تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

عوالم آدم الغريبة المدهشة!

فبراير 19, 2022 | 0 تعليقات

في العاشرة من عمره، رسم آدم لوحة بألوان الباستيل، ظهرت فيها صورة أمّه وهي تهديه علبة أصباغ مائية وفرشاة وقلم قائلة: هكذا ترسم لي شيئاً جميلاً يريح النفس! بجانب الأم رسم بيتاً بابه مشرعة في مهب الريح، وفوقه مدخنة رصاصية اللون تتصاعد منها حلقات دخان المدفأة والطبخ اللذيذ. ثم رسم نفسه واخته الأصغر منه وشقيقهما الأصغر. وأمام البيت رسم ثلاث أشجار نمت منتظمة في صف واحد لتتدرج أطوالها بموجب أطوالهم. وحين سألته أمه لمَ لم يرسم صورة أبيه وسط هذا الحشد المنزلي، أجابها إنّه سمين ولا يجد له مكاناً في الصورة، رغم أن أباه هو من علمه الرسم.

تلكم الأشجار التي رسمها كانت قد زرعتها خالته في مساحة الرصيف غير المبلط أمام البيت، والذي حوله أغلب السكان إلى حديقة خارج الواجهة الأمامية للبيت، وزرعوا فيها شتلات ورد الدفلى الوردية والبيضاء المرة السامة. خلف صف الدفلى، شتلت خالته شجيرات ثلاث وسمتها بأسمائهم. الكبيرة شجرة صنوبر خصصت له وأسمتها عنبر، والوسطى شجرة سدر خصصت لأخته وأسمتها هالة، والصغيرة شجرة صفصاف باكية واسمها أموّنة وهي نصيب شقيقه الذي يصغره بسبعة أعوام.

خلال تلكم الأعوام، عرف آدم لينا، وهي أرمنية في عمره، ناحلة البدن بنهدين تكعّبا تواً تنحت تكوّرهما بلوزتها البيضاء ذات الرقبة الملتصقة بجسدها والتي كانت موضة العصر، وأسفل البلوزة كانت ترتدي غالباً تنورة ذات كسرات حمراء وصفراء قصيرة تكشف عن فخذيها وركبتيها، أو سروال جينز ملتصق بجسدها. شعرها أسود لامع ينساب كالحرير على كتفيها، ووجهها جميل ناحل بعينين نجلاوين مغرقتين في السواد. لكن تلك المعرفة جاءت بعد عذاب وحرمانٍ مضنٍ. فحين بلغ الحادية عشرة بدأ ينمو في داخله شوق غريب لملامسة البنات، إلا أنّ الوصول إلى أيّ منهن كان صعباً، فالصغيرات لا يفقهن ما يروم ويرفضن اللعب معه لأنهن تربين على الفصل بين الفتيان والصبيان، أما الأكبر سناً فيسخرن منه ويتعبرنه فتاً غراً غير بالغ لا يفقه شيئاً. وهكذا كان عليه أن يتناسى ذلك الشوق، بل التوق الغامض لتلمس البنات، وينشغل عنه بمكتشفات جديدة تدهشه كل يوم. ولم يعد يخرج مع أمه وأبيه وأشقائه، فقد كبر عن هذا العالم وبات يخرج وحده. لكنه بقي منطوياً على نفسه.

في المدرسة كان التلامذة يرون فيه غرابة غامضة تنفرهم عنه، وهذا ما جعله يعكف على عالم الكتب، فاكتشف سلسلة علمية ملونة عن عالم المعرفة متروكة في غرفة المجلات الملحقة بغرفة جده في واجهة الجزء القديم من البيت، ومن بين كتبها “دليلك إلى عالم الحشرات”، “دليلك إلى عالم المتحجرات”، “دليلك إلى عالم النجوم والكواكب”، “دليلك إلى عالم الصخور”، “دليلك إلى عالم الأنهار والبحار والمحيطات”، وقائمة الدليل تمتد وتتواصل حتى يعجز آدم عن متابعتها. وباتت السلسلة كل عالمه حيث لا يحتاج إلى رفيق أو صديق، بل يتعامل مع حقائق علمية يحاول أن يجمعها في نمط خاص، وهكذا حوّل المرصد في أعلى غصون ست الحسن إلى مكتب يخزن فيه المعلومات التي يجمعها عن هذا العالم.

خلف بيتهم القريب من دجلة، جنينة منسية فيها شجرتان: “أم الخير” وهي زيتونة زرعها خاله خلف باب غرفة طباختنا الإيرانية الكهلة “نه نه إسماعيل” الحديدي الأزرق المفضي للجنينية. حسب أقوال الكبار، كانت ثمارها زيتوناً برحياً، والزيتون يكنّى بأسماء التمر في بغداد. فيما تتوسط التوته العملاقة “ست الحسن” الجنينة وهي تغذي بيتهم وبيوت من حولهم بأشهى ثمرات التكي الأبيض الغليظة المترعة بماء التوت اللذيذ، وقد نمت وحدها دون أن يغرسها أحد وقضت على كل ما سواها من الحشائش والأشجار، فاقتصرت الجنينة الخلفية على تلكم الشجرتين. وحين وعى آدم تفاصيل الحياة حوله، كان قطر جذع الشجرة قد بلغ طوقه ذراعي رجلين مدتا حول جذعها الذي بدت تغزوه حشرات الأرضة البيضاء الكريهة. ولا يتذكر آدم، من منح الشجرتين اسميهما، لكنه فطن على العالم وجناهما العطر اللذيذ يتدفق على أهل بيته وأحبتهم.

جنى أم الخير من الزيتون الأسود كان يتساقط فوق سقف مطبخ جيرانهم الحجازيين المعزول عن مساحة بيتهم العملاق في جنينة خلفية تتاخم حدود جنينتهم. ودأب آدم على جمع جنى الزيتون من فوق سطح الجيران، وهو يتحدث لمن يكون منهم في الجنينة، وغالباً هنّ نسوة ذلك البيت. كانت أقرب سكان البيت إليه عمراً ابنتهم ميادة التي كان يلعب معها قبل سنوات، ويحسب دائماً أنها تكبره بعامين، ولكنه لا يعرف كيف يسألها عن ذلك، وهما يتراكضان دائماً كالمجانين حول بيت أهلها الشبيه بقلعة رمادية كبيرة قليلة النوافذ.

أما جنى التوت اللذيذ فكان يتساقط كثير منه على أرض الجنينة الخلفية القاحلة المجدبة، لكنه طالما خشي أن يلمه من تلك المنطقة، ففيها أفعى بيضاء وعربيد أسود مرقط بالصفار، وعقارب وعناكب لا حصر لها. لذا كان يجني التوت من سقف بيتهم، حيث تسيل مساحة وافرة من غصون الشجرة في ناحية من سطحهم المترامي المساحة، عبر سياجه المنخفض الملاصق لها. كما كان باقي الجني يتساقط فوق سطح غرفة خالته سامية المنفردة في مساحة السطح، ولكنه لم يكن يتسلق كل يوم لسقف تلك الغرفة لأسباب يجهلها، بل كان يفضّل تسلق التوته العملاقة من جدار السطح المنخفض، حتى يصل قمتها الشاهقة التي يرى من فوقها شاطئ دجلة وكورنيش أبي نؤاس، بل ويرى ضفاف القصر الجمهوري عبر النهر، على ضفة كرادة مريم المقابلة لكرادتهم الشرقية.

حزمة من غصون ست الحسن، تتدلى فوق بيت جيرانهم التركي عصمت السراج وزوجته القصيرة السريعة أم منال. أكثر ما يلفت نظره في سكان ذلك البيت هو ابنهما الطيار الأنيق الوسيم الأشقر نشأت، وبنتاهما نزيرة وأسماء العاملتان في السفارات، فيما تعمل أيسر الأكبر منهن في وزارة الخارجية حيث تأتيها كل يوم سيارة دودج شاسعة الحجم أنيقة صفراء بلوحة كتب عليها (72 خارجية) لتأخذها من البيت صباحاً وتعيدها إليه عصراً عند انتهاء الدوام. بينما اعتاد آدم أن يلعب مع ممت ابن بنتهم الكبيرة منال، حين يزور بيت أجداده في عطل نهاية الأسبوع وفي الأعياد، وكانت لهما مغامرات موحلة مثيرة للشفقة والضحك في الطواف حول البيتين العملاقين.

باقي غصون ست الحسن المثقلة بالثمار تتدلى في جنينة بيت المستأجرين المسيحيين الملاصق لظهر بيتهم، وما كان يعرف شيئاً عن سكان هذا البيت لأنهم مستأجرون يتغيرون مراراً، فالبيت عبارة عن غرف مؤجرة لعوائل تلكيف المسيحية المهاجرة إلى بغداد، لكن العلامة الفارقة لذلك البيت الكبير هو إهمال ساكنيه الشديد لجنينتهم الكبيرة، بشكل بات ارتفاع العشب والحلفاء فيها يصل إلى خصر رجل. فيما كانت نساؤهم يضعن جرار الجبن والمخلل الكبيرة الخضراء المسمرة في طارمة البيت الخلفية، ويجلسن على الأرض وهن يقرّضن ثمار البامياء والشلغم والشوندر والفاصولياء الخضراء الشهية ويقشرن ثمار البصل والبطاطا والباذنجان والشجر لإعداد وجبات الغذاء، ويلقين بعظام اللحمة إلى قطط الجيران التي تحتشد حولهن وبينها قطتنا الانيقة السمينة لاميا. وكم تلصص آدم عليهن من نافذة غرفة خالته الكبيرة المطلة على الجنينة الخلفية وقد افترشن أرض الطارمة فاتحات سيقانهن فتبين لبسانهن بشكل فاضح حتى أنّه يميز ألوانها رغم بعد المسافة عنهن.

حلم المراهقين سياقة سيارات اهلهم

قرر آدم أن يبني مرصداً فوق شجرة التكي العملاقة، وهكذا بدأ ينقل إلى قمتها ألواح خشب جمعها من بقايا قفص الدجاج الكبير الذي كان خاله قد بناه تحت شجرة الزيتون، وتركه حين تزوج وغادر البيت، فلم يعد هناك دجاج وصار القفص مزبلة. واحتاج آدم إلى بضع ألواح أخرى لإكمال المرصد فصار يجمعها من سوق الخضرة العامر في ارخيته، وكان البقالون يعترضون أحياناً، ولكنهم في الغالب يتنازلون في النهاية عن صندوق طماطم أو صندوق تفاح لبناني عطر، فينقلها على دراجته الهوائية إلى البيت ليكمل بها بناء مشروعه.

اكتمل تشييد المرصد، لكنّ اهتمام آدم به بدأ ينطفئ، إذ اكتشف أن بوسعه الجلوس مسترخياً فوق عقدة غصون في أعلى الشجرة، بل بوسعه أن يغفو هناك دون خطر، فالغصون غليظة متشابكة بشدة، وحين يجلس فوقها لا تنحني تحته، وهكذا فإنّ بوسعه الجلوس فوق ذلك العش الطبيعي ساعات ومراقبة الأفق بمختلف الاتجاهات. وهكذا أهمل المرصد، وبات يجلس على عقدة الغصون، ويراقب كل الآفاق بمنظار عسكري وجده في علية الأشياء العتيقة المجاورة لغرفة نومه المستطيلة المضحكة، ولاسيما أفق القصر الجمهوري عبر نهر دجلة. وكان يلفت نظره وجود بعض الأطفال وهم يلعبون في المساحة الرملية الملاصقة لخلفية القصر المطلة على النهر. وصار ناظوره العتيق يريه أولئك الأطفال ويكشف له أن بينهم بعض البنات، كما يكشف له ألوان ملابسهم، بل وحتى أشكال أحذيتهم، وأغلبها بوتينات رياضة بيضاء على جانبها ثلاثة خطوط زرق.

في أوج اهتماماته بعالم الحشرات والهياكل، لفت نظره مملكتا نمل منفصلتان تحتلان أسفل الجدار العتيق في الممر الرفيع المحاذي للجدار الشاهق لغرفة الجد وغرفة الحمام والمغاسل الملحقة بها والتي تضم كنوزاً من الكتب والمجلات المعرفية التي يخوض فيها جولاته اليومية. الجدار يصل عرضه إلى نحو متر، وهو مبني باللبن الطيني المسلح بجذوع أشجار القوغ والصفاف البيضاء المستقيمة اليابسة، وقد جرى اكساؤه من الخارج بالنورة والجص، ومن الداخل جرى تبييضه في مرحلة لاحقة بالجبس.

وجاء اكتشافه للمملكتين ضمن رحلات بحثه العلمية التي كان يشنها غالباً إبان مساحات الخدر الصيفي بعد ظهيرة كل يوم، حيث ينام الجميع، ولا يبقى سوى عالم الحشرات والحيوانات حوله. إحدى المملكتين كانت مملكة نمل عربي أسود صغير نشيط سريع الحركة، وتقع أسفل إطار الباب الحديدي الأبيض الذي ينتهي به الممر الرفيع، والأخرى كانت مملكة نمل فارسي أشهب اللون وتقع في زاوية غرفة الجد المطلة على جنينة الدار الأمامية، وهي زاوية ترتفع عن مستوى الشارع بثلاث درجات سلم، وهو ارتفاع كل البيت عن مستوى الشارع، ربما تحسباً لمياه الامطار أو فيضانات نهر دجلة القريب.

وخطر لآدم أن يختبر سكان المملكتين، فطلى كل نملة فارسية كبيرة تمر أمامه بزيت الطعام بفرشاة دقيقة ليرى رد الفعل من الطرف الآخر. لم يحدث شيء في البداية، فأدرك أنّ عليه بذل المزيد من الجهد ليطلي أغلب أو كل سكان مملكة النحل الفارسي بالزيت ويرى ما يحدث. وهكذا أنفق ثلاثة أيام، منحنياً على مسار النمل الفاسي القادم من جنوب البيت وهو يزّيت نملة نملة. في اليوم الرابع، اقترب منذ الصباح من مسرى النمل المتعاكس، وبدأ يرصد حالات تشمم النمل العربي للنمل الفارسي المدهون بالزيت. ثم بدأ المساران يتصادمان، وهذا لم يحدث من قبل قط، فالنمل الفارسي كان يسافر دائماً من الجنوب إلى الشمال لتصيد الرزق، فيما يسافر النمل العربي من الشمال إلى الجنوب لنفس الغرض وكلا الرتلين يتجنبان التصادم، أما اليوم فهما يتصادمان ويختصمان، وبدأ النمل الفارسي يقتل النمل العربي الصغير، ويحمل جثثه إلى مخابئ طعامه الشتوي الدفينة. في اليوم التالي حاول النمل العربي أن يشنّ هجمات معاكسة عبر مجاميع مكونة من نملتين أو ثلاث، تتفق في الهجوم على نملة فارسية شهباء، ونجحت بعض تلك المحاولات في القضاء على بعضها، ثم انهمك جزء آخر من مملكة النمل العربي بنقل جثث النمل الفارسي القتيل. أشعل آدم حرباً ضروساً بين المملكتين لمجرد أن يراقب ردود الفعل.

عالم آدم الوحيد ينقسم بين لينا الرقيقة الجميلة، وبين ممالك النمل وبقايا الحشرات، وتجمعت له في رحلات البحث حصيلة من المقتنيات، ظلت تتكاثر في علبٍ وقنانٍ، فاحتار أين يخفيها، حتى اهتدى إلى حمام قديم متروك بجانب نهاية الممر المترب الملاصق للجدار الشاهق للبيت العتيق، دأبت قطط بيتهم وبيوت الجيران على الولادة في غرفة تغيير ملابسه. وتجمعت في الحمام المظلم، علب وقنانٍ وأنصاف قنانٍ كان يكسرها بحيلة فنية تعلمها من مجلة ليحصل منها على أوعية زجاجية مختبرية، حيث كان يلفّ خيطاً على منتصف القنينة التي يروم قطعها، ثم يبلل الخيط بنفط الإضاءة، ثم يغمر أسفل القنينة بماء بارد ويوقد في الخيط النار، فتنفصل القنينة إلى نصفين قسّما بشكل منتظم، وحافات الكسر تبقى مستقيمة دقيقة دون نتوءات زجاجية جارحة. واعتاد أن يقفل أنصاف القناني والعلب بأغطية يبتكرها من الكرتون، أو من العاب معدنية أو بلاستيكية قديمة لم تعد تثير اهتمامه، فيستعين بها لإنتاج أغطية مفيدة.

المقتنيات المحفوظة في تلكم الأواني ضمت: بقايا دبابير، بقايا نحل، ذباب ميت، بعوض ميت، عناكب بأشكال وألوان مختلفة، هياكل جراد بأحجام وألوان مختلفة، صراصير حقل صفراء ميتة، فراشات بألوان زاهية، وهبته بعضها بنت عمته نسرين، أجزاء من عقارب ميتة سوداء وصفراء وبيضاء، بقايا مرادين حمراء، خنافس سوداء ميتة،  أذناب حية أم سليمان، وأذناب سحالي الجدار “أبو بريص” بحجوم هائلة، ضفادع محنطة بألوان وحجوم مختلفة، بقايا نمل فارسي وعربي جمعها في أوان زجاجية بعد أن أبادها في تجاربه الحربية التي أجراها على مملكتيهما، بقايا عصافير، بقايا خبز عفن، عظام دجاج نافق، فكوك خراف مذبوحة كان يجلبها من القصابين في سوق الخضرة، 3 جلود لحيّة البيت “صالحة” التي اعتادت أن ترقد مستبردة في غرفته، وجلود أخرى لأفاعٍ مجهولة عثر عليها في رحلاته على شواطئ دجلة وفي أرجاء بيتهم العتيق وبيت جيرانهم الترك والحجازيين. كل المنطقة كانت تعج بالأفاعي والعقارب لقربها من النهر. وجوهرة المجموعة، جمجمة كلب وضعها في زجاجة مربعة لحفظ المخللات سرقها من مطبخ نه نه إسماعيل. الملفت للنظر أن بعض تلكم الحشرات والزواحف مضى عليها عام في الزجاجة ومع ذلك ما زالت سليمة الهيكل والشكل، وقد تعلم من هذا أنّ الحشرات يمكن تحنيطها دون صعوبة.

حاول آدم أن يقرّب صديقته إلى عالمه، فأخبرها عن مختبره ومرصده السري، وعن مملكتي النمل وتجاربه عليهما، ودعاها أن تزور بيته ليطلعها على تلك العجائب، لكنها نظرت إليه مستغربة وهي تقول: كيف تريدني أن أزور بيتكم؟ ماذا يقول الجيران والناس؟ هذا غير ممكن.

وبات لقاؤه بتلك الفتاة مشكلة حقيقية، فهو في العادة، يتابعها حين تخرج إلى السوق، ويسير إلى جانبها، ويكلمها خلسة، ولكنها تعتذر عن الخروج معه، أكثر من ذلك لم يكن يستطيع الخروج معها. وتفاقم شوقه ورغبته في خلوة تجمعهما بعيداً عن عيون الناس، حتى برقت في خاطره فكرة خال أنّها يتحقق له مراده. وهكذا قرر أن يتعلم سياقة سيارة أبيه خلسة. وبدأ يجلس في ظهاري عطلة صيفية خلف مقود السيارة، ويفعل ما يفعله أبوه حين يقود، فتعلم وظيفة المقود، وبدال السرع، والموقف القدمي، والموقف اليدوي، والكلج وهو مصيبة المصائب. كما تعلم استخدام كهربائيات السيارة. وبعد أسابيع من التعلم النظري ومراقبة أبيه وهو يقود السيارة، قرر آدم أن الوقت قد حان للقيام بتجربة عملية، وبقي يترقب فرصة للقيام بهذه المغامرة الخطيرة.

وفجأة سافر أبوه في رحلة عمل رسمية إلى بولونيا لمدة ثلاثة أسابيع، فوجد فرصته التي طالما بحث عنها. وفي ذات ظهيرة بغدادية ساخنة، سرق مفاتيح السيارة من حقيبة والدته، ودفع السيارة خارج الكراج مع ابن جيرانهم الذي يكبره بعام واحد، ثم جلس خلف المقود، فيما جلس الصبي الآخر إلى جانبه. كان كل جسده يرتجف رعباً من هول التجربة، ووجد صعوبة في تشغيل السيارة، وضع دواسة الكلج، وتنظيم رفع قدمه عنها بالتزامن مع الضغط على دواسة البنزين. انطفأت السيارة عدة مرات، وفشلت جهوده في تحريكها متراً واحداً. ثم جرب للمرة العاشرة، فتحركت السيارة مترنحة ثم استقامت في سيرها، وصار عليه أن يلتفت إلى الخطوة التالية أذ ارتفع صوت محرك السيارة، وهكذا وضع بدال السرع على النمرة 3 ومرة أخرى عادت السيارة تترنح، فأعاد البدال إلى نمرة 2 واستقرت نسبياً لكن ما لبث ان عاد صوت المحرك مرتفعاً، وهكذا كان عليه أن يغير البدال مرة أخرى، لكن شارعهم المؤدي إلى أبي نؤاس انتهى، وبات عليه أن يتوقف قبل أن يستدير إلى الكورنيش، وتوقف وكانت تلك قصة أخرى اذ انطفأت السيارة مرة أخرى!

ومضى أكثر من أسبوع على هذا الوضع، وفي كل يوم تتكرر بعد الظهيرة قصة الدرس العملي مع صديقه الجديد. تحسن أداء آدم، لكن ما برحت السيارة تنطفئ عند شروعها بالحركة حين يكون البدال على نمرة واحد، اذ تقفز، ثم تخمد ساكتة عدة مرات، حتى ينجح في النهاية في ترويضها، أو تنجح هي في ترويضه لسرعة دوران محركها! إبان هذا الوقت، كان شوقه للخروج مع لينا بالسيارة يتقد مشتعلاً، وحين التقاها وهي ذاهبة إلى سوق الخضرة، سار إلى جانبها وعرض عليها أن يخرجا معاً بسيارة أبيه! فدهشت البنت، وصارت تسأله إن كان يتقن قيادة السيارة، وأكد لها مفتخراً قدرته على ذلك، ثم طلبت منه وقتاً لتخترع قصة تقنع أهلها بالسماح لها بالخروج بعض الوقت، وعاد يخبرها أن أباه عائد للبلد بعد خمسة أيام، ولابد أن يخرجا قبل عودته لأنّ آدم لن يستطيع “الخروج” بالسيارة حين يعود أبوه، لأنه يستخدمها للذهاب إلى دائرته!

بعد ثلاثة أيام اخبرته صديقته بورقة دستها بيده أثناء خروجها إلى السوق أنّ بوسعها الخروج معه يوم غد، ولمدة ساعتان تبدأن في الثانية بعد الظهر. وهكذا استنجد بصديقه العتيد قبل الثانية بدقائق، ودفعا السيارة بصمت خارج الكراج، ثم شغلها آدم، وترك صديقه وسافر إلى منية قلبه. ثم أوقف السيارة قبل أن يدرك بوابة العمارة التي تسكنها، وانتبه إلى أن العطار الذي يلاصق مدخل العمارة قد أغلق محله وذهب لقيلولة يقضيها في بيته القريب، وزاده هذا اطمئناناً. ثم ظهرت لينا من باب العمارة بتنورة سوداء قصيرة ميني جوب، وبلوزة قطنية بنفسجية ذات رقبة، وسارعت تصعد السيارة إلى جانبه، ثم تتوارى نازلة أسفل المقعد بحيث لا يراها أحد من خارج السيارة. وتحرك آدم، وهو يرتجف ملتمساً ألاّ تنطفي السيارة اللعينة في الشروع مثل كل مرة، وحدثت المعجزة وقفزت السيارة تتحرك ولم ينطفئ محركها. وسارع يتجه بها إلى طريق معسكر الرشيد قاصداً الوصول إلى سلمان باك حيث يمكن أن توفر لهما البساتين الواقعة خلف طاق كسرى خلوة هادئة. واستقرت لينا هادئة إلى جانبه وهي تضفي على سيارتهم الألمانية البيضاء الصغيرة حسناً وأناقة ساحقة.

كان يقود السيارة مزهواً بمنجزه الكبير، سيارة أنيقة حديثة يقودها بنفسه وإلى جانبه صديقة جميلة يافعة رائعة. هكذا حقق آدم أحلى أحلامه، ولم يعد يفكر في تلكم اللحظات بمملكتي النمل المتحاربتين، ولا بالمرصد المعلق فوق شجرة “ست الحسن”، ولا بوالدته النائمة قيلولة الظهيرة، ولا بأبيه المسافر إلى عالم بعيد آخر وبالملابس الجميلة الأنيقة والهدايا الثمينة التي سيجلبها له، ولا بجارهم اليافع الصديق الذي يساعده في مؤامرات السيارة المتعاقبة. كلما في مخيلته يدور حول اللحظة التي سيقف فيها بين نخيل المدائن، ويعانق لينا ويغرقها بالقبلات بعيداً عن أعين الجميع، بل ربما مضى معها إلى أبعد من مجرد قبلات! مذياع السيارة يلقي عليهما برامج وأغاني إذاعة القوات المسلحة المختارة الجميلة، وزجاج نافذته يعبئ السيارة بهواء نقي يضفي على الرحلة بهجة سحرية طاغية. وتراءى له مدخل معسكر الرشيد بمدفعيه القديمين، ثم تنبه إلى أن سيطرة عسكرية جديدة قد اقيمت على الطريق بعد بضعة أمتر من المدفعين، وهي لم تكن موجودة حين مرّ من هذا المكان قبل أشهر بدراجته مع أصدقائه وهم مسافرون إلى طاق كسرى! غمره العرق واجتاحه رعب لا يوصف، وانتابت ساقيه رعشة مخيفة، فالطريق ذو ممر واحد، وليس بوسع السائق أن يستدير يميناً أو يساراً لوجود اسيجة بي آر سي خاصة بثكنات المعسكر. إنها مصيدة مخيفة، ولم يعد يتخيل الموقف بعد لحظات، فهو لا يحمل أي وثائق ثبوتية، ولا إجازة سوق، ولا حتى سنوية السيارة! والبنت التي معه لا تحمل هي الأخرى أي شيء يثبت هويتها. وما لبث ان وصل النقطة، وخفف من سرعته يروم الوقوف، فأشار له الانضباط الواقف بيده أن يواصل السير، وهزته المفاجأة فسارع يكبس دواسة البنزين لتقفز السيارة مندفعة إلى أمام وصوت المحرك يئن، فيما بلغ ارتجاف ساقيه مستوى لم يسبق له أن عاشه، حتى قالت له لينا: كفاك ارتجافاً، لقد عبرنا، لا تخف!

وسار بها تحفّ بهما أحلام الخلوة الجميلة المقبلة على ضفاف دجلة، وبعد بضعة كيلومترات، تباطأ السير، حتى صارت حركة السيارات زحفاً، ولم يفهم سبب الزحام، لكنّ الحركة البطيئة التهمت أغلب الساعتين المقررتين لخلوتهما الهنية، وبذا طغى القلق على وجه صديقته، وصارت تلح عليه أن يجد سبيلاً للعودة، قبل أن يدركهما الوقت، ويعود أبوها من عمله في الخامسة عصراً! ولكن كيف، إنّه طريق ذو ممر واحد ولا فتحات شوارع جانبية فيه، وبقيا يزحفان بالسيارة حتى وصلا إلى فتحة بين طريق الذهاب والطريق المحاذي له المخصص للإياب، فإذا مدرعة مسلحة تقطع الشارع الذاهب إلى سلمان باك، وجنود واقفون يرشدون السيارات إلى الاستدارة والعودة من حيث جاءت راجعة إلى العاصمة، واستدار و قد بدا على صديقته الارتياح، اذ يمكن أن يصلا قبل حلول الخامسة عصراً، وعادت البسمة البهية إلى وجه الفتاة، وباتت تقلّب بدال المحطات في الراديو بحثاً عن إذاعة بغداد، أما آدم فكان يشغله بشدة أن طريق العودة فيه أيضا نقطة سيطرة دخول العاصمة ، وهي محاذية للسيطرة التي عبّرتهم وقد رآها حين ابطأ السير باتجاه سلمان باك قبل قليل، ولكن في اتجاه العودة، وصارت كوابيس ما سيجري تبعث في جسده مشاعر مرعبة حتى لم يعد يتلذذ برحلتهما الجميلة!

عزاء آدم في تلكم اللحظات أنّ مسير السيارات لم يتباطأ، وهذا قد يعني أنّ الطريق سالكة والسيطرة لا توقف السير، وفعلاً لاحت لهما السيطرة، وفي وسط الشارع كان يقف انضباط بيده ما يشبه مضرب كرة المنضدة وعليه دائرة حمراء يحيط بها إطار أبيض، إلا أنه كان يومئ للسيارات بالإسراع وعدم التوقف فتجتاز أغلبها نقطة السيطرة بسرعة صاروخية غير معهودة في مثل هذا الحال، وكذا فعل آدم، فاجتاز السيطرة مسرعاً، وقلبه بخفق فرحاً لأنّ الأزمة توشك أن تنجلي.

عند مفرق كنيسة سيدة النجاة ذات الصليب المقوس الكبير، استدار قاصداً شارع الكرادة داخل، وحال أن وصله، طلبت لينا أن ينزلها خشية أن يراها أحد في السيارة معه، وهكذا توقف وأتاح لها الترجل وكانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة وأربعين دقيقة. وما إن غادرت جانب الشارع الذي انزلها فيه عابرة الى الجانب الآخر، حتى قرر أن يقلع بسرعة ليأخذ جولة بالسيارة تأخذه حتى ساحة الجندي المجهول احتفالاً بالمغامرة التاريخية. وأصيب بصدمة كبرى حين سارع إلى تغيير بدال السرعة إلى نمرة واحد، فقفزت السيارة مسرعة وهي تزأر إلى الخلف بدلاً أن تتجه إلى أمام، لقد وضع بدال السرع على وضع رجوع!! واذهلته الصدمة لثانيتين أو ثلاث، ثم سارع يضغط فرامل السيارة بقوة، فتوقفت السيارة على بعد سنتمترات قليلة من سيارة فورد غالاكسي سوداء كانت واقفة خلفه وبات سائقها يضغط منبهها بشدة للفت نظره!

صحح وضع بدال السرع ووضعه على نمرة 1، وهو يبتهل ألا تنطفي السيارة، وبالفعل لم تقفز السيارة، بل لم تتحرك قط!! ضغط على البنزين ورفع رجله عن الكلج، لكن لا شيء! وغيّر بسرعة بدال السرع إلى نمرة 2 وتحرك بسرعة، فأقلعت السيارة ببطيء وهي تتعثر بسبب انخفاض نمرة البدال، لكنها تحركت، وهكذا واصل سيره وأكمل جولته القصيرة حول ساحة الجندي المجهول وعاد إلى البيت وهاجس كارثة يجول في خاطره. لقد تجاوز الكارثة الكبرى التي كان يمكن أن تصيبه وصديقته الجميلة، لكنّ كارثة من نوع آخر ظهرت على السيارة، وستتوجه له أصابع الاتهام حال عودة أبيه من السفر!

أدخل السيارة إلى الكراج بصعوبة دون أن يحدث ضجة قد تنبه والدته في جوف البيت العميق. كان جده واقفاً في شباك غرفته ينظر إلى الحديقة حين أدخل السيارة، لكنّ الجد لا يهتم لهذه التفاصيل، ولن يسبب له مشكلة مع والدته. وانتهى ذلك اليوم دون مشكلات. في اليوم التالي عاد أبوه من سفره في ساعة متأخرة من الليل، وانشغل الجميع باستقباله، ومضت الليلة التالية أيضاً بسلام.

في ضحى اليوم التالي، حاول الأب اخراج السيارة من الكراج دون جدوى، بدّال السرع لا يعمل في كل الأوضاع!! حامت الشبهات حوله وحول تجاربه الغامضة، لكنّها شبهات بقيت في مستوى الظنون، ولم تصبح اتهامات جدية. وعبرت الأزمة بخسائر مالية باهظة دفعها أهله لتعمير السيارة!

ملهم الملائكة / قصة من مجموعة القصص “خرائط العراقيين الغريبة”

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

فيلم مصري ودرس عراقي

فيلم مصري ودرس عراقي

بقلم محمد حسين صبيح كبة الحكاية الأولى يبدو واضحا للعيان أن الفيلم العربي المصري صراع في الوادي هو فيلم به ثيمة وبه حبكة مصوغتان بعناية فائقة. الواضح في الفيلم قيام الفلاحين بزرع القصب وفي سنة من السنين كان منتوجهم من الدرجة واحد بينما بسبب سوء إدارة إبن شقيق الباشا...

قراءة المزيد
مكتبات بدون مناسبة

مكتبات بدون مناسبة

بقلم محمد حسين صبيح كبة كنت في الثانوية قبل السادس الإعدادي في الخامس الإعدادي، وقتها علمنا أنا وصديق مسيحي أن هناك إمتحان في كلية معينة تقبل الطلاب قبل الإعدادية إذا ما نجحوا في الإمتحان. كان الأمر أشبه بحوزة دينية علمية لا تطبق النظام الفرنسي. علمنا بعدها بسنوات أنه...

قراءة المزيد
معجزة سفينة البحر المتجمد

معجزة سفينة البحر المتجمد

بقلم محمد حسين صبيح كبة   في شتاء معين وفي مكان بعيد عن العالم وعلى ساحل ذي بحر في عطلة نهاية الأسبوع قررت أن أتمشى على البحر مرة أخرى. الثلج هذه المرة يغطي المكان برمته وكأنه سجادة حيكت بدقة. المشكلة أنني لم أكن ارتدي حذاءً خاصا بالشتاء وبالثلج بل كان حذاء عاديا...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *