انجيلا ديفس رمز المناضلات الشيوعيات، كيف تنظر إلى قضايا حرية الجندر اليوم؟
منحت الماركسية وتطبيقها الشيوعي المرأة شكلاً غير معهود وغير مسبوق من الحرية، في عصر كانت المرأة الغربية قد بدأت تخرج على كل تقاليد الأسرة. في ظل ذلك الاستقطاب الدولي، صارت شخصية المرأة الشيوعية تتبلور باللون الأحمر فحسب، مختلطة بكثير من الأوهام. اليوم حين نتأمل ما حققته الشيوعية للمرأة نرى أن حريات الجندر كما آلت إليه اليوم كانت بعيدة جداً عن التصور الماركسي.
في العالم الشرقي والغربي إلى حد أقل، شاع مفهوم خاطئ مفاده أنّ المرأة الشيوعية مشاعة للجميع، وبنى كثيرون أوهاما حول هذا التصور، ولعل اختلاط المفاهيم وعدم وضوح تصور الثورة الاشتراكية لوضع المرأة هو سبب هذا التصور الفاحش.
الشيوعية بعد ثورة اكتوبر كانت منغمسة إلى درجة بعيدة في يوتوبيا الحلم الشيوعي، لدرجة باتت حرية المرأة تحصيل حاصل فيما تفعله الشيوعية، ودول الكومنترن ودول حلف وارشو. وخضعت حرية المرأة وحدودها في التفسير العام لاجتهادات خاصة بقيت غير معلنة، وارتبطت بخصوصيات دول المعسكر الشيوعي.
وحرص لينين والمفكرون الجدد بعده على تجريم البغاء واعتباره شكلا مطلقا من عبودية المرآة. بل يمكن القول إنّ التطبيق الشيوعي للعقيدة الماركسية، جعل حرية المرأة أمراً يومياً، وفجأة يصدمني نص كتبه لينين للشيوعية الرائدة كلارا زيتكن:
“إنّ لائحة أخطائك يا كلارا لم تنته بعد. لقد قيل لي أنّه خلال أمسيات القراءة والمناقشة غالبا ما تثار مع العاملات قضايا الجنس والزواج ويبدو وكأن ذلك يشكل الغرض الاساسي للتربية السياسية وعمل التثقيف. فلم أصدق أذني عندما سمعت ذلك . فبينما تعمل أول دولة لدكتاتورية البروليتاريا على النضال ضد أعداء الثورة في العالم أجمع…تنكبّ أكثر الشيوعيات نشاطاً في ألمانيا على تحليل قضايا الجنس والزواج في الماضي والحاضر والمستقبل. أية فوضى في هذا العمل”؟!
هذا الرأي المنقول عن فلاديمير لينين، يثير اليوم ألف سؤال، أليست قضايا الزواج والجنس هي ما يشغل العالم، وخاصة في عصر تحرر المرأة؟ تحرر المرأة خلقته الشيوعية بلا مراء، فظهرت الكسندرا كولونتاي وزيرة الشؤون الاجتماعية في حكومة لينين التي بقيت في منصبها حتى عام 1918، وهي أول امرأة تتقلد منصب وزيرة في التاريخ.
في دورة كأس العالم لكرة القدم بموسكو عام 2018، تناقلت وسائل الاعلام الدولية خبراً مفاده أنّ النائبة الروسية الشيوعية تمارا بلتنيفا البالغة من العمر 70 عاماً حذرت من أنّ اختلاط النسوة الروسيات بمشجعي كرة القدم القادمين من مختلف أنحاء العالم قد يؤدي إلى ظهور عدد من “الروسيات وهن يربين أطفالاً يتحدرون من جنسٍ آخر”.
ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن لقاء اجرته إذاعة روسية محلية بالنائبة تمارا بلتنيفا حيث قارنت الأخيرة الوضع بما قالت إنه جرى عام 1980 في أولمبياد موسكو.
ورغم أنّ النائبة الروسية حذرت من التسرع بالحكم عليها بوصفها بأنه قومية النزعة، إلا أن الخبر برمته أثار عندي نوعاً من الاستذكار للثقافة الشيوعية وموقفها من المرأة. الشيوعيات شكلن علامات سياسية بارزة في المسار التاريخي للحقوق بشكل عام، فقد ظهرت روزا لكسمبورغ التي تزعمت مع كارل ليبنيخت جناحاً متطرفاً من الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني، وعارضت الحرب العالمية الأولى.
وظهرت ناديجدا كروبسكايا الثورية البلشفية الروسية زوجة فلاديمير لينين من عام 1898 حتى وفاته عام 1924. وقد شغلت منصب نائب وزير التعليم في الاتحاد السوفياتي منذ عام 1929 حتى وفاتها عام 1939 .
كما ظهرت كلارا زيتكن السياسية الألمانية اليسارية المدافعة عن حقوق المرأة، التي كانت مدرسة ثانوية، شاركت منذ 1875 في أوائل المجموعات النسويّة التي كانت تناضل من أجل الحرّيات العامة في عهد بسمارك.، ثم انضمت إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني المستقل في جناحه اليساري، الذي تحول إلى الحزب الشيوعي الألماني الذي مثلته كلارا في جمهورية فايمار من 1920 حتى 1933.
وكلارا زيتكن هي التي اقترحت في 1910 على “السكرتارية الدولية للنساء الاشتراكيات” الاحتفال بالمرأة المناضلة من أجل حقوقها السياسية والاجتماعية في الثامن آذار/مارس كل عام.
ولا ننسى المناضلة الأمريكية أنجيلا ديفيس التي شاركت عام 1962، بمؤتمر الشباب والطلاب العالمي الثامن في هسلنكي، وأصبحت ناشطة نسوية راديكالية ماركسية، بعد أن باتت عضوة بالحزب الشيوعي الأمريكي، وهذه مفارقة حقاً! وفيما يعتبر البعض أن تعاونها مع منظمة الفهود السود الأمريكية كان سبباً لفصلها من التدريس بجامعة أوكلا هاما في عام 1970، فإنّ السبب الحقيقي هو موقفها الداعم لثورة الطلبة التي اجتاحت العالم. أين هي أنجيلا ديفيس اليوم؟ لقد انحسرت عنها الأضواء منذ اسقاط نظام صدام حسين عام 2003 واحتشادها مع اليسار الدولي ضد عمليات تحرير العراق.
كل هذا التاريخ المجيد للشيوعيات لم يقدم استقراء لأوضاع المرأة وحرية الجنس، وتطورات مفهوم حرية الجندر التي تجتاح العالم اليوم. حرية الجنس باتت اليوم لدى كثير من المفكرين مقرونة بمفهوم صناعة وتجارة الجنس، ولست بصدد مناقشة العمق الاخلاقي لهذه القضية، لكن لو اخذناها في سياق عولمة التجارة التي باتت واقعاً لا هروب منه، لتكشّفت لنا حقائق مرعبة بالأرقام، ففي الصين وهي أكبر شيوعية معاصرة باقية حتى اليوم، حققت صناعة وتجارة الجنس 73 مليار دولار عام 2017 طبقا لإحصائيات موقع هافوك سبوت المتخصص بمتابعة وقائع السوق السوداء عبر العالم.
وهنا يصح السؤال الكبير المقلق، هل نهمل هذه الأرقام، ونتلمس حلولاً في ظل السنديانة الحمراء الجميلة التي تآكلت في عصر العولمة وباتت تفقد ينعها؟ وما حال الأسئلة الجندرية الصعبة التي بزغت في عصر العولمة؟
العالم الرأسمالي أجاز زيجات المثليين، وأجاز منح وظائف عليا للمثليين، فبات منهم وزراء ومحافظون، ورؤساء ولايات، وعرف عبر العالم علم قوس قزح كرمز للمثليين، رمز جندري يشي بظهور عصر المكونات الأضعف. فهل نعتبر ذلك سقوطاً أخلاقياً، أم تغيرا في مفاهيم القيمة البشرية للمكونات الأضعف والأصغر في العالم، وفق ما بات يعرف بالمساواة الجندرية؟ وهو في جوهره المساواة التي حلمت الشيوعية بالوصول إليها بين الطبقات الأضعف في المجتمع.
بل إنّ الثقافة الرأسمالية أنضجت يساراً أخضرَ بات لا يسمح علناً بتداول ألفاظ وأوصاف كانت على مر القرون جزء من الفهم البشري العالم، وهكذا لم يعد أحد يجرؤ على إطلاق وصف “زنوج” على السود من البشر، وحتى وصف السود بات عرضة لاعتراضات على مستوى وسائل الاعلام الدولي كافة. كما لم يعد إطلاق صفة “مومس” على المرأة المتاجرة بجسدها مقبولاً على مستوى العالم، بعد أن عُدت صناعة وتجارة الجنس، نشاطاً يختص به فرع بشري يضم ملايين النساء والرجال عبر العالم، ولعله الفرع الأضعف من البشرية، فهل نعاقبه بالتحقير بأطلاق الوصف المشين ” دعارة”؟
ماذا بالنسبة للكوتا النسوية، التي أقرتها أغلب المجتمعات الرأسمالية لإجبار أصحاب العمل على منح النساء فرص عمل مساوية للرجال، وفي مواقع قيادية مشابهة لهم؟ في ألمانيا شغلت انغيلا ميركل منصب مستشارة ألمانيا للمرة الرابعة ( 16 عاماً) أليست هذه تجسيد مطلق لحرية المرأة وحقوقها؟
الشيوعيون اليوم، منظّرون وقادة وناشطون، مطالبون بالإجابة بصراحة عن هذه الأسئلة، وكشف مواقف الشيوعية الجديدة منها، لرسم خارطة طريق على مستوى الواقع والتطبيق يمكن أن يسير عليها المتمسكون بجذور السنديانة الحمراء والحريصون على أن تبقى هذه الشجرة العملاقة نابضة بالحياة .
بون- ألمانيا
0 تعليق