تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

حرب المخابرة وحرب الاستخبارات

نوفمبر 28, 2021 | 0 تعليقات

بين المخابرة والاستخبارات بعض الارتباط، لاسيما أن عمل الجهتين يرتبط بالمعلومات، المخابرة تهتم بنقل المعلومات وسرعة إيصالها، والاستخبارات تهتم بجمع المعلومات وتبويبها وتحديد درجات كتمانها. في قادسية صدام كان الصنفان يتداخلان بشكل واضح أحياناً.

مع انطلاق الحرب اكتشف العاملون في صنفي المخابرة والاستخبارات أن المحافظة على أمن البريد العسكري اليومي وأمن الاتصالات تحدٍ لم تحسب “القيادة السياسية” (وهو وصف مؤدب يشير إلى صدام حسين شخصياً بغموض وإبهام) حساباً له، وباتوا يواجهون مشكلة أكداس من البريد مصنفة سري للغاية.

لواؤنا المصنف مشاة جبلي، كان مستقراً قبل الحرب في مدينة راوندوز، وكان بريده الخاص بالفرقة يرسل على أجهزة تعرف ب “سايكرفون” تؤمّن نقل البريد بطريقة مشفرة إلى الفرقة، ويتم ذلك عبر محطات راديو ريلي روسية، كل واحدة منها محمولة في شاحنة زيل كاملة.

مع بداية الحرب، سقط هذا النظام، وبات على معتمدي الألوية والأفواج إرسال بريدهم يومياً على الدراجات والسيارات. ومع اطلالة عام 1981، خرجت مديرية الاستخبارات العسكرية العامة باختراع عتيق، وعممته على الوحدات والتشكيلات في الجبهة، طالبة الالتزام به. الاختراع هو الشفرة العسكرية، وتقوم على برنامج تشفير يدوي بالأرقام ترسله المديرية إلى التشكيلات والوحدات كل شهر، لتعميم العمل به. ونص أمر مديرية الاستخبارات على تخصيص ضابط للقيام بهذا الواجب. ولأنيّ الضابط الأقل قدماً ولكون صنفي مخابرة فقد وقع الاختيار عليّ في تنفيذ هذا الأمر الكارثي. وهكذا فقد خصصوا لي غرفة في مقر بلدية قرية تبه ريش دراويش السابق الذي أضحى مقر لوائنا، وخصصوا لي مكتباً، وجهاز لوكس يعمي نوره الأبصار، ليكون واجبي الليلي المستمر تشفير كل الرسائل المصنفة سري للغاية، وهذا يعني 90 % من البريد اليومي. ومن خلال العمل اتضح أن هذا التحدي صعب جداً وغير عملي. فخلال عمل مستمر لمدة 24 ساعة لم أستطع تشفير أكثر من 10 رسائل!!

وهكذا كتبت تقريراً بهذا الأمر إلى ضابط الركن الثالث استخبارات اللواء، وشرحت فيه صعوبات هذا العمل ومقترحاتي لتطوير العمل. وكنت قد قرأت في نسخة من مجلة “ديفينس”  الاسترالية حصلت عليها من مكتبة مدرسة المخابرة في معسكر الرشيد ببغداد عن أجهزة تشفير تربط على وسائل الاتصال السلكي واللاسلكي لتضمن عدم سرقة المعلومات المرسلة على السبل، فضمنت في تقرير مقترح استيراد أجهزة التشفير وتعميم استخدامها على الوحدات. آنذاك لم تكن أجهزة الفاكس وحتى التلكس قد ظهرت، وكان نقل الوثائق والبريد بسرعة المعركة تحدٍ يخضع لزيادة عدد المعتمدين، والذين ثبت في أحيان كثيرة عدم أهيلتهم وكفاءتهم وقلة الاعتمادية عليهم.

وحين قرأ ضابط الركن تقريري، سألني هل يعني هذا أن استخدام الشفرة العسكرية، غير مجدٍ. ضحكت وأجبته أن هذا أسلوب اعتمد في الحرب العالمية الثانية قبل 40 سنة، ونحن في زمن آخر، ثم سألته بجد إن كان رفع تقرير من هذا النوع بهذا المقترح إلى مديرية الاستخبارات العسكرية العالمة، يمكن أن يذهب بي إلى الشعبة الخامسة في الاستخبارات (التحقيقات) سيئة الصيت فيطير رأسي أو ما شابه؟؟

ضحك الرائد الركن ح. وكان تكريتياً قريباً جداً من عائلة صدام حسين، ثم قال بالحرف الواحد” شلون يعني، إذا واحد يقدم مقترح للعمل يطير راسه، خو هي مو ولاية بطيخ؟ أحنا موجودين عزيزي، ما نخليهم ياذونك “!!

وقضيت أسبوعين على هذا الحال، جالس كل الليل، أشفّر الرسائل، وبعضها كانت مستعجلة جداً، فكنت أعيد ترتيب الأولويات، وأقدم المستعجل من الرسائل. ثم حدث انفراج فرضته الظروف، فقد آن الأوان أن أذهب في إجازتي الدورية الأولى بعد 100 يوم من الحرب بلا هوادة، ولمدة 48 ساعة! وهكذا أخبرت ضابط الاستخبارات بضرورة تأمين بديل يحل محلي في هذا الواجب، وكان الاختيار محصوراً بضابط المخابرة الأقدم، ملازم أول ثائر، وهمس في أذني ضابط الاستخبارات أنّ “ثائر زلمة زين، لكن أخاف ما يدبرهه”؟

وبعد أخذ ورد، صار المقترح أن أدربه لمدة يومين، قبل ذهابي في إجازة، على أن أنتظر عودته ليتولى عني تلك المهمة الشاقة. وهكذا جرى تأخير إجازتي يومين آخرين، ليكون بين وصوله وذهابي فاصلة تكفي لتسليمه المهمة الجديدة.

ذهب الرجل في اجازته وعاد وبقيت أدربه، ولابد من القول إن مهامنا كضباط مخابرة كانت كثيرة جداً، لكن جرى تفريغي لهذا الواجب تقريباً لخطورته.

ذهبت في إجازتي الأولى، بغداد تخنقها أزمة المشتقات النفطية، وقد عملوا بطاقات تموين للعوائل، وفرضوا نظام سير الأرقام الفردية والزوجية. ولم أفهم من اليومين سوى الركض خلف قنينة الغاز وخلف نفط العائلة، أما البنزين فلم يؤثر عليّ، لأني لم أكن أملك سيارة أصلاً، وهذه قصة أخرى سأرويها فيما بعد.

لدى عودتي من الإجازة، تسلمت مرة أخرى مهام التشفير، الذي بات ماركة مسجلة باسمي، وابلغني م. أول ثائر” هذه أمانتك والله ابدالك، أتعس شغلة”.

بعد نحو اسبوعين، جاءت نسخة جديدة من الشفرة، وبات علي أن أتدرب عليها من جديد، وكانت النسخة أكثر تعقيداً وتعيق العمل، فتباطأت أكثر سرعتي في العمل مرة أخرى. وتواترت الأخبار من التشكيلات، بأنّ العمل لا يسير بشكل سلس، ولا بد من حل سريع. وجاء الحل في زيادة مفاجئة بعدد المعتمدين والدراجات، وقلّ الاعتماد على الرسائل المشفرة لتنحصر في رسائل يقرر آمر التشكيل تشفيرها فحسب، وهذا يعني عملياً القضاء على خطة مديرية الاستخبارات العسكرية العامة الخائبة العتيقة.

ومن مفارقات القضية، أن مديرية المخابرة صرفت لرعيل المخابرة الثاني الذي كنت آمراً له دراجتي أم زد صنع ألمانيا الديمقراطية، لتعزيز نشاط المفارز السلكية، لكن، وبمجرد وصولها، أخذها اللواء للمعتمدين الجدد وكان عددهم 3 نسّبوا إلى اللواء. فرّ أحدهم وهو نائب ضابط بعد شهرين من التحاقه بنا، لأنه لم يطق الخدمة في الجبهة فقد كان معتاداً على الخدمة في مديرية الاستخبارات قرب بيته، فيما فرّ الثاني بالبريد والتحق بصفوف العدو أمام أعين جنود اللواء كما مر في قصة أخرى من هذا الكتاب.

ملهم الملائكة/ فصل من كتاب حين مشينا للحرب

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

أ. صباح علو / خبير السلامة اًولاً: تدابير السلامة التي يجب أن تتوفر في منزلك هي: طفاية حريق متعددة الأغراض (بودرة - ثاني أكسيد الكربون) ولابد من ملاحظة الآتي: -   وضعها في مكان بارز يعرفه جميع أفراد الأسرة وبشكل رأسي. -   وضعها في مكان لا يمكن الأطفال من العبث بها. -...

قراءة المزيد
السلامة المنزلية (الجزء 1)

السلامة المنزلية (الجزء 1)

سلسلة مقالات بقلم صباح رحومي السلامة هي العلم الذي يهتم بالحفاظ على سلامة الإنسان، وذلك بتوفير بيئات عمل وسكن آمنة خالية من مسببات الحوادث أو الإصابات أو الأمراض من خلال سن قوانين وإجراءات تحث على الحفاظ على الإنسان من خطر الإصابة والحفاظ على الممتلكات من خطر التلف...

قراءة المزيد
عوالم السينما الخفية

عوالم السينما الخفية

الكاتب والباحث محمد حسين صبيح كبة تمهيد:  هذه الوريقات هي محاولة لسبر أغوار عوالم لا نعرف كنهها بدقة عالية. السينما هي فن نستمتع به في أحايين وندرس عن طريقه أحايين أخرى وأشياء أخرى لكننا لا نعرف كنهه بالضبط والدقة. وهذا يعني انها قد تكون مثل الكهرباء الذي لا نعرف كنهه...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *