجهولة للعب فيه، وهكذا طلب جوني من عامر، أن يبلغهم قبولنا التحدي على أن يجري النزال في حديقة “المنتزه” وهي حديقة مسيجة صغيرة في شارع ابي نؤاس، (مقابل المكان الذي أقيم فيه فيما بعد تمثال شهرزاد وشهريار). واهملت الحديقة في عهد العارفين، وجفّ وتلاشى نجيلها، وباتت ملعباً ترابياً لكرة القدم لفرق محلات الكرادة. هي ساحة صغيرة نسبياً، وليست بحجم ملعب كرة القدم، لكنها كانت المساحة الحرة الوحيدة المتاحة لنا.
اتصل عامر هاتفياً ببيت خاله، وطلب كابتن فريق “الطلقة النارية”، وهو ابن جيران بيت خاله، وابلغه قرارنا، وطلب منه اعلامنا موعد حضورهم لإجراء المباراة. وهكذا جرى الاتفاق على عصر ذات جمعة بعد أسبوعين، وأبلغونا أنّهم سيأتون بحافلة صغيرة تبقى معهم لتعيدهم إلى العطيفية.
ظروف الدعوة، ووجود حافلة لدى فريق الطلقة النارية، خلقت في نفوس فريقنا مخاوف جمة من قوة الفريق، وهكذا اجتمعنا، وصار الاتفاق أن نتدرب كل يوم، حتى موعد المباراة، كما صار الاتفاق، أن يرتدي الجميع ملابس لعب كرة القدم نظامية كاملة، كي نكون بمستوى الفريق المتحدي!
وحلّ يوم المباراة، ووصل فريق الطلقة النارية بحافلة مرسيدس 18 راكب (قجمة) حمراء. ونزل أعضاء الفريق وكلهم في مثل أعمارنا بملابس وسبايكات لعب موحدة النوع واللون، وجوارب صفراء بشرائط سود موحدة، وبشورتات سوداء ودريسات سوداء وصفراء مرقمة! كما جاءوا بكرة قدم جلدية جديدة بنية اللون معلقة في سلة قطنية مشبكة.
كل هذا صدمنا، وولد في نفوسنا مخاوف من أن نكون دون مستوى الفريق الخصم، بل أنّ أعضاء فريقنا أيقنوا منذ اللحظة الأولى أننا خاسرون!
وأعلنت صافرة الحكم، المنتخب ومعه مراقبي الخط بيننا وبينهم، بدء المباراة، وبعد أقلّ من 5 دقائق، سجل الفريق الخصم هدفاً محزناً في مرمانا، وبعدها بدقائق سجل هدفاً آخر، فيما صار حامي هدفنا ممتاز الشاحب، يتقلب على الأرض، معلناً اصابته، وعدم قدرته على مواصلة اللعب! وكان واضحاً أنّه يتهرب من هزيمة ساحقة، لأنّ الهدفين في مرماه سجلا بطريقة مضحكة تدل على عجزه. وأجرى كابتن فريقنا تغييراً سريعاً، فوضعني لحماية الهدف، وجاء بشقيق عامر الصغير (ويبلغ من العمر نحو 10 سنوات) ليكون شبه يمين لأنه خفيف الحركة.
بعد التغيير هبّت على ملعب المنتزه رياح أخرى، ولم ينجح فريق الطلقة النارية المهيب في تسجيل هدف واحد آخر في مرمانا، فقد نجحتُ في التصدي لكل كراتهم الخطرة ودرئها، فيما نجح فريقنا في تسجيل 5 أهداف على الفريق الزائر خلال الشوطين. وانتهت المباراة بفوزنا بواقع 5 – 2 على فريق الطلقة النارية.
بعد رحيل الفريق الخاسر، عقدنا جلسة مداولة، وجرت نقاشات حادة حول اللعب، وأعلن جوني أنّه يفضل أن ألعب من اليوم فصاعداً في موقع حامي الهدف. وبعد أيام، جرت مباراة أخرى مع فريق “ناشئة هويدي”، ومقره في محلة تلي شارعنا بزقاقين، ولكنّ فريقنا الخائب لم يبلغني، وذهبوا يلعبون وحدهم، وعرفت بالمباراة في نفس الليلة، فقررت أن اقاطعهم، وهكذا صرت أرفض دعواتهم للعب المحلي لغرض التدريب عصر كل يوم، ولم أمنحهم كرتي، وبعد أيام، جاءتهم دعوة لعب من فريق آخر، وأبلغوني، فتجاهلتهم. وحسم الأمر نهاية صيف ذلك العام، حيث سكن جوار بيتنا عائلة لديهم ابنان في مثل عمري، وابن آخر يكبرني بثلاثة أعوام.
الجيران الجدد، اشتروا البيت الملاصق لبيتنا والذي كان يعود لعمتي وباعته لهم لتنتقل إلى بيت آخر. وسرعان ما انعقدت بيننا صداقة قوية دامت سنوات طويلة، وتعزز ابتعادي عن كرة القدم، حين اكتشفت أن الأبناء الثلاثة لجيراننا الجدد، يمقتون كرة القدم، وأنّ ابنهم الذي هو في مثل سني، يملك دراجة هوائية، وقيادتها هي لهوه المفضل. وهكذا فارقت كرة القدم، وسرعان ما تهدم فريق “أشبال أبو قلام”، وذهب لاعبوه كل في شأنه. وآلت كرتي وملابسي الرياضية إلى الإهمال وباتت تاريخاً عفا عليه الزمن في زوايا النسيان.
*كل أسماء الأشخاص في القصة رمزية. أماكن وقوع الأحداث حقيقية، وشارع أبو قلام اليوم بزقاقيه، مغلق بثلاثة جدران، ومعزول عن شارعي أبي نؤاس والكرادة داخل بإرادة مجهولة الهوية منذ عام 2010.
بون 2022
0 تعليق