فسنجون في بيت قاضي القضاة
بقايا مطر يغسل شوارع بغداد وقد تمزق أسفلتها الرخيص المغشوش وباتت مرتعاً للحفر والمطبات التي يجري ردمها بالطابوق لأسباب يجهلها البغداديون. إنّه أكتوبر من عام 1966، وكان قد مضى محض نصف عام على تولي الجنرال الفاشل المضحك عبد الرحمن عارف منصب رئاسة الجمهورية في العراق لمجرد أنّه كان شقيق العقيد عبد السلام عارف الإنقلابي الذي قضى محترقاً في طائرة هليكوبتر سقطت أو انفجرت جنوب العراق… مات العقيد الذي جعل نفسه مشيراً حتف مؤامرات ما برح يحيكها ضد رفاقه في انقلابات العسكر المريرة… ولكني أتكلم بهذا الشكل لمجرد أن ألفت نظركم إلى قصة صغيرة غريبة جرت في ذلك الخريف الهزيل ولا علاقة لها بالسياسة.
بدأت تلكم الحكاية حين توالت الاتصالات الهاتفية على مدرّسة اللغة العربية لطالبات الثانوية في الجهورية الثالثة، وكل اتصال يقصّ عليها خبر مصيبة حلت ببيتها، هذه المرة أخبرها صوت نسوي في الطرف الآخر من الخط إن بيتها قد شبت فيه النيران، بيتها الحبيب الظليل في الكرادة الشرقية والذي أودعت فيه ولدها الرضيع وابنتها التي تعلمت المشي تواً في رعاية أخيهما الذي لم يبلغ الحلم بعد وقد انتقل تواً إلى الدراسة المتوسطة. أما كيف ولماذا يتولى الفتى رعاية اشقائه ويتخلى عن مدرسته في سبيلهما، فقد بقيت أسئلة تؤرقها وهي تتحمل كوابيس الرعب التي يفرضها عليهم زوجها الفنان الرقيق. إنّه يطاردها منذ أيام وقد اخفى بلطة في معطفه المطري الأنيق الذي جلبه من تشيكوسلوفاكيا، علاوة على سكين طويلة النص يضعها تحت مقعده في سيارتهم البيضاء الصغيرة الجديدة.
جرى هذا بعد أن صرعته ليلة قضاها في سجن قصر النهاية بعد انقلاب 8 شباط 1963، ليلة واحدة تعرض فيها إلى بضع صفعات واهانات من محققي الأمن والحرس القومي الذي يقوده الضابط الطيار منذر الونداوي سيء الصيت، ثم نجحت الوساطات في تخليصه من براثن أعداء الشيوعية، فأطلق سراحه مقابل توقيعه تعهداً بعدم ممارسة أيّ نشاط سياسي، وهو أصلا كان قد اعتزل أيّ نشاط سياسي منذ عام 1961 بعد أن تخلى عن زمالته الدراسية في تشيكوسلوفاكيا التي كان مقرراً أن يعود بعدها ليصبح مديراً لأول وأكبر مصنع أحذية حكومي في البلد. وهكذا فارق الحزب الشيوعي وخسر طموحه الوظيفي وتحول إلى موظف بسيط في دائرة صغيرة حديثة تابعة لوزارة الاقتصاد. وأفرغ هذا النكوص وكل الفشل الذي رافقه في مسيرة أوهام بدأت تراوده، نتجت عنها كوابيس مرعبة أرّقت لياليه، فلم يعد ينام، ولم يعد يستطيع التركيز على أيّ شيء، وفقد الرغبة في الغناء والموسيقى، وتبددت موهبته في الرسم، وتلاشت ابداعاته المطبخية، وصار عبوساً شاحب اللون يتنقل مثل شبح بين البيت والوظيفة. وبات يشك في أهل بيته، ويتوهم أنّهم طرف في المؤامرة الدولية الماسونية التي يراد منها ترويعه.
وما برحت زوجته المعذبة تسائله عن سبب مطاردة الماسونية الدولية الغنية الجبارة له وهو مجرد موظف حكومي بسيط ليس بيده أيّ مستوى من مستويات القرار حتى ملّ من تساؤلاتها، فاختلق من أوهامه قصة دفتر دوّن فيه عام 1955 أسرار قيام حلف بغداد بين العراق وإيران وباكستان وبريطانيا!؟ وبسبب هذا الدفتر الذي يفضح أسرار الحلف، يطاردوه الماسونيون والمتشابهون ليدمروا حياته ويأخذوا منه الدفتر المعجزة!
ثم أمعن في تخيلاته، فصار يتصور أنّ الماسونية تريد تخريب صحته وصحة أهل بيته، فاخرج ابنته التي لم تبلغ عامين من عمرها من الحضانة، كما منع ذهاب ابنه الرضيع إليها، وأصدر فرماناً كابوسياً مفاده أن يمتنع ولدهم البالغ من العمر 12 عاماً عن الذهاب الى المدرسة ويمكث في البيت لرعاية أخوته وحمايتهم من المؤامرة الماسونية!
ثم تطور الأمر، فبات يخال زوجته طرفاً في المؤامرة، وبدأ يعذبها ويضربها ويطاردها مهدداً بأشنع العواقب، ثم قطع الهاتف والتيار الكهربائي عن البيت، وعطّل سيارتهم الألمانية الجديدة، وعاد يتهم الماسونية بتخريب سيارته وحياته!
وكانت المدرّسة المنكوبة تلقي محاضرتها لطالبات الصف الخامس الأدبي، حين جاءت فرّاشة المدرسة واخبرتها أنّ ثمة من يطلبها على الهاتف…وسارعت لغرفة الإدارة ترد على الهاتف ليقول لها صوت نسوي لا تعرفه إنّ حريقاً قد شبّ في بيتها، وعليها أن تسرع لتنقذ بنيها وما يمكن إنقاذه، جهد عمرها وعمر زوجها. وغادرت المدرسة كالمجنونة، وهي لا تعرف كيف تصل بيتها، وحين وصلت شارعهم الجميل، راقها هدوء المكان، وبعث في نفسها بعض الطمأنينة لا سيما أنها لم تر لهيباً أو دخاناً يتصاعد من بيتها، وحال أن وصلته أدركت أن الأمر لا يعدو أن يكون كذبة سوداء لتخريب حياتها، ولكنها بقيت محتارة في من تكون المرأة المتصلة التي تريد تدمير حياتها؟
كل هذه الوقائع السوداوية شهدها الفتى الذي خسر مدرسته، وبات يحوم مع أبيه في دائرة الوهم الكابوسي المرعبة دون أن يميّز الواقع من الخيال، فلطالما تعلم أنّ ما يقوله أبوه دائماً صحيح!؟ وها هو أبوه يمنعه عن الشوكولاتة التي يعشقها لأنّ الماسونيين يصنعونها بزيوت مستخرجة من أجساد البشر بعد قتلهم وتذويبهم في أفران الماسونية!؟ كما حرّم عليه تناول الكولا، لأنها جزء من اقتصاد الماسونية الدولية، لتخريب حياة الناس! ومنعه منعاً باتاً من تناول المعجنات المسلفنة لأنها تحوي على مواد مسببة للسرطان وضعت عمداً لتدمير الناس وقتلهم، وحظر عليه شراء وقراء مجلات الكومكس اللبنانية والمصرية التي يحبها ويتابع اعدادها اسبوعياً لأنها جزء من مؤامرة دولية لتخريب عقول الشباب، وبمرور الأيام بات الفتى يعيش لوحده، ولا يسمع سوى صرخات الاستغاثة من أمه وهي تدعوه لينقذها من ضربات الأب الموجعة! وكان يهرب من كل ذلك الى سطح البيت ليمارس رياضة التزلج بالاسكيتنغ، أو إلى حديقة البيت ليمارس هواية صيد الطيور ببندقية الصيد الهوائية الصجمية رقم 2 التي استأمنها عنده أحد أصدقاء المحلة.
وحلّت اللحظة الحاسمة حين عادت أمه من المدرسة هلعة موجوعة تسائله برعب ولهاث متقطع عن حريق بيتهم، فأجاب الفتي مستغرباً أنّ شيئاً من هذا لم يحدث، ثم روت له واقعة المكالمة الهاتفية، فقال لها وقد التاث عقله بأوهام أبيه “إنهم المتشابهون والمتشابهات، يبحثون عن دفتر أبي”!
صعق جوابه الأم المسكينة، فهرعت تجمع بنيها، وما تملك من مال وبضع قطع ذهبية، وتخرج مولية الأدبار هاربة لتنجو من أوهام وكوابيس غويا الفنان الإسباني المريض! ولم تذهب إلى بيت أبيها، فقد طاردها زوجها الموهوم إلى هناك قبل أسابيع، وأشبعها ضرباً أمام أبيها الشيخ الذي لم يستطع إنقاذها من قبضته، فعادت لبيتها وقد تورمت عينها، ونزف أنفها وكسر أحد اسنانها، لذا قررت هذه المرة أن تذهب إلى بيت خالتها، الذي لن يجرؤ زوجها المجنون على اقتحامه لأنّ شرطة يحرسونه، فهو بيت (قاضي القضاة) آنذاك. وحين اقتربت من بابه، منعها الشرطيون من قرع الجرس، وسألوها عن سبب زيارتها للبيت، فقالت لهم إنه بيت خالتها، وهي تريد أن تتحدث إليها. وبعد أخذ ورد، جاءت الخالة إلى الباب وآوت إلى بيتها الأم المنكوبة وأولادها اللائذين بهم وهم بملابس النوم.
الساعة الخامسة عصراً تذكرت الخالة أن تسأل أفراد العائلة المنكوبة الهاربة إن كانوا قد تناولوا طعام الغذاء؟ وخجلت الأم من اخبارها أنهم هاربون منذ ضحى ذلك اليوم، ولم يدخل جوفهم أيّ طعام! وأدخلوهم الى المطبخ، وهو صالة أكبر من غرفة الضيوف في بيتها، ثم جاءوا لهم بصحون من الرز المكسو بالزعفران، وكاسات من مرق غامض، وحين تأمل الفتى شكل المرق، وقف مرعوباً وأطباق ابيه الكابوسية المقرفة تترى في خياله، فسارع يسألهم إن كان اللحم الظاهر في المرقة الغامضة هو “سمك جري”؟ وصعقت الخالة، فصارت تخبره إن سمك الجري لا يدخل بيتهم لأنّه من الأطعمة المحرمة، وردت تسائله لماذا خطر في باله هذا السؤال؟ فقال إنه لا يعرف نوع المرق الموضوع أمامه، لذا فهو يسأل؟
ضحكت الخالة العجوز بود، وصارت تقول له إنّ هذه مرقة فسنجون، واللحم الظاهر فيها هو لحم علي شيش، وجلسوا يأكلون، فسأل مرة أخرى: ما هي مرقة فسنجون؟
وبينت له الخالة إنّها مرقة مصنوعة من شربت دبس الرمان الغليظ مخلوطا بخلاصة مسحوق الجوز المحطون مع جلده الرقيق، مطبوخاً على لحم الديك الرومي. وحين باشر الأكل صدمه أنّ المرق حلو المذاق، يشبه طعم مرق الطرشالة التي تحبها والدته وتأكلها هي وحدها في بيتهم. وهكذا تناول الفتى الحائر، وهو يرفل ببجامته التي لم يغسلها أحد منذ أسابيع، وجبة رز بالزعفران المعطر، ومعها مرق فسنجون حلو المذاق، وبضع حبّات من كبة حلب في بيت قاضي قضاة بغداد بحماية شرطة العاصمة، دون أن يخرّب عليه متعة الغذاء أبوه المجنون الدموي.
بعد سبعة وخمسين عاماً، في بلد أوروبي ناءٍ عن قبر أبيه وأمه وخالتها وقاضي القضاة، جلس إلى مائدة عائلة إيرانية يتناول رزاً معطراً بالزعفران مع مرق فسنجون مطبوخاً على لحم بوقلمون، وحال شريط ذكرياته المفعم بالحزن الدامي دون أن يتلذذ بمذاق الطبق الإيراني الغريب.
ملهم الملائكة/ خريف 2023
0 تعليق