دخلنا في شهر أيار 1984، ومنذ الثامنة صباحاً يتصاعد الغبار حول مقر لوائنا في كتيبان شرق البصرة. المفيد في هذا الفصل الذي يمتد حتى نهاية ايلول/ سبتمبر، هو توقف القصف والقنص بين الطرفين، بسبب انعدام الرؤية، وهذه رحمة. هذا اليوم المغبر حلقت فيه طائرة معادية فوق مواقع فوجينا المتقدمين وانتهى بشبه كارثة!
هذا يوم إجازتي الدورية، وكالعادة، خرجت بمراتب الوحدة إلى التدريب الصباحي العجيب الذي فرضه الجنرالات. وما إن مضت ساعتان، حتى جاء انضباط اللواء يبلغني بضرورة انهاء التدريب لوجود إنذار. انهيت التدريب وذهبت إلى غرفة الحركات، فوجدت هيئة الركن مشغولة بظهور طائرة مسيرة تحلّق فوق قطعات العدو المتقدمة قريباً من خطوطنا، هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها طائرة إيرانية مسيّرة في سماء الجبهة. بقيت الطائرة نحو ربع ساعة تحلق فوق القطعات الإيرانية، وفجأة تخطت الموانع الدفاعية، وباتت تحلق فوق مواضع الفوجين الأول والثاني. وصدر أمر الفرقة برميها، فأطلقت عليها مفرزة الرشاشة ديمتروف الأحادية لمقاومة الطائرات، رشقة واحدة لتسقطها فوراً محترقة ممزقة فوق مواضع الفوج الأول.
وتراكض الجند يجمعون أجزاءها المدمرة، ثم أرسل الفوج كل الحطام إلى مقر اللواء. هي طائرة مصنوعة من خشب خفيف الوزن يشبه خشب الزان الأبيض، وقد طليت باللون الأخضر الغامق، فيما لا يتجاوز حجم موتورها حجم محرك سيارة من لعب الأطفال المتحركة. المثير أنّهم ربطوا عليها كاميرا زينيت عادية، وقد وضعت على حالة التصوير الاوتوماتيكي، وما زال الفيلم الذي صورته في داخلها. وما لبثت استخبارات اللواء، أن كتبت بها تقريراً وأرسلتها بعهدة مأمور إلى مقر الفرقة. ومضت تلك الصبيحة هادئة تماماً وأنا أحسب الساعات حتى انتصاف الليل لأذهب في إجازتي، وتكّت الساعة الثالثة ظهراً وقد انتهينا تواً من تناول طعام الغذاء، فاتصل مقر الفرقة وأبلغ بوجود ضربة كيماوية، وطالب الجميع دون استثناء بلبس الأقنعة.
وارتدينا الأقنعة، ولابد من التعريف بقناع الوقاية، فهو عبارة عن جلد مطاطي غليظ يلتصق بالوجه، فيه مرشحات للتنفس أمام الفم والأنف، على شكل قطعة مستديرة، فيما تغطي العينين قطعتا بلاستك شفافة صلبة، تؤمن الرؤية أثناء ارتداء القناع.
ارتداء القناع لمدة قد تصل إلى ساعة ممكن عملياً، وبوسع العسكري أن يتحمل أثره، (وهنا لابد من التذكير أن الأعمال يجب أن تستمر بهذا القناع، فالمخابر الجالس على البدالة يجب أن يتكلم وهو مرتدٍ للقناع، وكذلك عامل المحطة اللاسلكية، والحرس في نقطته كذلك، وكاتب القلم كذلك، ومفارز مقاومة الطائرات كذلك، بل إنّ الجنود الذين يقومون بالحفر أو بترميم خنادق الرمي أو المواضع يجب عليهم أن يفعلوا كل ذلك وهم يرتدون القناع، وهكذا يسري الأمر على الجميع).
لكن الأمر تطاول، ومضت نحو ساعتين وتأكيدات الفرقة مستمرة بوجود خطر وشيك من وصول غازات سامة إلى القطعات. وما لبث ضابط الركن الكيماوي، النقيب همام (اسم رمزي) أن كشف لي بشكل شخصي، أنّ مدفعية الفرقة 30 ، التي تحتل مواضع شمالنا، قد وجهت ضربة مدفعية بذخيرة كيماوية من غاز السارين إلى قطعات العدو، لكن اتجاه هبوب الرياح تغير فجأة، فباتت السموم تنجرف نحو قطعاتنا، وهو احتمال قائم دائماً حين استخدام الأسلحة الكيماوية. ولذا بقي التهديد قائماً، وبقيت اتنقل بين الملاجئ لأراقب التزام الجميع بارتداء القناع، ثم دلفت إلى ملجأ آمر السرية الرائد حسين، فوجدته قد انتهى تواً من غسل رأسه، وجلس إلى مكتبه مبتسماً وهو يتفرج على التلفزيون. سألته نصف مازحٍ ألا يخشى الغاز الكيماوي، هز رأسه مستهزئاً وهو يقول إنّ أجل الانسان إذا حلّ بالغاز، فبئس الأجل، ولكن لابد منه، وهو لا يطيق وضع القناع، ويفضّل الموت على ارتدائه. غادرته تجنباً لمزيد من الحرج، ومضيت إلى مواضع ضباط سرية المغاوير فوجدتهم يلعبون النرد وهم مرتدين الأقنعة. كان منظرهم يبعث على الضحك والرثاء في آنٍ واحد، فهم يحاولون التكيف مع وضع غير طبيعي بالمرة، وجلست معهم انتظر دوري لألعب، والدقائق تتطاول والتهديد الكيماوي ما برح قائماً.
كان الخوف من إلغاء الاجازات قد بدأ يتسرب إلى نفسي بسبب الأحداث الاستثنائية التي مرت بها القطعات اليوم . وبحلول الساعة السادسة تقريبا أعلن انتهاء التهديد، وجاء الإيعاز بنزع الأقنعة.
نزعت القناع، فشعرت أنّ جلد وجهي ينسلخ معه، وبقيت رقبتي وذقني وحول أذني تحكني لفترة طويلة، وأصابها الاحمرار. ثم بدأ الغبار ينقشع مع اقتراب الغروب وحل البرد الصحراوي القارس. النوم خارج الملجأ ليلاً غير ممكن حتى الآن لسبب البرد. اتصل بي مقدم اللواء طالباً أن أوافيه إلى غرفة الحركات، وما إن دخلت حتى غادر لينال قسطاً من الراحة، وبقيت خافراً في غرفة الحركات حتى دبّ الظلام. وما لبث آمر الفوج الثاني الرائد خميس أن اتصل بمقر اللواء، ليبلغ عن صوت طائرة صغيرة يسمع فوقهم.
ايقظت ضابط ركن الحركات، وأبلغته بما جرى، فجاء مهرولاً، وتكلم مع آمر الفوج الثاني، ثم كلم آمر اللواء، وأبلغه بما جرى، فأمر بفتح النار على مصدر الصوت، وهكذا اشتعلت سماء الفوج الثاني بالرصاص، ولكن الصوت لم ينقطع، وتحركت مفارز الرازيت ومفارز الاستمكان لمحاولة العثور على الطائرة بلا جدوى، فالصوت ما زال مسموعاً ويرتفع أحياناً وخاصة فوق قطعات فصيل حجاب الفوج الثاني.
مرصد الاستخبارات في الفوج الثاني، أبلغ بطريقة ذكية، أنّ مصدر الصوت ربما كان جهاز تسجيل يبث من الحافة الأمامية للعدو كاسيتاً لصوت طائرة بعيد، والصوت يصل بهذا الشكل إلى الفوج الثاني. وجرى تعبير هذه المعلومة إلى استخبارات الفرقة ومنها إلى الفيلق ثم إلى العامة، وبعد نحو ساعتين، جاء تأييد لما ذهب إليه مرصد الاستخبارات، واعتبر الصوت جزءاً من خطة مخادعة تمارسها القوات الإيرانية، لحرف الانظار عن استعداداتهم لهجوم في قاطع عمليات آخر قد لا يكون بعيداً عن قاطعنا.
نتيجة كل ذلك، شعرت أنّ إجازتي ستذهب مع الريح، وسط هذا الضجيج، وبقيت أترقب في غرفة الحركات، ما يمكن أن يُسفر عنه الموقف، وقد انقطع صوت الطائرة فوق قطعاتنا. ولم يصدر عن الفرقة أمر استثنائي، سوى الأوامر المعتادة بتوخي اليقظة والحذر، وابقاء الاستعدادات قائمة. ولم تسجل مراصد الفرقة والرازيت حركة غير عادية لقطعات العدو، وبقي الوضع على ما هو عليه، حتى بلغت الساعة الحادية عشرة ليلاً.
غادرتُ الحركات إلى ملجأي، الجبهة هادئة تماما، والسماء صافية وقد رصعتها النجوم، أجمل سماء تراها العين هي السماء فوق الصحراء، لاسيما في الليل. لا صوت يصدر عن الجبهة، سكوت تام ربما كان يخفي شيئا، لكنه لا يخرج عن الصمت المعتاد الذي يلف الجبهات كل ليلة تقريباً، ما لم تكن هناك فعالية لأحد الطرفين.
في ملجأي ، اتمدد على فراشي، وأشاغل نفسي بقراءة كتاب، وللكتب هنا طعم خاص، لاسيما أني اقرأ كتباً إنكليزية وهذا يغيض الجهاز الحزبي لأنهم لا يفهمون ما أقرأ. بقيت أقرأ والراديو يبث أغانٍ وأخبار ومنوعات، واستمع عادةً لإذاعة الكويت التي يصلنا بثها كاشفا عن عالم لا صلة له بعالمنا المحترق المجنون. ثم رنّ هاتفي، رفعت الجهاز اليدوي فحولني عامل البدالة إلى مقدم اللواء بناء على طلبه. وكلمني المقدم الركن عبد الصاحب علوان بصوت مازح وهو يقول: “عزيزي، ألا تريد أن تذهب في إجازتك؟ أخبرني لأرسل بدلاً عنك ضابطا آخر؟!”
قلت له ضاحكاً، إنني انتظر وكليّ شوق للذهاب، قال مرة أخرى ولكن بصوت جاد هذه المرة “نسّب السيد آمر اللواء، أن تذهب أنت وتأخذ معك إلى مقر اللواء الخلفي وجبة مجازي السرية، على أن ترافقهم أنت شخصياً إلى المنطقة الإدارية للواء ليقوموا بتسليم أسلحتهم إلى المشاجب بإشرافك هناك”.
اسقط في يدي، وفرحت ولكنها فرحة مشوبة بالحزن، فهذه المهمة الأخيرة ستأخذ من إجازتي ساعات طويلة، لكني رضيت وليس من الرضا بدّ، وأجبته بالامتثال للأمر، فقال “مرّ عليّ في غرفة الحركات، وخذ نماذج الإجازات بنفسك!”
وهكذا انتهى ذلك اليوم المزدحم بالأحداث، ولم أصل بغداد حتى الساعة الثامنة صباحاً فاصطادني الزحام الصباحي المعهود في مدخل العاصمة، ولم أصل بيتي حتى التاسعة والنصف صباحاً.
*فصل في كتاب حين مشينا للحرب
0 تعليق