تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

فرحون بالوطن الخربان

مايو 26, 2022 | 0 تعليقات

لا أدّعي أن الغبار الذي يغمر العراق سببه الحكومة كما يحلوا للبعض ان يطبلوا، رغم أنّ هذا جزء من الأسباب بسبب تلاشي الأحزمة الخضراء التي تخوصر المدن العراقية منذ غزو الكويت، فاستعمل الناس أشجار الوطن ليطبخوا عليها، ولكن عندي كلمة عن الوطن، ولا أدرى لماذا أطلق عليه هذا الوصف وقد قضيت نصف عمري هارباً منه ومن جنته؟

يتحدد وطن المرء في رحم أمه، فيولد عراقياً أو سورياً أو أمريكياً أو المانياً، كرديا أم عربيا، يهودياً أم مسلماً (وله فيما بعد أن يغير كل ذلك باختياره إن رضيت دوائر الإقامة والجنسية والسفر).

يرفض المتعلقون بالماضي أن يفهموا هذه البديهية البسيطة، فيسمّون العراق امتداداً عربياً، ويريده غيرهم امتداداً تركياً وآخرون يصفوه بالامتداد الإيراني. ويريده البعض شيعياً، بينما يريد له آخرون أن يكون سنياً، والمثقفون يريدونه وطناً من نسيج الفردوس، علمانياً، ليبرالياً تخالطه رياح الماركسية، وديمقراطياً بحلّة القائد الأوحد، رائداً كما كان يحلم الطغاة بالريادة، ومنفتحاً على العلوم والآفاق كوطن خلق للتو من عجين الأمل والتمني.

يبدأ الوطن حيث يرضى الجميع أن تكون خيراته اشتراكية، وحيث يرفض الجميع أن يكبوا نفاياتهم في الرافدين المتعبين، وحيث يعرف الجميع قوانين تحميهم، وحيث لا يتجاوز أصحاب المحلات على الأرصفة، وحيث يطمئن الناس إلى أن غدهم سيكون أحسن من يومهم، وحيث يسهر الناس حتى الصباح دون أن يزعجوا جيرانهم ودون وجل من زائر مرعب سيفسد السهرة، وحيث لا تكون الأعراس مناسبة تعرض فيها النسوة أغلى المجوهرات وبازار يتبارى فيه الرجال لاستعراض أسلحتهم النارية، وحيث لا يرفع الآذان في المساجد بأصوات قبيحة (يجب أن يكون صوت المؤذن جميلاً ليوقظ الناس في الساعة الرابعة صباحاً دون أن يشتموه ويلعنوا سلفه)، وحيث يلعب الابناء في مساحات خضراء دون ان يتلفوا النجيل الأخضر الجميل.

يبدأ الوطن حين لا تكون الفياشة والحماسة والفخر الاهوج دليلنا للكرامة (ولا أدري ما سر تعلقق البعض بفياشة صفي الدين الحلي وهو يردد على مدى أجيال “بيض صنائعنا، سود وقائعنا، خضر مرابعنا، حمر مواضينا”، وقد ولّى عصر الصفاح البيض والسيوف المرهفات!)، يبدأ الوطن حيث يجد الناس قرب مساكنهم حافلات مريحة نظيفة تقلهم إلى أعمالهم وتعيدهم منها دون تدافع وتزاحم، ويبدأ الوطن حيث يتعلم الأبناء في مدراسهم أن يحبوا الوطن ويحافظوا على اشجاره وزهوره. يبدأ الوطن حيث يتعلم الجميع أنّ الحياة ليست سباقاً وحشياً في الصحارى والادغال، وأن على الانسان أن يسعى ليجعل حياته مرموقة، وأن التعلم غيرالثقافة، وأن الثقافة ليست الأدب والفن فحسب (وهكذا تجد صفحات الثقافة في مجلاتنا وصحفنا مكرسة للادب  والفن وكل مثقف يجب أن يتكلم “نحوي”) ، وأنّ درس النشيد في مدارس الصغار ليس فرصة لكي تتكلم المعلمة فيها على هاتفها النقال لمدة 45 دقيقة، وأنّ درس الرسم ليس حصة اختيارية يتاح لأي معلم أن يأخذها ليعطي فيها محاضرة مبكرة في الرياضيات، وأن روضة الاطفال ليست مكاناً لتشغيل النساء الفقيرات غير المؤهلات .

يبدأ الوطن حيث ندرك أن اختلاف الرأي فضيلة، وأنّ الأتفاق في كل شيء رذيلة اسمها “نفاق”، وأنّ الكمال حلم افلاطوني لم يتوفر عليه أحد على مدى العصور، وأنّ الخطأ صفة تلازم من يعمل وتفارق العاطلين عن العمل، وأن رجل الشرطة في الشارع مصدر للأمان، وأن الجيش مكانه الثكنات ولن نراه إلا حين يتعرض الوطن للخطر، وأنّ البائع يجب ان يتسم بالامانة والا فسد البيع، وأن القضاء جهة يمكن أن يلجأ إليها من سدّت بوجهه السبل، وأن باب الوزير لا يحجبه ألف حاجب، وأنّ السياسة هي فن الممكن على أن لا تجافي الحقيقة.

يبدأ الوطن بعيدًا عن العقائد الجاهزة، بعيداً عن التشابه، بعيداً عن الحزن” العراقي الأصيل” ، بعيداً عن الشرب لحد السكر والتعتعة، والأكل حد التخمة، والتقتير حد البخل، والاسراف حد الإفلاس، بعيداً عن الرشا البغيض، بعيداً عن الاستفتاء والاستخارة، بعيداً عن مقولة “نحن أحسن الخلق”، بعيداً عن العشيرة التي عادت لتصبح قوة سياسية فاعلة، بعيداً عن المسجد وقد صار منبراً للسياسة في عصر العولمة والأنترنيت (هل يلزم الناس خطيب يعلمهم أصول التحية والسلام، اذا كان بامكان الجميع أن يتعلموا أرقى المعارف وينالوا أعلى الشهادات في خير و شر جوانب العلم – والأدب-  عبر الانترنيت؟).

لكنّ الوطن الذي نحلم به يبدأ من…صيفنا اللاهب المترب…ولهذا قد نكره الوطن، رغم أن العراقي يغني منذ نصف قرن “جنة جنة جنة يا وطننا”، والكراهية تتخفى بالثياب التالية:

*في المدارس الابتدائية درس اسمه التربية الوطنية، من هنا تبدأ الكراهية، فالوطنية لا تحتاج الى تربية، مادة الدرس وضعت بهذا الشكل بعد العصر العثماني والتدريس الملائي لتحل محل مادة السياسة المقرّة في المدارس الأوروبية التي وردتنا منها المدارس ومناهجها، وهكذا أخذنا من أوروبا مدراسها وحذفنا درس السياسة.

*في المدرسة لا يتعلم الطفل كيف يذهب إلى الحمام ولا كيف يجلس في المرحاض ولا كيف يأكل ولا كيف يتبع آداب المائدة ولا كيف يحيي من يكبرونه ومن يصغرونه ولا كيف يحب أخوته ويحترم الغرباء ويحب أصدقاءه ويحب جيرانه.

*تخلو المدارس في بلادنا من مراحيض ومكتبة ومرسم وقاعة رياضة ومختبر، وحلّ محلها مسجد أو مصلى، وهكذا يتعلم التلاميذ أنّ المهم في البداية هو ما يظهرونه للآخرين لا ما في جوفهم وما في عقلهم وما في قلبهم وما في قوة بدنهم، وبهذا يتعلمون أصول الرياء.

*يقف التلاميذ للمعلم إجلالا حين يدخل، ويسكتون حين يكون الأب في البيت، ويخفون عنهما كل ما يخص مشاعرهما. فيتعلم التلاميذ عبادة الأقوياء، وتتربى نفوسهم على سياسة الخوف.

*يتخرج التلميذ من المدرسة غالباً وهو لم يتعلم العربية، لأنّ المناهج تدرسه القرآن من حيث هو تعليمات الجبار المتكبر الذي يراقب سكنات النفس وحركاتها ليلقي بها في سقر لأنّ صاحبها لم يصلِ الفجر قبل 40 عاما، ولا تعلمه القرآن الذي حفظ لغة العرب وجعلها من أبلغ لغات العالم وجعلهم أمة تملك نصف علوم البشرية (قبل ألف عام).

*في المدارس والجامعات يدرس الناس التاريخ والجغرافية كما صنعها الحكام، ولا يتعلمون شيئاً عن تاريخ الشعوب المحفوظ في قصصها، لأنّ دروس التاريخ والأدب العربي تختص بآداب النخبة والآداب التي تهتم لمصالح النخبة، وهكذا يتعلم العراقي عبارات مثل “الوطن العربي الكبير، القطر العراقي، مصالح قومية، الأقليات غير المسلمة، أعداء الأمة العربية، بِيضٌ صَنائِعُنا، سودٌ وقائِعُنا، خِضرٌ مَرابعُنا، حُمرٌ مَواضِينا ” فيتيه بين هذا وبين ما يراه في الشارع.

*لا يوجد في كل مناهج ومراحل الدراسة درس عن مشاعر الإنسان، ولا عن الحب، فكل العلوم “الانسانية” المقرّة تُغذّي في التلاميذ والطلبة كره الإنسانية والحقد على الآخرين والأنانية وحب الملكية والاستئثار بالمغانم والشك في الجيران، والغرور والغطرسة الفارغة. الحب مادة محرّمة في المدارس وتدرّس غالبا ضمن مادة التربية الدينية تحت مسمى “الزنى”.

*لا يوجد في دروس اللغة، دروس آداب الحديث، كيف تخاطب مديرك، وكيف تخاطب اخيك وكيف تخاطب زوجتك وكيف يخاطب الرجل المرأة التي لا يعرفها وماذا يقول الصغير للشيخ…كل ذلك غريب ولا يتعلمه الناس، فيما الشعوب تدرّس ذلك في المدارس.

*لا يتعلم التلاميذ دروس الطبخ، ولا يتعلمون كيف يصبحون فلاحين ولا كيف يصبحون ميكانيكيين ولا من أين تبدا مهنة سمكرة السيارات والنجارة والحدادة وحتى جمع القمامة والبناء.

*حامل شهادة الدكتوراه يلزمه أن يطلب من كاتب عرائض المحكمة وكاتب عرائض شهادة الجنسية وكاتب عرائض العقارات والأملاك عرض شكواه أو طلبه، وكأن شهادة الدكتوراه لا تشفع له أمام إرادة موظفي الدوائر الموروثة من عصر العثمنلي، لماذا تمنح الشهادات اذاً؟

*التلاميذ في الشوارع يمشون في حوض الشارع، إذ لا توجد أرصفة للسابلة، بل أرصفة لأصحاب المحلات وتجار الجملة وباعة البسطيات وأصحاب السيارات الفخمة الفارهة. المواطن قدره أقل من ثلاجة على الرصيف.

*لا يمكن لتلميذ المدرسة أن يقصد مدرسته بدراجته أو عجلته الصغيرة أو بوسائله الخاصة، ففي الشوارع لا توجد مسارات للدراجات ولا أرصفة لدراجات وعربات الأطفال وعجلاتهم ومزلقاناتهم، ولا توجد ممرات ومصاعد لذوي الاحتياجات الخاصة ووسائل النقل التي تقلّ عن سيارة، وكأنما القانون يحمي أصحاب السيارات فحسب.

*تلامذة المدارس وطلبة الجامعات لا يسافرون الى متاحف أو حدائق أو غابات أو مراعٍ، ففي المدن لا توجد مساحات خضراء، ولا غابات حولها، والأشجار تموت ولا تشجير يحل محلها، وكأنها دعوة للصحراء أن تدخل بيوت الناس، ويسأل الناس حائرون من أين يهجم عليهم غبار الصحارى؟

*ليس أمام التلميذ إلا أن يأكل من عربة تعرض الفلافل لفات مكشوفة واللبلبي تحت أكوام الذباب والشلغم مخلوطاً بالغبار والهواء البكتيري المحمّل بالعوادم والأبخرة السامة. الطعام واللحوم والفواكه والمخضرات تعرض مكشوفة في الأسواق يحوم حولها الذباب والجراثيم والغبار ودخان عوادم السيارات، وفي الفترينات تُعرض الاحذية والملابس والعطور والمكاييج والحقائب وحتى السيارات!

رن جرس الفسحة، فغادر الشبان الى أوروبا. وصل عدد اللاجئين الى ألمانيا وحدها خلال عامين مليون و400 ألف إنسان تعلموا دروس الكراهية في مدارس الوطن وثوراته الطائفية الأصولية فحملوها معهم إلى المهاجر.

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

حادثتان غريبتان

حادثتان غريبتان

بقلم الكاتب والباحث محمد حسين صبيح كبة تمهيد في هذه المقالة / البحث سأقوم بذكر حادثتين غريبتين مرتا بي ثم اقوم ببعض التحليلات. المتن ألف- الحادثة الأولى: كنت في عمان الأردن أتابع التلفاز على إحدى القنوات الفضائية التي كانت مسموحة في الأردن وغير مسموح بها في العراق إلى...

قراءة المزيد
السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

أ. صباح علو / خبير السلامة اًولاً: تدابير السلامة التي يجب أن تتوفر في منزلك هي: طفاية حريق متعددة الأغراض (بودرة - ثاني أكسيد الكربون) ولابد من ملاحظة الآتي: -   وضعها في مكان بارز يعرفه جميع أفراد الأسرة وبشكل رأسي. -   وضعها في مكان لا يمكن الأطفال من العبث بها. -...

قراءة المزيد
السلامة المنزلية (الجزء 1)

السلامة المنزلية (الجزء 1)

سلسلة مقالات بقلم صباح رحومي السلامة هي العلم الذي يهتم بالحفاظ على سلامة الإنسان، وذلك بتوفير بيئات عمل وسكن آمنة خالية من مسببات الحوادث أو الإصابات أو الأمراض من خلال سن قوانين وإجراءات تحث على الحفاظ على الإنسان من خطر الإصابة والحفاظ على الممتلكات من خطر التلف...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *