لا أريد الحديث عما يجري في أوكرانيا وروسيا، لكني أريد أن استفيد من المناسبة لأعرض حقائق بسيطة، لعلها تتوارى بخوف خلف عنف الحروب ودوي الدبابات والقذائف.
عاد داعش وحلفاؤه يطلون في مناطق عدة من العراق، وعادت الدولة الإسلامية تريد التمدد على أراضي العراق بعد أن استقرت نهائياً كما يبدو في سوريا، لكنّ الموضوع الذي يهمني ليس هذا، بل تعاطي العالم مع الحقائق وأنصاف الحقائق كيفما تكررت.
* ما يشغلني أولاً هو المصطلح، فنحن نتحدث عن المشهد في الدولة الإسلامية، وأسأل لماذا بعد ما جرى يجب أن نضع التعبير بين همازات وأن نسبقه بكلمة تنظيم ؟ أليست هذه حقاً هي الدولة الإسلامية؟
*في الجغرافيا، لم تقبل مناطق غرب العراق ومعها الموصل ونصف ديإلا تقريباً بتغيير معادلات القوى التي استقرت بعد سايكس بيكو، وإذا كان جورج بوش الأبن قد قرر معاقبة المنطقة بسبب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فقد تجلت عقوبته في العراق بتغيير ميزان القوى، فتغيرت اوضاع كل المنطقة طبقا لمشروع الشرق الاوسط الجديد، لكن هذا لم ينل قبول سكان المناطق الغربية قط.
*في التاريخ، نزعت أقلية تسمى نفسها “شيعية” السلطة من أكثرية تسمي نفسها “سنية”، قد لا يكون السنة في العراق أغلبية، لكنهم أغلبية مطلقة في العالم الإسلامي، وهم من يحددون ميزان القوى حتى لو رفضت الولايات المتحدة. ولا حاجة لتبريرات وتحليلات، فأقوال وأفعال ملوك ورؤساء العرب وأمراء الخليج وقادة دولتي الاقليم لم تعد تتحفظ وتتحلى بالدبلوماسية المؤدبة، النقاط وضعت على الحروف والاستقطاب بات معلناً.
* في العسكرية، وهنا الغياب الكبير، فالعراقيون قد صنعتهم حروب الأنظمة، المفروضة والمستوردة والمصدّرة، فتعلم رجالهم صنعة الحرب وفنونها، وتعلمت نسوتهم صبر الأرامل والثكإلى وغياب الزوج والابن والأخ فترات طويلة في جبهات حروب غير مجدية، لكن كل هذا صنع روحاً عسكرية ميّزت العراقي عن غيره من رجال المنطقة.
بعد زلزال عام 2003، هرب جيش العراق، ولم يحلّه بريمر كما يحلو للبعض التنظير لأسباب مقصودة أو غير مقصودة. هرب الجيش لأنّ أحداً لم يشأ أن يُقتل في معركة صدام حسين وعائلته وعشيرته، وجيشه الجمهوري المتحدر أغلبه من غرب العراق، أدرك أنّ النزال مع القوة العظمى عقيم، فهرب بما خف حلمه وغلا ثمنه.
وحين أدرك الحرس الجمهوري وجحافل قوات الأمن والمخابرات والاستخبارات أن الرغيف خرج من صحنهم، اختاروا الحرب على العراق الجديد، فلم يجدوا من هو قادر على التصدي لهم.
الشعب الذي ملّ الحروب وكرهها بات يرى في العسكرية شراً، واضاع فن القتال، وأولياته، ومبادئ التعبئة، وتفاصيل التنظيم والتخطيط. تحول الجيش الفقير الداعم للجزء الأضعف والأفقر والذي تولى السلطة عام 2003 إلى مسلحين اشتغل أغلبهم بالوساطة والمحسوبية وتحركهم الاهازيج وتحكمهم قيم العشيرة، وتسوقهم كراهية للعقيدة العسكرية التي ينسبونها دائما إلى جيش صدام بعيداً عن قيم الحرب والنظام والعسكر.
*في العقيدة العسكرية، الجيش أولا تنظيم وتشكيلات لا تدين بالولاء إلا لقياداتها الميدانية، ولا يمكن ان يكون الفوج الاول من لواء الحسين من أهل الديوانية والفوج الثاني من اهل البصرة والثالث من بغداد ، وكل منهم يريد ان يحمي منطقته، ويرفض أن يغادر للقتال في منطقة اخرى. كما أن الجيش منظمة غير عقائدية، لأنه ليس قوات شبه نظامية، بل نظامية منظمة مرتبة تدين بالولاء للدولة وليس لرئيس الوزراء ولرئيس الحزب الفلاني وللمحافظ العلاني وللوجيه الأخير وللنائب المناطقي.
* في العقيدة العسكرية أيضاً، والعقيدة العسكرية تعني الالتزام بالعقيدة الغربية أو بالعقيدة الشرقية، ولا يدرك كثيرون أن جيش العراق بعد 2003 خرج عن العقيدة الشرقية في التسليح والعقيدة الغربية في التنظيم (التي مزجتها جمهوريات العراق العسكرية ابتداء من 1958) وبات يقف في مسافة في المنتصف بين العقيدتين وهذا منتهى الضياع.
* في عديد الحرب، الجندي بيدق للحرب، وليس ابن عشيرة الضابط، وقريب الأمر، وراشي القائد. الجندي بيدق ينفذ الأوامر، ومطلوب منه ان يذهب إلى الموت، ولا أحد يريد ان يذهب إلى الموت بإرادته، فلا بد من حمّله على ذلك، ويجري ذلك بقوة القانون العسكري الصارم الذي تصنع هيكله حدود العقوبات المخيفة، والذي يجري على الجميع دون اعتبارات ومجاملات ورشاوى. ولكي يذهب الجندي إلى مواجهة الموت راضياً، لابد أن يقوده ضابط شريف شجاع أولا، ومطّلع عارف بفنون الحرب ثانياً. ومجموعة الضباط التي تقود الجنود ستخضع لآمر برتبة أعلى يهديهم سواء السبيل (حربياً وليس سماوياً)! ومجموعة الآمرين يقودها قائد بارع خبر فنون الحرب ونال كل نجمة على كتفه من خلال عرق ساحات التدريب ودماء ساحات الحرب.
* في لباس الحرب، ولباس الحرب هو آخر ما يفكر به الجيش والقادة اليوم ، كل من نراهم في ساحات الحرب لا يرتدون خوذة تقي رؤوسهم، ولا يحملون خط العتاد الاول، وبنادقهم أما جديدة غير مزيتة، وأما صدئة غير مزيتة، وفي الحالتين هي غير مهيأة للرمي المستمر وستتعرض للتوقف بعد بضع رشقات، وأحياناً بعد بضع اطلاقات. لا أحد منهم يحمل يطاق النوم (وهو فراش الجندي) بل نراهم يلتحفون الأرض، ولا أحد منهم يحمل ضماد الميدان، ولا أحد يحمل قصعة أكله وزمزمية الماء وملعقة لأن الاكل يصلهم مسلفن، كي يستفيد متعهدو التغذية.
*في التشكيلات، أغلب التشكيلات غير مترابطة غير منظمة غير مسندة، ووحدات الاسناد المدفعي في الغالب مفككة ولا تملك مراصد متقدمة، ولا ضباط رصد يرافقون خطوط المشاة الاولى لتحديد الأهداف. أما عن وحدات اسناد الافواج، فلا أحد يعرف عنها شيئا، لا توجد سرايا اسناد ولا فصائل مقاومة طائرات ولا سرايا هندسة ميدان ومخابرة، بل لا توجد صنوف واضحة، وهذا يفاقم الوضع، ويجعل من التشكيلات المقاتلة اشبه بعصابات غير منظمة يحاول القادة السيطرة عليها بالصوت (من خلال أجهزة اللاسلكي قصيرة وبعيدة المدى التي يسمعها القاصي والداني)، ولا احد قط يستخدم المواصلات السلكية الامنة، بل ان كثيرين لا يعرفون بوجودها. وأحيانا تدار المعركة بمكبرات الصوت بشكل مباشر، كما ان الجنود يستخدمون هواتفهم المحمولة في كل مكان بحرية تامة، وهذا يعني تسرب المعلومات عن الحركات والعمليات بشكل فاحش فاضح.
* في ادارة المعركة، لا يفعل المهاجمون والمدافعون شيئا سوى توجيه كتل نارية باتجاهات يعتقدون ان العدو موجود فيها، وقد يكون حجم الكتلة النارية عشر اضعاف العدو المقاتل، فهو هدر للقوات، فيما قد يأتي حجم النار في المواقف الحرجة اقل بكثير من الحجم المطلوب فيعود وبالا على المهاجمين، وينتهي بمذبحة. لا أحد يعمل بمبدأ النار المقراضية، ولا أحد يستتر بالمعنى الصحيح للاستتار، ولا أحد يستخدم الرصد الجوي ولا أحد.
لا أحد يقاتل، فيما الجميع يفكرون في النجاة وعلى رأسهم الضباط الأعوان والآمرين والقادة، فلا تكون معركة، بل أُمنية ومحاولة قتال تنتهي بخيبة وهزيمة في الغالب.
*وجهة القتال، الجيش يحارب مسلحي الدولة الإسلامية، وهم ليسوا اشباحاً، وليسوا مهاجرين، بل هم بضع مقاتلين أجانب لا يعرفون عن المنطقة شيئاً يقفون في الواجهة كإعلان وخلفهم يصطف ألوف المقاتلين من بقايا الحرس الجمهوري والمخابرات والأمن الخاص والأمن والتشكيلات الحزبية، وهم يقاتلون دفاعاً عن وجودهم، ويعتبرون السلطة الحالية باغية قطعت ارزاقهم وسلبتهم حقوقهم.
0 تعليق