مالطا هي الجزيرة الكبرى في أرخبيل جزر ممتد في وسط البحر الأبيض المتوسط على نفس خط العرض الذي تقع عليه منطقة الحمامات في تونس، وتشاركها في كثير من الصفات. مساحة كل الجزيرة 246 كيلومترا، بنفوس لا يتجاوز عديدهم 410 ألف نسمة.
فوق مالطا، خلت نفسي أطير في سماء مدينة عربية، خارطة أضوائها في الليل تشبه إلى حد كبير خرائط مدن المتوسط الأخرى. لكن ما لفت نظري حقا العتمة الضاربة حولها، فالبحر ليلا معتم، والطائرة حين تطير فوق البحر تبقى أعين المسافرين تائهة في الظلام تحتهم بحثا عن نور يقول لهم أنتم فوق مدينة، فيهدأ الخوف الطفولي في البحث عن أرض صلبة يقفون عليها، وفي هذه الحالة يحلق الناس فوقها على ارتفاع شاهق. وحين بدأنا نحلق فوق الأضواء المتباعدة، عرفت للتو أننا نحلق فوق مالطا لاسيما أنّ الطيار ما فتئ يطالبنا بربط الأحزمة. على جانبي يجلس عشاق شباب تعانقوا في نوم قضى شطر رحلتهم من ألمانيا إلى مالطا.
المتوسط شمالاً وجنوباً
بالنسبة لي، هذه رابع دولة متوسطية أزورها، شمال وجنوب ووسط بحر المشكلات الأبيض الذي تتزاحم حوله الحدود وتتصارع أوروبا وآسيا وأفريقيا بحثا عن هوية. المتوسط هو ساحل ديانات التوحيد، ولا أحد يعرف سر هذا. كل ما أعرفه عن مالطا، لا يزيد عن أنها موطن حمى خطيرة أصابت منطقة المتوسط ووصلت العراق في سبعينات القرن العشرين، وعليّ أن أكتشف الباقي في هذه الزيارة.
حطت الطائرة على أرض مطار صغير، وكان علينا أن نسير على الأقدام من سلم الطائرة البدائي حتى بوابة الدخول، وهذه مؤشرات المطارات الصغيرة. ولفت نظري أنّ الطائرات الجاثمة على مدرج المطار كلها من شركة رايان إير. هل هي شركة مالطية؟
وصلت من بوابة النزول حتى بوابة مغادرة المطار في أقل من ربع ساعة، وحين أقلتني سيارة الأجرة من باب الخروج، لحظت على جانبي المخرج، نواة لوادي سليكون فتي، يضم شركات غوغل ومايكروسوفت وأبل ومجموعة أسماء لم تعد غريبة على أحد. البلد إذن في طريق نهضة، لأنّ هذه الشركات لا تحل في بلد حتى تضمن استقراره ومسيرته الصاعدة دون مافيات الفساد ودون تقلبات السياسة.
تمرق السيارة بنا بسرعة في شبكة أزقة ملتوية صاعدة نازلة، ما أوحي إليّ بعراقة المدينة، وتاريخها الموغل في القدم، ومع ذلك سألت السائق إن كان قد اتخذ مسارا قصيرا ليوصلني بسرعة إلى غايتي، فأجابني مؤكداً، شارحاً لي أن الشوارع الرئيسية ما زالت مكتظة بالسيارات، مع أنّ الساعة قد جاوزت العاشرة ليلاً.
سليمة – ملتقى الخلجان وقرنتينه الحجز
وصلنا الفندق، فاذا هو مطل على خليج صغير تزدحم فيه الزوارق والسفن واليخوت. تركت حقائبي في غرفتي وسارعت أستكشف محيط الفندق قبل أن تنام المدينة. فسرت بحذاء البحر على طول ساحل يضربه الموج فيفوح عبق خاص لا يعرفه إلا من عاشر المدن المتشاطئة مع البحار، وما برحت ترن في أذني أغنية سعاد حسني العتيقة “والقمر طالع علينا …وريحة البحر هالّة”.
جموع من شبان وشابات، ما زالوا في سنوات المراهقة، تجتاح الأرصفة والشوارع متهادية مغنية عازفة ضاحكة راقصة متراكضة دون أن تضايق أيّ من المارة، بما يشي بأمن الجزيرة واستقرار النفوس فيها. الفتيات كلهن يرتدين شورتات قصيرة، وكذلك النسوة الأكبر سناً، أما الرجال فلهم شورتات أطول وهذا له علاقة بخطوط الموضة التي تتقاصر لتكشف عن سيقان النساء الناعمة الجميلة، وتتطاول لتخفي سيقان الرجال التي يكسوها الشعر.
انتهى ساحلي إلى كازينو عائم فوق منصة مرفوعة على أعمدة، والبحر تحتها، وإلى جانبه حوض سباحة ماؤه شديد الزرقة، تحلق حوله مراهقون ومراهقات وقد نضوا ثيابهم وباتوا يعومون فيه بملابس السباحة. وما أن طلبت شيئاً بارداً أشربه حتى عاجلتني النادلة بالقول “الطلب الأخير في الحادية عشرة، لو أردت شيئا آخر فالأفضل أن توصي به الآن لأنّ البار يغلق بعد 10 دقائق”. وحين جاءت لي بالطلبين، سارعت أسألها عن اسم هذا الجزء من المدينة الذي ضمني معها فوق هذا الكازينو العائم، فقالت بإنكليزية واضحة اللكنة إنها ” سليمة”. سألتها ولماذا سليمة؟ أشارت بإصبعها إلى جزيرة صغيرة مظلمة على خليج يقابلنا وفيها مبنى كئيب وقالت: هذا هو الأصل، إنه قرنتينه لعزل المصابين بحمى مالطا القاتلة، ومنها شاع الاسم فبات يطلق على مركز مالطا المقابل للعاصمة فاليتا، ومضت الى سبيلها. وهكذا تعلّمت في الدقائق الأولى لي أن الشتيمة التي عرفناها في العراق مبكرا “سليمة الكرفتك” مأخوذة من قرنتينه العزل في مالطا. علمت بهذا دون أن أنسى ما قرأته في التاريخ أن مالطا كانت منفى، وقد نفي إليها الزعيم المصري سعد زغلول مطلع القرن العشرين، حيث كانت مستعمرة بريطانية.
شناشيل مصرية وعراقية في كل مكان
في الصباح، تناولت فطوري في الطابق الثامن من الفندق، حيث يطل المطعم على مجموعة خلجان هي قلب مالطا النابض، والجزر تمتد أمام الناظر بلا نهاية، إنه أرخبيل متماسك متلازم، يمكن قطعه بالسيارة، لكن الإبحار يقصر المسافات إلى بضع مئات من الأمتار.
بعبّارة (فيري) مترددة بين الخلجان وتتحرك من خليج سليمة في جزيرة مالطا الكبرى عبرنا إلى العاصمة فاليتا بتذكرة مرجعة قيمتها أقل من 3 يورو. هنا في فاليتا تروي البيوت الحجرية والشرفات الظليلة والشناشيل التي يشتاق لها العراقيون قصص تاريخ ملون مرّ بهذه الجزيرة فترك بصمات غير متجانسة على أهلها وملامحها. لكن، في كل زقاق، وعند كل منحنى هناك كنيسة أو دير صغير. وجلست احتسي قهوة في قبو كنيسة عمرها 600 عام. أغرب ما في المكان الأنيق أن أحداً لم يأت لخدمتي، بل ذهبت إلى رجل وابنته منهمكان بالعمل خلف ثلاجة المكان، وطلبت منهما تشكيلة مفن ساخن من الفرن بالفانيلا ومحشوة بالشوكولاتة السوداء الساخنة المائعة.
قصر الرئيس الماثل وسط العاصمة فاليتا، قريب جدا لثكنة السراي في قلب بغداد، والأسواق حوله تشبه شارع الرشيد حين كان نظيفاً قبل أن يتحول الى مرتع للأوساخ والمهربين والمجرمين. السراي هو قصر الرئاسة وشكله قريب جدا إلى ثكنات الجند البريطانيين في عصور الانتداب مطلع القرن العشرين بمنطقة الشرق الأوسط والهند الشرقية. مراسم تبديل الحرس وملابسهم، وتقاليد العسكرية كلها مستقاة من موروث المملكة المتحدة الدولة الكولونيالية التي كانت لا تغيب عنها الشمس. في مناطق الشرق يسمى عادة السراي.
ثلثا اللغة المالطية مفردات عربية
المفردات العربية تشكل أكثر من 65 بالمائة من كلمات اللغة المالطية، وتراها في كل مكان، حفرة، دائرة، ميدان، زقاق، جادة، مقدس، مسيح والتشابه لا نهاية له.
المالطيون سمر البشرة بملامح شرق أوسطية صارخة، لكن انتسابهم السياسي إلى الاتحاد الأوروبي وفّر مناخا آمنا للجزيرة، وجعلها ملاذا للسائحين الأوروبيين في كل مواسم السنة. وهكذا تكتظ الفنادق بهم، ويزدهر الاقتصاد وينمو بحجم إنفاقهم. ويصح القول إنّ أرخبيل مالطا يعيش اقتصاديا على السياحة، ومع ذلك فإنّ حياة الليل في الجزيرة الصاخبة فقيرة جدا، ولا تزيد عن منطقة ديسكوات كبيرة واحدة، أكبرها اسمه هافانا في جزء من الجزر يدعى باسيفيله، في جزيرة سانت جوليان. مجمع حياة الليل يتسع لثلاثة آلاف زائر، وتجد فيه حرفيا أناسا من كل انحاء العالم، لكنه لا يفتح سوى في عطلة نهاية الاسبوع (السبت والأحد)، ويفتقد إلى مجون قاعات الرقص والملاهي الأوروبية. أما الباقي، فهي حانات تمددت على الأرصفة في أماكن عدة، وجلّها في قلب سليمة النابض، وعلى من يسير على الأرصفة، أن يندسّ بين رواد الحانات لدرجة يضطر معها أحيانا أن يعبر بين جليس وبين كأسه الغارقة بالدخان. أما الموسيقى فتضج بها المدينة حتى أنتصاف الليل ثم يهدأ كل شيء.
مالطا الكاثوليكية ما تزال محتفظة بتقاليد وحدود غابت في أغلب مدن أوروبا الغربية.
الأمان الذي يشيع في الجزيرة، جعل منها ملتقى للساسة من الصف الثاني والثالث، ومعهم سيل المدراء من أجهزة المخابرات والمصارف والشركات الكبرى. الحكومة المالطية تنفذ مشاريع بنية تحتية طموحة، لذا تتدفق الاستثمارات على الجزيرة بلا هوادة، حتى باتت مالطا برمتها ملتقى لكل الناس القادمين من كل حدب وصوب.
لكن بعد جولاتي في زريق والرباط وراس الرحب وغوزو وكومينو ومليحة، اكتشفت أن النشاط الدبلوماسي وما يرتبط به هنا حكر على سليمة ولافيتا العاصمة ومنطقة مالطا الكبرى، أما المناطق الأخرى فليست سوى قرى أو منتجعات سياحية تعانق موج البحر وتضج بالموسيقى والحب والبكيني والغزل. وهكذا كانت الليالي مترعة بالمرح والمباهج وأنا أجول بزورق يطوف بي على القرى والشواطئ الجميلة.
دولة في جزيرة متمسكة بهويتها الكاثوليكية
أما بوابات مدينة Mdina Gates العريقة فتروي حكاية تاريخ تناوب عليه الجميع، لكنه حافظ على نفسه مسيحياً، بل تتجلى فيه روح المسيحية. لكن مناظر الأزقة المالطية ساحرة مفعمة برائحة الماضي.
في القلعة – المدينة – الحصن، يعيش سكان المدينة القديمة، جنباً إلى جنب مع المعالم الأثرية العريقة، الأبراج التي قاتلت الغزاة، وفتحات رمي المنجنيق، مواقف رماة النبال، وقصص موغلة في آلام شعوب وأمم مرت من هنا وحاولت أن تصادر هوية الجزيرة الصغيرة، وكان للعرب والترك منها نصيب يمتد الى قرن ونصف.
الناس في القلعة يبيعون ويشترون الذهب والسجاد والبسط واللوحات، والمصوغات، والصلبان الذهبية والفضية، والخواتم الصليبية والأطعمة والنبيذ والخل والزيتون والأجبان ويمارسون حياتهم، وتقف سياراتهم أمام بيوتهم، جنباً إلى جنب مع الربلات السياحية التي تجرها أحصنة مرفهة أنيقة. رحلة حول أرجاء القلعة وحاراتها الحالمة مع شرح وافٍ تكلف المسافر 35 يورو. تذكرت هنا ربلات الكاظمية وتشابه المنظران عندي بشكل غير متقارب، لكن بنكهة واحدة. الجو ساخن في النهار والشمس الساطعة حارقة كشمسنا.
التاريخ هنا كأنه قد جمد عند سكان المدينة، ماكثاً ليسجل يومياتهم في دفتر تاهت تفاصيله بين القرن الواحد والعشرين وبين عصور ما قبل الميلاد. الأزقة نفسها التي سار عليها الناس قبل العصر الروماني، والكنائس والأديرة في الحصن هي جوهر التكوين التاريخي لهذه الجزيرة. الوصول إلى هذه المدينة والجزر والحافات الصخرية والقرى المتناثرة يسير ورخيص جدا بالحافلات.
النهارات هنا سياحية مغرقة بالشمس والآيس كريم والأجبان والسمك والخبز الشهي، فيما تتقاسم الليالي البيرة والنبيذ والمكسرات والفطائر ونحن نجالس المتوسط من كل جهاته. جولاتي تنتهي كل ليلة في شرفة الفندق، المطلة على واحد من أجمل مناظر العالم. السفن التي تبدو هادئة، تتخاطف بينها زوارق صغيرة، ينزل منها مسافرون يعتلون السفن ولا أحد يعرف ما يدور في العتمة.
جزيرة كومينو التي تسكنها عائلة واحدة
يومي الثالث شهد إبحارا طويلاً في المتوسط لاستكشاف ضفاف جزر الأرخبيل وهي تعانق مياه البحر منذ عصور سحيقة، كانت رائحة الماء خرافية العبق، ونور الشمس المتساقط على أحجار الخلجان يذكّر بقصص الخليقة. نضى الجميع ملابسهم، فبان قبح أجساد الشيوخ والعجائز وحتى الكهول، كما بانت رشاقة ومحاسن أجساد الشباب. وبقيت أنظر إليهم، واعتقل بكاميرتي أحلى لحظات حياتهم وحياتي.
انتهت رحلتنا في جزيرة كومينو، التي يشغلها شخص واحد وعائلته، ويديران فيها فندقاً صغيراً، ومطعم سمك. باقي الجزيرة ليس فيها سوى كثبان واشجار صبار وعليقات شوك متناثرة هنا وهناك. كما يوجد فيها فنار بحري اسمه سانتا ماريا، وموقع بطارية مدفعية بريطانية كانت تحمي الأرخبيل اسمها “بطارية مدفعية سانتا ماريا”.
عدنا مع غروب الشمس، وكان علي أن أسرع إلى المطار، لأغادر جزيرة ضاجّة بالحركة ينسى المرء أنها دولة صغيرة تعيش على السائحين. الحياة هنا سياحة وفرح لا نهاية له.
ملهم الملائكة/ مالطا / صيف عام 2019
0 تعليق