تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

ريحانة السوداء الناعمة على عتبة بيتي!

سبتمبر 29, 2020 | 0 تعليقات

السنورة السوداء اللدنة ريحانة حلت ضيفاً في بيتنا بلا دعوة، وحار بها الجميع، لكن سبب تشريفها الباذخ هو هرنا البرتقالي العاشق زعبور، وشجعها عشقه أن تزورنا في كل الأوقات، وبدأت قصة ألمانية من طراز خاص.

القطط في ألمانيا تشملها القوانين، وصاحب القط المصنف “جوال”، أي الذي يتجول على الجيران، ملزم بتلقيحه وبحرمانه من أسباب التكاثر، وملزم بدفع ضرائب عنه، وملزم بوضع قرص هوية خاصة في أذنه، يحمل عنوان بيت صاحبه ورقم هاتفه.

ولحظنا في البيت أن قطة سوداء ثقيلة الوزن، هرمة تتردد بانتظام على بيتنا، وتقضي ليالٍ فوق سقف السيارة أمام البيت، أو راقدة تحتها، ثم تطور الأمر إلى أنها تصعد السلالم وتقف في باب شقتنا وتموء طلبنا للغذاء، وسبب هذا نشوب أزمة مع قطنا المدلل البرتقالي زعبور، فحال أن رآها، عشقها، وتوله بها، وحال أن نفتح باب البيت ويراها واقفة تطلق مواءها الطويل، حتى يرتمي أرضاً مبدياً استسلاماً كاملا لها.

السنور السوداء ريحانة

لكنّ السنورة السوداء البدينة الهرمة كانت تقابل عشقه بجفاء كامل، وتفسر تقرّبه منها عداء، فتنفخ بوجهه بوحشية محذرة إياه من الاقتراب منها، وبما أن زعبورنا لم يكبر مع عالم القطط، بل كبر في بيتنا منذ كان عمره بضعة أسابيع، فهو لا يعرف أصول الحياة في المجتمع السنوري، بل لم يفهم حتى ماذا تريد القطة السوداء المؤنثة الجميلة بإطلاق هذا الصوت الغريب.

تطور الأمر، وباتت ريحانة تنام أيام وليالٍ بباب بيتنا، وهي في الحقيقة كانت تروم أن تقضي حياتها عندنا، إلا أن سببين منعانا من هذا الكرم الشرق أوسطي: أولهما أنها ما برحت تنفخ على زعبور البرتقالي وتعتدي عليه، ما ولد لدينا شعور بالغيظ منها، فهي تريد ان تأخذ المساحة التي يشغلها الهر البرتقالي في قلوبنا لصالحها، وهذا منتهى الغدر، ويبدو أن شيمتها الغدر. والسبب الثاني: أنّها مملوكة لسيدة ألمانية، ما برحت تتردد علينا وتقول لنا بغير إلحاح “لا تطعموها كي لا تقضي أيامها عندكم”! وتملك السيدة الألمانية قصيرة القامة 7 قطط لا أعلم كيف تقضي أوقاتها معهم، خاصة أن ريحانة السوداء لا تبدو مُحبة لها، ولا تظهر نحوها أيّ مشاعر وفاء.

ودخل الشتاء في كانون الأول/ ديسمبر، وكان شتاء مثلجاً بارداً، وظن الجميع، بما فيهم صاحبة ريحانة، أن السنورة السوداء ستعود إلى عشها الذي هجرته لأسباب غامضة، تحت ضغط البرد وشروطه الصعبة. لكنّ أيام الشتاء مرت ثقالاً باردات وريحانة ما زالت متمسكة ببيتنا، وبات لها أكثر من عشاق، فسكان الشقة التي تحتنا، صاروا يضعون لها صحن لحم، وكاسة حليب، وكاسة ماء كل يوم، فيما باتت بنتا أحد جيراننا في البناية المجاورة مولعتان بريحانة، وما برحتا تضعان لها على نافذة غرفتهما المطلة على الشارع، كاسة ماء وكاسة حليب كل يوم. وهكذا صار لريحانة في واقع الحال 4 بيوت، وهو ترف لا يتوفر لأيّ حيوان منزلي مدلل.

كل صباح، أرى من النافذة مالكة ريحانة، وهي تقترب من سيارتنا، وتنادي قطتها وتمسح على راسها وجسدها، وتناغيها وتصالحها طالبة منها العودة إلى قطيع القطط الكبير، لكنّ ريحانة كما يبدو مصممة على تركها.

مطلع الربيع، وزعت السيدة رسالة على السكان جاء فيها:

“بعد 8 سنوات من العشرة الطيبة والرعاية الكريمة، قررت ريحانة ولأسباب أجهلها أن تهجر بيتي الدافئ المفعم بالمحبة. وإنني إذ أرى في هذا السلوك جحوداً وقلة وفاء، فأنا لا أملك أن أتصدى له، ولا أحمل تجاه ريحانة أي مشاعر حقد، فالخيار متروك لها وهي حرة في أن تختار البيت الذي تريد، وإن كنتُ غير متأكدة حتى الآن أنّها اختارت بيتاً بعينه، فقد قضت كل الشتاء والخريف المنصرم فوق براميل القمامة وتحت أو فوق سيارات الجيران! وبهذه المناسبة، أضع تحت تصرف قراء هذا الاعلان عنوان ورقم هاتف الطبيبة التي تراجعها ريحانة، حيث توجد لديها اضبارتها منذ ولادتها في عام 2012.”

الهر زعبور في لحظة استرخاء

تقبلوا تحيات أم ريحانة السابقة.

صارت ريحانة قصة في المحلة، وباتت سبباً لحوار الجارات أثناء لقاءاتهن المتباعدة في السوبر ماركت القريب، أو في محطة المترو المقابلة لبيتنا. الجميع يعتبرونها متكبرة متعجرفة ويعدون ذا سبباً لنفورها غير المبرر من مالكتها التي ربتها وآوتها مذ كانت قطيطة عمياء رضيعة. وامتدت أيام السنة، وريحانة جزء من المشهد اليومي للعابرين ولأهل المنطقة.

ومع اقتراب الشتاء التالي، توقع الجميع أن تموت ريحانة الشريدة المعذبة، بسبب عجرفتها وكبريائها غير المفهوم. لكن ذاك الشتاء مرّ ثقيلاً متباطئا، ولم يسقط فيه الثلج، كما لم يشتد البرد، فبقيت ريحانة، تقضي لياليها في محركات السيارات المركونة على الأرصفة بحثاً عن دفء تطرد به برد ووحشة الليل البهيم. ومع كل هذا، لم تستجب لدعوات زعبور الملحة، وبقي الهر البرتقالي القلق معذباً يطارد اشباح محبة قد تجود بها الأنثى ذات الفراء الأسود الفاحم المترف. وكلما زاد منها اقتراباً، أوغلت في عنادها وبالغت في تمنعها وصدها له، وكأنها تتلذذ بعذابه ولهيب عشقه.

ذات ليلة، وقبل أن نأوي إلى الفراش نحو الساعة الحادية عشرة، تقرّب زعبور من الباب، وظل يموء بطريقة غريبة ملحة، وهو في العادة لا يغامر بالخروج من البيت ليلاً، ويفضّل التمطرح على الأرائك والمقاعد والسجاجيد، لكنّ إلحاحه هذه المرة لفت أنظار الجميع، فسارع الأولاد يفتحون باب الدار ليروا سبب إلحاحه، فكانت ريحانة بالباب وقد بللها المطر، ووقف شعر رقبتها وذيلها كاشفاً عن رعبها وقلقها من أمر ما.

أذنوا لها بالدخول، فتخطت في ممر الدار وبدأت تموء بشدة وتنفخ في وجه زعبورنا البرتقالي الأليف، وهو يتمطى على الأرض فرحاً بدخولها مملكته، ثم نهض مقترباً منها وهو يهز ذيله بشدة تعبيراً عن سعادته واحتفائه بها، لكن ذلك لم يخفف من رعونتها، وبقيت تنفخ في وجهه بغضب ملفت للنظر. سارع أحد الأولاد يضع أمامها صحناً من طعام زعبور ليختبر شكل العلاقة بينهما. ولم يهتم هرنا لأننا وهبناها طعامه، فيما تزعل الحيوانات المنزلية عادة من هذا النوع من الكرم الذي يطال أشياءها وطعامها، لكن يبدو أن للقطط السمان المدللة طقوسها في الحياة، فهي مترفة شبعة لا يهمها كثيراً الزاد والماء، بل تبحث عن أشياء أخرى لعل الإثارة من أهمها.

الهر زعبور لحظات قبل تعرضه لهجوم السنورة ريحانة

اقترحت ابنتي أن نترك السنورين لشأنهما، وننتظر ما ينتج عن هذا اللقاء، وهكذا تركنا باب الدار موارباً، وانسحبنا لنرى عن بعد ماذا سيجري. ودار حديث في لقاء الأسرة الطارئ حول موقفنا إذا ما قررت ريحانة السوداء المتكبرة أن تبقى عندنا، وكيف سنتصرف بوجود قطين تحت سقفنا. وبات كل فرد من العائلة يدلي برأيه، فيما انتابني قلق مبرر من أن يضاف إلى أفراد البيت فم آكل آخر. (تربية القطط هنا تتطلب توفير الغذاء لها بنوعيه الجاف والرطب، ويباع معلباً، كما يتطلب توفير نوع من الكلس المتحجر لفرش مراحيضها، وهو مكلف أيضاً ويتطلب التغيير مرتين في الأسبوع على الأقل، هذا غير توفير خمائر الفيتامينات التي ينصح بها في الشتاء لمنع تساقط الشعر وتقوية عضلات القطط، إضافة إلى تكاليف الطبيب البيطري الذي يتولى رعاية السنور). وسط هذه التأملات، تعالى صراخ قططي عالٍ في ممر الدار، فهُرع الجميع ينظرون ماذا جرى، فإذا قطنا زعبور طريد البيت يرتجف في رحبة بئر السلم أمام باب البيت، وقد انتفخ ذيله رعباً، ويسيل فوق أعلى انفه خيط دم رفيع، فيما أقعت ريحانة مرتاحة وسط ممر البيت الدافئ وهي تموء بوجهه بشدة وتنفخ بعنف، والظاهر أنّها قد لطمته على وجهه ففر خائفاً من الحبيبة الغادرة. كان المنظر مأساوياً حقاً، ففي لحظة واحدة، طرد زعبور المدلل من بيته، لتحتله ريحانة المتعجرفة السوداء بلا شفقة.

هرعت ابنتي تحتضن الهر وهو يرتجف، ودخلت به إلى المطبخ لتداوي أنفه النازف، فيما انتابني غضب مفاجئ لسلوك هذه القطة المترهلة الجاحدة، فسارعت أطردها من البيت بشدة، بأقسى الكلمات وبصوتٍ عال، ولأنها قطة منزل، فهي تفهم كثيراً من لغة البشر (الألمانية) فسارعت تغادر بيتنا وقد أحست أنّي أطردها، وطالبني أبني الأكبر بالتعقل والترفع عن التصرف معها بطريقة انتقامية، لكني اخبرته أنّ زعبور هو واحد من أسرتنا، ولا يحق لضيفة ثقيلة من هذا النوع أن تطرده من بيته. وانتابني شعور حاد بالغبن، وتألمت حقاً لفكرة أنّ قطة غريبة اقنعتنا لوهلة أن تحتل مكان هرنا المدلل الأليف.

سنورة سوداء في لحظة تأمل

بعد هذه الهجمة اللئيمة، منعت كل أهل بيتي من تقديم أيّ غذاء أو عرض أيّ ضيافة للجاحدة اللئيمة ريحانة، وصرت أفهم بالضبط سبب هجرها لبيتها الذي كبرت فيه، فهي تريد أن تستأثر بقلب صاحبة البيت التي توزع كرمها ومحبتها على سبع قطط، ولهذا فإن سياستها قائمة على ابتزاز السيدة بهجرها، دون الابتعاد تماماً عن بيتها، كي تمارس عليها ضغطاً فتبعدها عن محبة باقي القطط. وقد لا يكون استنتاجي صحيحاً، لكنّ السلوك الجاحد والعدواني لهذه القطة السمينة اللئيمة أوحى إليّ بشدة بهذا الاستنتاج.

خلال الأسابيع التالية، انقطع الجميع عن إطعام ريحانة، وربما كانت لها مع باقي الجيران تجارب مماثلة لتجربتها معنا، ولم تعد القطة الأنيقة الجاحدة تتردد على بيوتنا، ويبدو أن زعبور قد أدرك عبث التعلق بأنثى من هذا النوع، فوجد لنفسه صديقة أخرى في بيت قريب آخر، وبات يزورها في بيتها كل يوم صبحاً وعصراً.

حين حل شتاء هذا العام مبكراً، لم نعد نرى ريحانة فيما حولنا، والظاهر أنّها قد انتقلت إلى مكان آخر، وللقطط فيما تعشق مذاهب.

بون/ 2020

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

فيلم مصري ودرس عراقي

فيلم مصري ودرس عراقي

بقلم محمد حسين صبيح كبة الحكاية الأولى يبدو واضحا للعيان أن الفيلم العربي المصري صراع في الوادي هو فيلم به ثيمة وبه حبكة مصوغتان بعناية فائقة. الواضح في الفيلم قيام الفلاحين بزرع القصب وفي سنة من السنين كان منتوجهم من الدرجة واحد بينما بسبب سوء إدارة إبن شقيق الباشا...

قراءة المزيد
مكتبات بدون مناسبة

مكتبات بدون مناسبة

بقلم محمد حسين صبيح كبة كنت في الثانوية قبل السادس الإعدادي في الخامس الإعدادي، وقتها علمنا أنا وصديق مسيحي أن هناك إمتحان في كلية معينة تقبل الطلاب قبل الإعدادية إذا ما نجحوا في الإمتحان. كان الأمر أشبه بحوزة دينية علمية لا تطبق النظام الفرنسي. علمنا بعدها بسنوات أنه...

قراءة المزيد
معجزة سفينة البحر المتجمد

معجزة سفينة البحر المتجمد

بقلم محمد حسين صبيح كبة   في شتاء معين وفي مكان بعيد عن العالم وعلى ساحل ذي بحر في عطلة نهاية الأسبوع قررت أن أتمشى على البحر مرة أخرى. الثلج هذه المرة يغطي المكان برمته وكأنه سجادة حيكت بدقة. المشكلة أنني لم أكن ارتدي حذاءً خاصا بالشتاء وبالثلج بل كان حذاء عاديا...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *