مؤيد عبد الستار
ديباجة
حدث هرج ومرج كبير بين الناس في بلاد الأنهار والفخار أوائل العقد الأخير من القرن الماضي، كان سببه سقوط الحمم والنيران من السماء على البلاد لمدة أربعين يوما، هاج بعدها الناس وماجوا وانتشروا في المدن يعيثون في الأرض فسادا، حتى أنهم هاجموا كل بنايات الحكومة ودخلوها عنوة، وكانت بناية أسرار الدولة قد استبيحت فدخلها الغوغاء ونهبوا خزائنها وملفات أسرارها، وكان من بين ما نهبوا هذا الملف الغريب الذي يحمل عنوان: “مذكرات حمار الرئيس” وجاء فيها:
-1-
ولدت ونشأت حمارا مع لداتي الحمير، نمرح ونعنفص طوال النهار. عشنا مع أسرة من البشر كانوا يقدمون لنا العلف إضافة إلى ما نحصل عليه من نباتات وحشائش منتشرة في أرجاء القرية، نشرب الماء من جدول رقراق يمر من أمام منزل صاحبنا البستاني.
كان أولاد البستاني يلعبون معي ويقفزون فوق ظهري ويداعبونني حتى أن إحدى الفتيات الصغيرات كانت تقبلني من وجناتي بحرارة.
– 2 –
اعتادت أمي الأتان أن تقص لي قصة قبل أن أنام، بعض قصصها كانت جميلة مازلت أذكرها والبعض منها حزين.
روت لي أمي كيف أُجبرت على نقل الأحمال كل يوم حتى أثناء حملها بي، وقالت إن هذه البردعة التي على ظهري صارت جزء مني رغم كرهي لها، كما روى لي أبى قصة استغلاله من قبل البستاني، رغم أنه من عشيرة الحمير الحساوية التي اشتهرت بنبلها وقوة أبدانها وبياض بشرتها، فهو حساوي معروف بأصله ونسبه كما ان أمي ابنة عمه أيضا، فهما من أرومة وعشيرة واحدة.
علمت من حكاياته التي كان يقصها عليّ حين نسير في طريقنا إلى البستان لجلب المحاصيل، أن هناك ظلما كبيرا حلّ به.
-3 –
ما أن بلغت الحلم وفهمت ما يدور حولي، حتى جاءني البستاني بالبردعة وشدها على ظهري، قفزت وعنفصت ولكن بلا جدوى فقد كانت محكمة الشد.
– 4 –
خلال معاشرتي لأولاد البستاني وأطفاله وأولاد القرية ، استطعت تعلم لغتهم، وأخذت أتفاهم معهم بالإشارات والأصوات والحركات التي أقوم بها، فمثلا إذا أعجبني قول جميل منهم أو إطراء، كشرت لهم تكشيره كبيرة، وإذا أعطاني أحدهم شيئاً أو طعاماً لذيذاً، هززت لهم ذيلي ومسحت رأسي بأكتافهم، وإذا قال أحد الأطفال قولاً جميلاً أو روى طرفة جميلة أعجبتني ، أقوم بأداء قفزات قصيرة وأدور حوله، أما إذا سألني أحدهم عن رأيي بالذهاب إلى مكان ما، وكان هذا المكان من الأماكن الجميلة التي أعرفها، كثيرة العشب، فيها جدول عذب المياه، ترتاده الحمير وبعض الأتن الجميلة، سارعت بهز رأسي موافقاً وأطلقت صوتاً رقيقاً يشبه صوت المرأة العاشقة، أما إذا أغضبني أحد الأطفال، فازعل عليه، أذهب بعيداً، لا أصفح عنه أو أكلمه إلا بعد أن يمسح على رأسي ويطلب العفو مني.
بعض الأحيان يغيظني صبي ما من صبيان القرية، فاغضب عليه وأدير له كفلي لأضرط عليه.
أما إذا كان رجلا واتى بأمرٍ لا يروق لي أو ضربني، فلا اكتفي بذلك بل أضربه بقدميّ الخلفيتين ضربة تحذير، كي لا يكرر السخافات التي لا يعرف عقباها. الغريب أن نساء القرية وبناتها كن يعرفن التعامل معي بحنان ولا يأتين السخافات مثل رجال القرية الذين كانوا يغضبون عليّ بسرعة حين أمزح معهم، أو حينما لا أريد الذهاب إلى حيث يشاؤون. وما زلت أذكر تلك الفتاة ذات القوام الرشيق الشبيه بقوام أختي الحمارة البنية ذات العيون السود، كانت الفتاة تدللني كثيرا وتتقاسم معي خبزها الحار الذي تأخذه معها إلى حقل الطماطم والخيار.
ولا أنسى أن بعض الأولاد كانوا قساة معي فأضطر أن أعضهم أحياناً.
-5-
سمعت الأولاد يوما يتحدثون عن إرسالي إلى المدينة، قالوا إنها العاصمة، لا أعرف ماذا تعني العاصمة، هل هي حقل أم بستان في المدينة، قد تكون حقلاً كبيراً لأنهم يتحدثون عنها باحترام كبير، قالوا سأذهب هدية للرئيس، ولم أكن أعلم أيضا ما هو الرئيس، ظننته كبير قومنا، أو حماراً كبيراً له جثة عظيمة.
قالوا إن رجال الرئيس وعيونه علموا بذكائي، ومقدرتي على التفاهم مع البشر، لذلك اقترحوا اسمي على رئيس البشر ليضمني إلى إسطبله.
في صباح يوم مشرق، بينما كنت أنعم بمضغ العلف الأخضر اللذيذ، في الحقل القريب من بيت البستاني جاء رجال الرئيس. نقلوني إلى عربة أنيقة لم أركب مثلها من قبل، أغلقوها على وسارت بي إلى مكان بعيد، بكيت لفراق أحبابي الأولاد، وفراق أمي العزيزة وأبي الطيب.
حين أنزلوني من العربة في مرعى واسع جميل، بكيت بصوت عال، توسلت إليهم، تمردت، تمرغت على الأرض، رجوتهم أن يعيدوني إلى مكاني، لم تنفع توسلاتي، حملوني وجروني بقسوة إلى الإسطبل وتركوني هناك .
لم لا يفهم هؤلاء البشر ما نري؟ نحن الحمير نفهم ما يريدون، وحين لا أفهم بعض ما يريدون يوسعوني شتماً وضرباً، عجيب أمرهم كم هم أغبياء، لا أستغرب أن يقول الحمير في المستقبل حين يرتكب حمار ما خطأ، يالك من حمار غبي كأنك آدمي من فصيلة البشر.
– 6 –
من خلال أحاديثهم علمت أن الرئيس يريد ركوب حمار رصين فاهم ذكي، يعرف إشارات البشر ويفهم لغتهم. عجبت من غباء هذا الآدمي، وتساءلت؛ إذا كان الرئيس بحاجة إلى من يحمل هذه الصفات فلماذا لا يركب واحدا من هؤلاء البشر ما داموا يعدون أنفسهم أذكياء، بل أذكى منا نحن فصيلة الحمير، لا بد أن في الأمر ما يريب.
– 7 –
ربطوني في الإسطبل مع الخيول، وقالوا هذا إسطبل خيول الرئيس، كان إسطبلاً غنياً بالعلف، تحيط به مروج خضراء، ولكن المعيب فيه أنه محاط بسياج من خشب، خلفه أسيجة أخرى من مشبكات حديد، تجعل فراري وعودتي إلى أهلي ومكاني الأول مستحيلة. سأحاول توطين نفسي على قضاء أوقاتي مع الخيول، رغم إنها لا تفهمني بشكل جيد، مع ذلك فهي تفهم لغتنا أفضل من البشر، سأتحدث إلى تلك الفرس، أحاول أن أعلمها لغة أجدادي فهي قريبة من لغة الخيول، تبدو فرساً جميلة وذكية، لأقترب منها واحتك ببطنها لأجعلها تشعر برغبتي في الحديث إليها، سأغني لها أغنية: نحن الحمير/ نفعنا كبير…
– 8 –
حدثـتـنـي زميلتي الفرس الساحرة عن الرئيس، قالت إنه شخص كبير الجـثـة، منتفخ البطن ثقيل الوزن، يجيد ركوب الخيل، ولكنه رغم ذلك يجلس في عربة ذهبية كبيرة ونحن الخيول نجرها.
انه لا يعرف غير الهذيان، لا نفع فيه، حتى حين يصعد العربة يأتي بأربعة أشخاص لمعاونته على الصعود. إنه لا يستطيع حمل عدل واحد مما يحمل أصغر حمار.
– 9 –
أخذوني يوم أمس للمستشفى الرئاسي وقصوا أذني، قالوا إنهما كبيرتان، يجب أن تكونا مثل أذني الحصان، وأضافوا باروكة شعر إلى ذيلي، ربطوا إليه جديلة شعر طويلة، علمت أنها جديلة شعر جلبوها من سيريلانكا، استوردوا منها مجموعة خصيصاً لي وأودعوها لدى حلاق خاص يقوم على زينتي وقص شعري ومكياجي.
– 10 –
غدا سأشترك في سباق الخيل. تقرر ذلك باعتباري حصان الرئيس، ويجب عليّ أن اثبت قدراتي وأتغلب على بقية الخيول، عجبت من اشتراكي، أنا الحمار ابن الحمار، بسباق مع الخيول الأصيلة، لا بد سأكون الخاسر الكبير فيه، كيف سأركض مع الخيول وأسبقها؟ لا شك أنني سأخذل الرئيس، يا عيب العيب، سأموت من الخجل وأنا اركض خلف الخيول. هل أتمكن من الخروج من هذا السباق، أريد أن احتج على اشتراكي في سباق مع الخيول، انه سباق غير متكافئ، ولكن من الذي يقف معي في احتجاجي؟ سمعت أن سفارة الهند ببغداد احتجت على اسم حصان في سباقات الخيل يحمل اسم غاندي، وقد استجابت إدارة نادي الفروسية (الريسز) وأبدلت الاسم إلى (الفقير). لماذا هل كان غاندي فقيراً؟ لا أعرف، هل أذهب إلى سفارة لها قرابة مع الحمير كي تحتج على إشراكي في سباق ظالم مثل هذا؟ أم هل هناك هيئة متحدة للحيوانات مثلما للبشر أمم متحدة؟! كيف الوصول إلى مؤسسة تدافع عني. سمعتهم مرة يتحدثون عن ممثلة فرنسية اسمها باردو قالوا إنها تدافع عن الحيوانات، هل الفرنسية قريبة إلى لغتنا، لغة الحمير، هل تفهمني لو تحدثت إليها عن مصيبتي مع هذا الرئيس؟
– 11 –
اليوم، يوم السباق الكبير.
أحضروني إلى الملعب بسيارة جميلة، أدخلوني إلى حمام واسع مشيد بالرخام الأبيض، غسلوني بالصابون المعطر، جـفـفوا شعري بالات كهربائية تنفخ الهواء الساخن على جسدي، علقوا بذيلي باروكة شعر تنسدل إلى كاحلي، ألبسوني لجاماً فضياً وربطوا السرج الناعم والغطاء الحريري فوق ظهري، وقادوني إلى وسط الملعب وسط تصفيق الناس وتهليلهم، أمسك غلام رهيف القد خفيف الوزن بلجامي وأخذني برفق إلى منصة الرئيس فنهض علية القوم احتراماً لوصولي واخذوا يصيحون،عاش الحصان الأصيل، يحيا الحصان الأصيل. كانوا يصفقون بحرارة أخجلتني، نظرت حولي كي أرى الحصان الذي يصفقون له فلم أجد حصاناً، أنا الوحيد الذي يقف قرب المنصة، إنهم ينظرون الي ويصفقون، أنا المعني بكل هذا التصفيق، ما الذي يحدث، صحيح أنا حمار أصيل من سلالة حمير نجباء، ولكني لست حصاناً يا ناس! ما هذا الغباء، كيف تدعونني حصانا لمجرد قص أذنيّ وربط جديلة شعر إلى ذيلي، هل بلغت بكم السذاجة وقصر النظر هذا الدرك الأسفل أم إنكم تتملقون رئيسكم.
بعد أن قادني السائس بعيدا عن المنصة، سمعته يتحدث إلى طبيب الرئيس الخاص، الذي حضر خصيصا ليشرف عليّ أثناء السباق، فتح الطبيب فمي ونظر إلى أسناني وقال للسائس: اطمئن، سيغلب جميع الخيول.
عفطت عليه بقوة، فهرب من أمامي. أي طبيب هذا الذي يزعم أنى سأغلب الخيول الأصيلة. والله لو كان يفهم كلامي لأسمعته أخشن شتيمة، لقلت له أغرب عن وجهي يا آكل اللحم، ألست أنت الذي يأكل كل يوم رأس خروف وأحشاءه دون خجل، أي بشر أنت يا من تفطر صباحا على الباجة أو المعاليق!! وتقول إنك طبيب، وتزعم أنى سأغلب في السباق! طـززز …
حين وضعوني في صندوق الهبّة، اصطفت الخيول إلى جانبي قبل إطلاق رصاصة الانطلاق.
علمت من الفارس الذي يمتطيني من خلال حديثه إلى فارس آخر، أن الخيول المتسابقة علفت ببرسيم ثقيل قبل السباق بقليل، فهي متخمة لا تستطيع الركض.
فتح باب الصندوق وسمعت صوت رصاصة الانطلاق، لكزني الفارس بقدمه، وجلدني بسوطه، انطلقت بقوة، ثم شعرت بحرقة كبيرة أفقدتني شعوري وجعلتني انطلق كالمجنون أمام الجميع، حتى كاد الفارس أن يسقط من فوق ظهري، وصلت خط النهاية قبل جميع الخيول.
علمت فيما بعد أنهم وضعوا لي في دبري فلفلا أحمر حارًا، جعلني أفقد صوابي وأنطلق بسرعة لا مثيل لها، فسبقت الخيول الأصيلة المسكينة المتخمة .
أخبرتني حبيبتي الفرس الساحرة قبيل الغروب حين خرجنا للنزهة، بأنني جريت راكضاً في السباق حتى بعد خط النهاية بمسافة طويلة، وقد عانى الفارس صعوبة كبيرة في إيقافي .
كان فخامة الرئيس وصحبه من علية القوم يصفقون لي وهم وقوف على رؤوس أصابعهم، وأنا أهزّ بذيلي محاولا إطفاء حرقة الفلفل الأحمر… تصفيق … تصفيق ….
* * * *
*نشرت في مجلة المدى الصادرة في بيروت العدد 37 / (3) سنة 2002 بعنوان : مذكرات حمار الرئيس، ويعاد نشرها على موقعنا بموافقة الكاتب.
0 تعليق