اعتقال الطائي إعلامية مثقفة يعرفها العراقيون من خلال الشاشة الفضية، نشرت كتاباً هو بمثابة مذكرات تبث فيها وقائع من تاريخ العراق المثير للجدل دائما. هذه قراءة في كتابها ذاكرة الأشياء.
تقف اعتقال الطائي على مفرق ثلاثة انهار متباعدة لتأكل الباقلاء على ضفاف الفرات، وتبني للناس وعي السينما وتنحت في الخشب ملامح من جمال وحب على ضفاف دجلة، وتعيش باقي العمر على ضفاف نهر الدانوب وهي ترمم ذاكرة الباقلاء والسينما والحب.
تختلط سيرتها الذاتية بسيرة الوطن البعيد الذي تفتقده في كل كلمة وكل شهقة وزفرة. هانّا ابنتها التي تحب، أهدتها الكتاب السيرة لترافقها في محطات صعبة كثيرة وتقف معها في غربة العراقيين في مطار دمشق منذ عقدين، لماذا ينحني رجال الامن العرب إجلالا لجواز سفر اوروبي ويضعون الجوازات العراقية في جهاز فحص المشبوهين؟ اسئلة تنتهي بتحليل اعرابي معاصر لآية ” كنتم خير أمة أخرجت للناس” التي تمسك بها خال الأمة العربية “خير الله طلفاح” بكتاب من سبعة اجزاء اجبر تلاميذ المدارس على شرائه في اول سبعينات القرن الماضي و ” لم يبق غير الناس المساكين المجرورين بحرف الجر، المبتلين بهذه الامة التي ستبقى في محل مضاف إليه…أي ليس لها محل في الاعراب “.
هي والنساء
في حمام النسوان، ينتظر القارئ سياحة مع النساء في عريهن، الا أن اعتقال تسيح مع تأملات النحات مقبل جرجيس وقد صنع تمثالا لعمشة العجوز الشمطاء العارية في حمام الموصل للنسوان وقد وشت به عند أمه بعد أن رأت عينه تحوم بين اجساد النساء ونهتها عن جلبه معها فقد كبر وصار رجلا. وتصدمنا اعتقال بجملة مقتضبة ” مات مقبل، قتلوه في السجن بتهمة التبشير” ويطلع القارئ بسؤال أكبر من كل الأسئلة: كيف صار الفنان مبشرا في جمهورية الخوف؟ ثم تنتقل مع اخواتها الى حمام الكاظمية وهن يحكمن غلق الابواب لئلا تداهمهن امرأة وهن متلبسات بوضع الحمام، وتتشاجر الاخوات على طاسة الحمام، ثم يغشى على إحداهن لينشغل الجمع الصاخب بإسعافها، ليغادرن المكان فيسمعن تعليق أحد الشباب “هاي شنو، ليش طلعن من الحمام وجوههن صفر وما متفحات؟ ” وهي كلمات تضع الوعي مباشرة في مرتبة العلاقة الغائمة غير الغائبة بين الذكر وبين الانثى في وطنها البعيد الذي تحب.
في ” كذبة الحزام الابيض” تنطلق اعتقال من محطة نسائية صغيرة تقف على رصيفها اسنان الحليب لابنتها برفقة أول خاتم ذهبي حصلت عليه من أمها حين كانت في السادسة، وداع ناعم لسفر آخر في مدرسة ابتدائية بالحلة حيث خمس بنات يأخذن عربة بخيول تصل بهن قبل ان يرن جرس المدرسة، وفي الصف تتأمل صغرى البنات في اسم المعلمة” هدية” وتقارنه باسمها التعس الذي اقترن بذكرى اعتقال أبيها حين ولادتها عام 1949. يتنفس تاريخ البلد السياسي في كل صفحة، وهكذا يحمل كل عراقي قصة من بلده الحزين، وسرعان ما يسير القارئ مع البنات الى حديقة النساء “الفيحاء” ، في الحلة في منتصف الخمسينات حديقة للنساء، أين أضحى هذا التقليد الانجليزي الجميل في حلة اليوم؟
ثم تحل مأساة فاجعة برحيل مباغت للمعلمة هدية، تعقبه ليلة كوابيس تعيشها الطفلة لتقصّها فيما بعد على “هانّا ” فتلخص البنت نصف العراقية المأساة بجملة ” ماما! آني أعرف انتو كلش تحبون الزغار- ثم يداهمها نصفها المجري فتتم جملتها بلغة نصفها الثاني- لكنكم قساة معهم”، ولم تحر الطائية جوابا فتهمس ” نعم يا روحي! هناك الملايين من نصفك الثاني رضعوا ويرضعون القسوة منذ عشرات السنين ولم يعرفوا طعم الرحمة بعد” فتلخّص الكاتبة رؤيتها بذلك عن مأساة عراقية متأصلة قادت البلد الى لغة التذابح الطائفي بعد سقوط عقود الديكتاتورية الدموية.
“جميلة” في مكتب البراك
“جميلة” إسم رواية للكاتب القرغيزي جنكيز ايتماتوف عرضت في برنامج السينما والناس كفيلم وحازت اعجاب الناس ولفتت انتباه الجميع، لكن عرض الفيلم لفت انتباه شخص خطير، انه مدير المخابرات العامة د.فاضل البراك، وتروي الطائية الساحرة كيف أوصلها اهتمام مدير المخابرات بالفيلم الى مكتبه. اللغة التي تسرد بها بسيطة عفوية، وهي تظهر جرأة كبيرة في التعامل مع جهزة الامن، من يجرؤ أن يقول للبراك ” أي وشنو يعني! ما أجي كافي تجرجرون بيه”. والقارئ يشعر بعد اللقاء أن البراك لم يكن مجرد وحش بشري يسحق عظام المعارضين للناس ويفتك بكل من يحلم مجرد حلم بأنه يسب السيد الرئيس!! بل هو مثقف متنور متفهم لوظيفة الفن والفنانين وفي أحيان كثيرة يداعبهم باعتبارهم مشاكسين غير مضرين. هل كان البراك فعلا كما وصفته؟ لا أحد يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال لأن انطباعات الناس عن بعضهم متفاوتة وكذا أسلوب مقاربتهم لبعض.
بنفس اللغة تروي اعتقال تفاصيل لقاءاتها بمدير الاذاعة والتلفزيون آنذاك” محمد سعيد الصحاف” فهو رجل جدي يسعى الى اداء وظيفته بأحسن صورة ، وهو ليس متعاليا على الناس وليس متعجرفا كما أنه يعمل احيانا بمبدأ “الشخص المناسب في المكان المناسب” وهكذا فقد عرض على اعتقال أن تشتغل في قسم الديكور بالمؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون باعتبارها نحاتة وفنانة ( دون أن ينسى القارئ في خلفية الصورة مدينة الحلة التي جاء منها الصحّاف) ، بل هو يلح عليها بلغة تشبه التوسل أن تقبل الوظيفة، معللا جزءا من اصراره بقدرة اعتقال على الرفض واحترامه كمسؤول لاختلاف الرأي ، فهل نعرف في تاريخ البعث تسامحا وتفهما مثل هذا؟ اعتقد أن عقد السبعينات كان العصر الذهبي في تاريخ العراقيين، فحتى سراطين البعث كانوا ارق خلقا واقل شرا.
حين كان الوطن حلوا
ونلمس النَفَس عينه في لقاء اعتقال بالسيد النائب (صدام حسين)، ففي اتصالها به على هاتف شكاوى المواطنين يبدأها بالسؤال : ” وانت حلوة مثل ما تطلعين بالتلفزيون؟”، وهذا يضع القارئ في جو من الهدوء والالفة. وتمضي اعتقال لتصف تفاصيل اللقاء وهيبة المكان وردرود النائب على الحاح البعض وطردهم من حضرته دون شفقة حتى تصل الى لقائه وهي خائفة ويبدأ الحوار بعد ان اطمأنت له وصفقت يدا بيد وأطلقت جملة صاخبة:” استاذ لا أكلك ولا تكلي…مهزلة!!”
علينا ألا ننسى أنها تخاطب صدام حسين الذي لم يكن يجرؤ جنرالات الجيش وقيادات الحزب على أن يرشفوا استكانات الشاي بحضوره. في نهاية اللقاء وعدها بأن يمنع الأمن والمخابرات من مضايقتها والسعي لإجبارها على الانضمام للحزب، ثم رفع يده اليسرى ووضعها على كتفها ليمسد بها شعر اعتقال وتخرج بسلام متعافية من اللقاء المرعب. الجيل الأصغر من جيل الكاتبة يعرف أن صدام هو حضور جلل يقود اللقاء به في الغالب الى مصير مظلم. لكن أبناء جيل اعتقال كانوا غالبا يجدون حلولا لمشكلاتهم عنده دون أن يخافوا، وعلينا مرة أخرى أن نتذكر أن البعث كان آنذاك يسعى لإرساء دولة اشتراكية منفتحة وقد قطع العراق بالفعل خطوات كبيرة في هذا المسار وصار يقترب من موقع الدولة العربية الأكثر تقدما.
نَفَس التسامح هو جزء مؤثر من لغة السرد التي تتبناها اعتقال، فهي قد أجبرت على مفارقة وطنها منذ 30 عاما لتعيش في المنفى تتلظى شوقا لنهر الحلة ولرياح الكفل، لكنها لا تعتبر من أجبروها على تلك الهجرة أعداء تاريخيين لن يعيد الامور الى نصابها سوى الانتقام منهم والتنكيل بهم. هي في عرضها ليست سياسية و(تقول بصراحة أنها ليست شيوعية رغم أنها تركت الوطن مطاردة بهذه التهمة) لكنها أكثر من ذلك داعية للتصالح والتعرف على الناس من خلال فهم ظروفهم التاريخية.
لطيف نصيف جاسم، والصحاف (أبو العلوج) لم يكونا اكثر من مسمارين في ماكنة عملاقة وربما كانا يخافان من سطوة الديكتاتور أكثر مما يخافها عامة الناس لقربهما الشديد منه ولارتباط عملهما به بشكل مباشر، لكنهما في النهاية (كما تعرض اعتقال) كانا عراقيين يحرصان على مصلحة ابناء شعبهما. هي لا تدافع عنهما ولكنها تعرض الوقائع كما حصلت وتترك للقارئ أن يقيم كيف كان الناس في تلك المرحلة (وعلينا أن لا ننسى أن الكاتبة فارقت العراق وهو يعيش أحسن ايامه ولم تشهد أيا من حروب النظام المتوالية ، وبالتالي بقيت تعيش نوستالجيا المغتربيبن المزمنة لوطنهم الجميل البعيد، هي لا تعرف شيئا عن المياه الملوثة التي يشربها الناس ولا عن غياب الكهرباء منذ عام 1991، ولا عن الحصة التموينية الرثّة المهينة ولاعن التفجيرات اليومية التي تحصد المئات ولا عن الاغتيالات المرتبطة بحراك السياسيين وضغوط البعث للعودة والمشاركة في السلطة، ولا عن الفساد الذي ينخر مفاصل الدولة ،هي تعرف ذلك من خلال أخبار التلفزة ولغط الأقارب وشتان بين من رأى وبين من سمع).
شموع الخضر بعد السرطان
رحلتها مع المرض الخبيث المرعب ترويها في قصتين هما (الباروكة) و (القنابل الذكية أكسير الحياة)، تجربة صعبة مرة تظهر فيها الجميلة العنيدة اعتقال أكثر صلابة وهي تواجه مصيراً مرعباً أقل ما فيه أن ينزعَ عنها أجمل ما فيها – شعرها المنساب الطويل الجميل الذي طالما كان علامة فارقة تميزها عن غيرها من الإناث.
وتنتهي السيرة بزيارة قامت بها الكاتبة الى مرابع طفولتها والى بغداد، حديقة النساء أضحت رمزا لخيبة أملها الكبرى بالوطن الخرب، الفرات الذي أحبت أمسى مستنقعا جف ماؤه، الجسر القديم صار مثل رجل عجوز فقد عكازه ويكاد
يهوي في النهر. تأخذها نوبة نحيب وهي تتصفح دفتر الذكريات الذي طالما اعتبرته جميلا رائقا معافى، لم يبق سوى الخراب البشع في هذا الوطن الذكرى وتتساءل الكاتبة الحالمة التي خرجت من معركتها مع السرطان منتصرة:
” لماذا نتشبث بالوطن؟ هذا الوطن الذي أهاننا وأذلنا. أوجعنا وأبكانا ثم شردنا. وهل الوطن أرض وبيت ونخيل على ضفاف نهريه؟ الوطن ليس إلا ذاكرة ناس وأماكن وأشياء تسكن قلبي”
وتوقد الطائية المجرية عشرين شمعة لابنتها هانّا لتضعها في الدانوب فتسافر مع الموج كما سافرت شموع النذر على مياه الفرات لتصل للخضر فيستجيب للوعة أم الكاتبة التي كانت تبحث عن ابنائها في معتقلات السلطة في العراق على مدى العصور.
ملهم الملائكة
0 تعليق