لا سبب يدعوها لئلا تعجب بزميلها الجامعي، فهو وسيم بسمرته وشعره المسترسل على ياقات قمصانه الضيقة، أنيق المظهر رغم مشيته المتعجلة، وهو في الصف المنتهي فيما هي مازالت في عامها الأول في الكلية، وهذا الفارق بينهما يمكن أن يؤسس لمشروع حياة مشتركة. عامان في الخدمة العسكرية، فتصبح هي في الصف الرابع، وبعد سنة يتزوجان.
كان ينتظر دائماً لحظة مناسبة، دون أن يعرف شكل اللحظة التي ينتظرها، فكل لحظة يمكن أن تصبح مناسبة لو قرر أن يبدأ، لكنّ القرار بالنسبة له كان دائماً صعباً، وبعد ثلاثين عاماً سيرث ابنه منه هذا التردد المزعج، وسيرى فيه أخطاءه مكبّرة عشرات المرات. وكلما مرت في رواق الصفوف المنتهية، وهي تقرع الموزائيك العتيق بالسكاربيل المرتفع الذي نجح تماما في إخفاء قصر قامتها، سالت إليها روحه بلا ضفاف، وتنامى في تلك الروح شوق جارف لأن يضمها إليها كباقة من فاكهة تشبه الورد.
في صبيحة شباطية باردة، صادفها مرة أخرى وهي تخطو في الرواق، كان جرس الحصة الأولى قد قرع وشرع الطلبة يدخلون صفوفهم بسرعة قبل وصول الأساتذة، ولكنها لم تسرع، بل بادرته ببسمة من فمها الصغير مثل زهرة شقائق حمراء في أول ينعها القصير. سروالها الجامعي رمادي ضيق رشيق يحتوي ساقيها القصيرتين، فيما تهتز فوقه سترتها الزرقاء الأنيقة، وبينهما قميص يضيق بالنهدين المتمردين بشدة على سلطة أزرار القميص. رأى فيها كل ذلك في لمحة سريعة، فابتسم وسألها بسرعة ” تعالي نهرب من الحصة إلى فطور صباحي في نادي الكلية الدافئ”! وحين ابتسمت، غادرا بسرعة رواق الجانب الغربي، ونزلا السلم بهدوء إلى ممر يسير بحذاء الحديقة مستوراً بأشجار النارنج والبرتقال ليؤمن لهما طريق الهروب إلى قصة أخرى لا تشبه قصص الآخرين.
تسود النادي رائحة حساء العدس وهم يقدمونه في صباحات الشتاء ليدفئ جوف الآكلين، كما تتصاعد أبخرة أباريق الشاي العملاقة لتغمر الصالة الخالية في ساعات الصبح الأولى. وجلسا إلى طاولة في ركن قصي، ظهرهما إلى الجدار، فيريان جمهور المكان بحرية. جاء لها بكوب من “كافيه أوليه” كما كان يروق له أن يسميه، رغم أنه ليس أكثر من شاي حليب يفتقر إلى القهوة! وجلسا يتبادلان كلمات بلا معنى وهما يصنعان مناسبة تليق بمشرع حب.
“الحب هو أن نبدأ معاً دون انتظار اللحظة التالية. اللحظة التالية هي زمن آخر، والحب هو الحاضر فحسب”. كتب هذه الكلمات على الجلد الداخلي لغلاف كتابها الفرنسي الأزرق، فقرأتها وارتسمت على فمها الصغير الحلو ابتسامة قصيرة، فتناولت منه ليفاكسه الأصفر، وكتبت على صفحته الأخيرة ” Je t’aime et je t’adore jusqu’à la mort”. ولم يستطع قراءة العبارة الفرنسية، فسألها أن تترجم ما كتبته فقالت “أحبكَ وأعبدكَ حتى الموت”.
لقد اختارت اللحظة، فأعلنت له بلا تردد مشاعرها، أما هو فما زال حائراً لا يعرف أن يختار اللحظة.
نظر في عينيها الصغيرتين، وتذكر كلمات الأغنية “غرك عيونك بالكحل يا اسمر يابو عيون الشهل”، فرددها بصوت سمعته، وأتمّ الأغنية وهو يدندن. فابتسمت وقالت “عيوني ليست شهل، وليست جميلة بل صغيرة بالكاد اقرأ بها”. ثم ابتسمت بهدوء وقالت “علينا ألا نبدأ بالأكاذيب”.
إذن سأقول لك “صباح الخير، عيونك صغيرة وليست جميلة، ومع ذلك تعجبني؟”
نظرت إليه بضيق مستفز وقالت” ليس من الجميل أن تخاطب فتاة تجالسها أول مرة بهذا الأسلوب”!
ولكنكِ قلتِ تواً: عيوني ليست شهل، وليست جميلة بل صغيرة بالكاد أقرأ بها و…علينا ألا نبدأ بالأكاذيب”؟ أنا تجاوبت مع عبارتك!
بدا عليها الضيق وقالت وهي تنظر في وجهه: عموماً كان يمكن أن تختار عبارة أجمل من تلك!
ابتسم بهدوء وهي يقول: عيناك جميلتان وهما غارقتان في الكحل وتأسران قلبي في هذا الصباح الشتوي البارد.
تألقت على ضفة شفتيها بسمة باهرة، وعاد الانشراح إلى محياها الأسمر الصغير فقالت: نعم، هكذا نبدأ بحوار ناجح، رغم أنكَ قد حرمتني من محاضرة هامة، مدام رحمة الله سيغضبها غيابي!
لا أظن ذلك…الحضور والغياب يقرره الطالب في الجامعة، وقبل سنتين لم يكن يسجل الأستاذ الحضور والغياب في الصف على اعتبار أنّ الطلبة بالغين. في أول محاضرة ألقاها علينا أستاذ اللغة قبل 3 أعوام قال: أنتم الآن لم تعودوا ولد وبنات، بل رجال ونساء، وحين نخاطبكم بالإنكليزية نقول لكم: Ladies and Gentlemen.
وهكذا تشكّلت عوالم قصتهما، لقاءات مسروقة من ساعات الدرس، وجلسات مفعمة بالشعر والأدب وأفلام السينما، تضمهما إلى جمع كبير من الزملاء. لم يكن هو من النوع الذي يود أن ينعزل بحبيبته عن الآخرين ليبقى يهمس في أذنها كلمات حب حميمة كما كان يفعل أغلب العاشقين، بل كان يرى أن العلاقة لا تعيش إلا بين الآخرين، فيما كانت هي منقادة له، وترافقه في تلكم اللقاءات بلا روية. كان وجود الآخرين والأخريات يتيح له أن يناور بالعلاقة، وهذه مساحة ما برح متمسكاً بها لأسباب لم يستطع فهمها بعمق، وكشفت الأيام أنّه هامش للهروب من جدية العلاقة والانتقال إلى امرأة أخرى.
وكان بوده أن تبدأ هي بمغادرة حدود العلاقة، بل كان في بعض الأحيان يوحي لها بهذا الهجر، ففي هذا عزاء يتيح له سبيل الخيانة. الأخريات لسن أجمل منها، لكنّ شيئاً غامضاً في داخله كان يدفعه إلى أحضانهن. إلا أنها بقيت ترفض خيار الهجر من جانبها، وتمسكت به رغم عربدته وعبثه الجنوني.
وحين اشتدت الحرب اللبنانية، كان يقرأ لها قصائد محمود درويش عن تل الزعتر ويشجعها ان يهربا إلى حرب لبنان، ليقاتلا الانفصاليين! هو لم يكن يعرف بالضبط أطراف وأسباب الحرب في هذا البلد، أما هي فكانت لا تفقه شيئا من كل ذلك، بل ترى نفسها تسير معه إلى آخر العالم دون تردد.
انتهى العام الدراسي، وهو حائر أين يتجه. القرار بالنسبة له بقي صعباً جداً، هي موجودة بقلبها الذي ينطره بشوق وبحبها الذي يأتمنه ويليق به، وهو متغيّب متذرع بلا أسباب، متخم بخيانات بلا معنى.
وسافر في الصيف إلى أوروبا الشرقية، على خارطة رحلته الطلابية الاقتصادية كانت إسطنبول، صوفيا، بوخارست، ثم بودابست. حين جال بكل تلكم المدن البعيدة الكئيبة لم ير الحزن في وجوه الناس، بل تصور عوالم مشرقة يفتقدها في بلده النفطي الحار الجاف حائر الانتماء، فالعراق لا ينتمي للشرق الأوسط، ولا ينتمي للخليج، ولا يشبه بلدان العرب ولا يشبه جواره التركي والإيراني…إنه وطن غريب ورجاله حائرون، ونساؤه اعتدن العيش مع سفر الأحباب وغدر الرجال وهجر القلوب العاشقة.
محطات القطارات أكملت صورة حزنه المبهم، ففي المحطات حزن لا تفسير له، ولكنه حزن الفراق الجميل، وفرح اللقاء غير المكتمل. بعد كلّ تلاقٍ يبقى هاجس المسافرين تدانٍ جديد…على الأقل هكذا كان يرى ظله في محطات القطارات التي تبدو مهجورة بعد أن تغادرها القطارات. في المطارات لا تُروى قصص الحب الحزينة، ولا في كراجات سفر الحافلات والسيارات، فهناك يصبح للسفر مذاق حب أليف، حب عائلي ترسم تفاصيله بيوت متخمة بالأطفال والآباء والأمهات، وحدها محطات القطار توحي بقصص الحب غير المكتملة.
وبعد أعوام، ستقف حبيبته الصغيرة على رصيف المحطة العالمية لتودعه وهو يذهب كل شهر إلى جبهات الحرب في الجنوب، قطار البصرة يسرقه منها، وهما لا يملكان سوى قصة حبهما التي ثقّبتها الأيام، واتعبتها رحلات الهجر ومنازل الفراق.
الحب لا يتطلب أسباباً، وهما كتبا تفاصيل حكاية عشق بلا أسباب، وقد آلت بهما إلى منزل دافئ ما برحت الطفولة غائبة عنه، وهذا أتاح للآخرين البحث عن أسباب تنهي تلك الحكاية. وبعد سبعة أعوام، فرضت السياسة حرباً جديدة أجبرته على الهجرة، فتطاول الفراق القسري حتى انتهى بفراق أبدي.
حدود حكاية الحب بقيت غائمة، ولم تكتمل في نفسه الصورة. هي لم تعرف سبباً لقلقه وتردده، وهو لم يعرف نفسه حتى بعد أن ابتعد عن قصة حبهما نصف قرن…خمسون عاماً تخللتها هجرات قاسيات، فلم يبق من قصة الحب سوى قطع الأثاث والكتب والصور تسلي بها وحدتها القاحلة.
ملهم الملائكة
0 تعليق