تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

جحيم المحمرة – اليوم الثاني

يونيو 11, 2022 | 0 تعليقات

قبيل الفجر انجلى الموقف، فالألوية الخمسة التي زُج بها منتصف شهر ايار 1982 لفك الحصار عن المحمرة وعشرة آلاف مقاتل عراقي محاصر فيها، تلك القوات ونحن منها، لم تصل أهدافها، ومن وصل منها عاد متراجعاً بانسحاب غير منظّم مبعثر، وعادت القطعات مثخنة بالخسائر، وجاء الأمر مع الفجر أن نتجه إلى ساتر قريب وندافع عنه، مهما كان الثمن!

اتجه لواؤنا، أو ما تبقى منه بسبب تسرب القطعات، راجلاً إلى سدة ناصية، وأمامها سدة أخرى دونها ارتفاعاً، فاندفع مقر اللواء إلى حفرة في خندق شقي متقدم قبل السدة المتقدمة والرصاص الخفيف يتساقط عليه بحيث اضطر آمر اللواء ومن معه إلى الزحف إلى داخل شبه الخندق الشقي المحمي بصفيحة يعلوها كيس رمل، كي لا يصلهما الرصاص الخفيف، لكن القذائف تتساقط كالمطر، فيما انفتحت أفواجنا على الأجنحة بشكل عشوائي متخذة من السواتر مواقع رمي غير محصنة لها. كان المنظر مرعباً، ارتال الجند تسير متقدمة بالرتل الزكوي، فيما يتساقط الجرحى والقتلى بنيران العدو، وتستمر الأرتال تائهة تتقدم إلى لا مثابة!
نحن ندافع عن هدف لا نعرف ما هو، ونحارب عدواً لا معلومات عنه، ولا نعرف أين انتشر، لا خرائط لا استخبارات…لا شيء!

قرفصت على مدخل الملجأ الصغير الذي انحشر فيه آمر اللواء وضباط ركنه، وهم عاجزون عن كل شيء ومقطوعون عن كل شيء، كان ضابط ركن الحركات قد استل مسدسه مستعداً للقرار الأخير، أما الاشتباك مع العدو بالرصاص، أو الانتحار، إنه اليأس المطلق! قلت لآمر اللواء: سيدي هل ثمة أوامر؟

قال وهو ينظر إلى بيأس: كيف أصدر الأوامر؟ ثم انتبه إلى نفسه ومركزه، وقال مؤكدا: نعم ملازم ملهم، أرجو أن تؤمّن لناً خطاً سلكياً مع مقر اللواء المتراجع في مخفر الشلامجة، ومنه تؤمن لنا اتصالا مع الفرقة ومع أفواجنا ومع سرية المغاوير.

قلت له: سيدي كيف أصل للأفواج، هل من خارطة مؤشرة عليها مواقعهم؟

ضحك بمرارة، وهو يقول أنظر يميننا ويسارنا هذه هي الأفواج، نحن منفتحون معهم على خط واحد…شمرة عصا!

وكان في هذا الوصف منتهى السخرية المبطنة، لأنّ مقرات التشكيلات لا تكون قط على خط الصد الأول، كما أن الأفواج لا تنفتح قط بالنسق، بل بالنسق المتعرج، لضرورة تلاحك النيران المقراضية.

عدت راكضاً نحو 90 مترا إلى حيث انفتح رعيل المخابرة الثاني أو ما تبقى منه مختبئا في شقوق وهمية! التقيت عريف الفصيل، واخبرته عن طلب آمر اللواء، فقال نخرج في مفرزتين، مفرزة إلى مقر اللواء في مخفر الشلامجة، ومفرزة بين مقر اللواء، وبين الأفواج…وأين هو مخفر الشلامجة سيدي؟

قلت له “أظنه ذلك الساتر المربع العالي الذي تتساقط عليه القذائف وضربات مدفعية دبابات العدو !!”

نظر إلى حيث أشرت، وقال وهو الذي عرفته شجاعاً: حتى اذا وصلنا بخط إلى هذا الساتر، فإن الخط لن يعمل سوى لدقائق، ألا ترى الدبابات صاعدة نازلة والقذائف كالمطر؟

عزيزي عداي، نحن ننفذ الأوامر، واذا لم تعمل الأوامر فهذا ليس ذنبنا! هيء لي 3 مفارز.

وخرجتُ بنفسي مع المفرزة الذاهبة إلى مقر اللواء في مخفر الشلامجة، لأنها أصعب الواجبات، وتردد أشجع شجعان الرعيل عن الخروج، فخرجت أنا وعريف الرعيل عداي الشجاع والعسكري المثالي. وضعنا بكرة أسلاك على قضيب معدني بيننا، وربطنا رأس البكرة في بدالة عشرة خطوط، يجلس عليها أحد المخابرين في الموضع الشقي، وبدأنا نركض إلى الساتر الذي خلفنا، وانتبهت إلى أنّ الرصاص يتساقط من خلفنا على الساتر الذي أمامنا بفاصلة لا تزيد عن 300 متر. كنا نرتعب فنستلقي أرضاً، فتعبرنا رميات رشاشات ثقيلة تأتي من مسافة قريبة، بحيث نرى سقوط الرصاصة في التراب قبل أن نسمع صوتها! وكان علينا أن نركض، وهكذا ركضنا بشكل متعرج، وكنا نستلقي أرضا كلما أشتد الرمي، حتى باغتتنا قذيفة هاون 60 سقطت قريبا جداً منا، فارتمينا أرضاً نحتمي بأصابعنا، وتساقط الحصى والدخان والشظايا فوقنا، والدخان يلفنا عابقاً برائحة البارود اليابسة كالكبريت في الحنجرة، “يمه البارود من اشتمه ريحة هيل” ياله من هيل حقير!.

وركضنا ونحن لا ندري إن كنّا قد نقصنا أصبعا أو أذناً أو عضوا! حتى وصلنا قاع الساتر، وتلقانا جنود أطلوا علينا بالبنادق، وهم يسألون من أي الوحدات نحن، أجبناهم ومضينا نركض بحذاء الساتر ليكون الخط محمياً من عشرات الدبابات المنتشرة خلف الساتر، والتي قد تنفتح في أي لحظة لتبتلع السلك في ثواني، وبقينا نركض والرصاص يئز حولنا، المشهد يشبه فيلم لكنه حقيقة، والعطش حقيقي والخوف حقيقي واليأس حقيقي، والبصرة تُقصف بالهاونات، وقد نموت في أي لحظة فيما يتخطر عدي بفرسه على بنات العاصمة في نادي الصيد، وقد لا نموت فتعدمنا مفارز تنتشر في عتبة والمدن القريبة! وصلنا نهاية الساتر، حيث يعبر طريق مبلط الحدود بين البلدين أسفل مخفر الشلامجة في الجانب العراقي، وبدأت المحنة: كيف نعبر بالسلك طريقاً معبّداً بالأسفلت تسير عليه الدبابات والشاحنات ليل نهار؟

نظرنا فيما حول الطريق، حتى اهتدينا إلى خندق يصعد الساتر، ليعبر الشارع، من الجانب الآخر في خندق شبه مدفون تعبر خلاله حزمة أسلاك وكابلات لأغراض الوحدات والتشكيلات. كانت هناك يافطة كتب عليها المقر الجوال للفرقة 11، وهذا يعني أنّ مقر الفرقة كان هنا، ويمكن أن يتخيل المرء مدى بعد التشكيلات عن مقر الفرقة. حسب تقديري أن الوحدات قد تراجعت ما لا يقل عن 10 كيلومترات في هذه المنطقة، بحيث باتت الفاصلة بين مقر الفرقة وبين مقرات الألوية والأفواج 800 متر!؟

ما إن عبرنا الشارع مع الخندق المحفور وسطه، ونحن نمد الخط حتى دوت بقربنا قذيقة دبابة، أصابت ساتر مقر الفرقة المرتفع الذي يجب علينا تسلقه! انبطحنا أرضاً، خوفاً من الشظايا المتراجعة باتجاه الرأس، هذه كانت قذيفة دبابة مباشرة، يعني من بعد يقل عن 1 كم!

كان علينا أن نعود لندفن السلك في الخندق، وهكذا فعلنا، كل حين تعبر دبابة باتجاه العدو، ثم تقفل راجعة مع سيل القذائف. انتهينا من طمر الخط، فبدأنا نبحث عن منفذ الساتر المرتفع لمخفر الشلامجة، واكتشفنا لسوء الحظ أنه في الجزء الخلفي من الساتر مربع الشكل وهذا يعني ما لا يقل عن 400 متر مسافة إضافية، ولم يبق معنا سوى بضع عشرات الأمتار من السلك. وهكذا كلمنا بدالتنا المتقدمة، وطلبنا من عريف بهجت أن يرسل لنا بكرة أسلاك أو أكثر، فوعدنا خيراً، ولم نجد شيئا نفعله سوى أن نربط الخط ببقايا معدنية من قذيفة آر بي جي7، ونزرعها في الأرض، كي نصعد إلى مقر لواءنا في الأعلى فنشرب رشفة ماء، ونرى الموقف كيف أصبح.

الامتار الأربعمائة كانت فاجعة، فرصاص الرشاشات الثقيلة ينهمر على السفوح كالمطر ومثله القذائف، وبعد نحو 100 متر حول المنعطف، صادفتنا 3 جثث لجنود عراقيين متروكين، إصاباتهم في الرأس، ولكن بإطلاقات ثقيلة ذهبت بأغلب جماجمهم! كان منظراً مهولاً، فالجنود، قرب قطعاتنا وفي داخل أراضينا وعلى سفوح مقر الفرقة 11، وهم حتماً من ألويتها، نزفت دماؤهم وجفّت على تراب الساتر، ولا أحد يخليهم، ومشينا والهلع يهزنا هزاً عنيفاً.

الأمتار المائة الأخرى، كانت مفعمة بمشاهد الرعب، بقايا رأس على الساتر، بقايا قدم، بقايا بنادق، بقايا صواريخ، قذائف ارتكست كالرماح في الأرض ولم تنفجر، القذائف قنابر روسية من عيار 60 ملم، قنابر إسرائيلية عيار 83 ملم وهو عتاد يملكه الجانب الإيراني فحسب من بقايا ترسانة الشاه، رمانات يدوية متروكة، حراب متروكة، علب أرزاق، خوذ…المكان يبدو كأنه ساحة معركة، لكننا في مقر الفرقة!؟

مشينا بضعة أمتار، فزعقت قذيقة قربنا تماما، وانبطحنا ندفن رؤوسنا بتراب الساتر إذ لا ساتر غيره، فمر علينا التراب، ولم تنفجر القنبلة، رفعنا رؤوسنا بخوف، فاذا هي قنبرة هاون إسرائيلي 83 ملم، انغرست في التراب على بعد مترين منا، ولم تنفجر. عبوة هذه القنبلة كافية لتدمير ناقلة أشخاص مدرعة، فياويلنا لو كانت انفجرت، لبتنا قطعّاً تذروها الرياح مثل أشلاء الجنود الممزقة التي مررنا بها. نهضنا متثاقلين والرعب يلفنا، ومشينا مهرولين حتى وصلنا نقطة ينعطف فيها الساتر ليكون بمواجهة العدو، وكانت جبهته مشتعلة. بعد كل هذه الأهوال كيف سيكون حالنا، حين نصبح في مواجهة العدو…أنا لا أعرف اتجاهي لهول ما شاهدت، ولا أعرف حقا أين العدو؟

انبطحنا أرضا وقلت لعداي…ما العمل الآن، هل نستمر بالسير حتى نكون بمواجهتهم، أم نبقى هنا، أم نتسلق الساتر من هنا، مادام العدو لا يرانا؟

قال عداي وعلى وجهه علامة سؤال مشوب بالحيرة: أين هو العدو بالضبط؟ أنا لا أعرف اتجاه العدو بعد كل هذا؟

قلت له: أرى أن نركض إلى أعلى الساتر من هنا، إنها مسافة لا تتجاوز 30 متراً، لنتوكل ونركض؟

قال عداي: كما ترى يا سيدي.

– هيا! وركضنا سريعاً صعوداً باتجاه الأعلى، كان الصعود حاداً والساتر أملساً لا صخور فيه، واضطررنا أن نتسلق بخط مائل كي لا ننزلق إلى أسفل، وما إن أدركنا قمة الساتر، حتى صرخت قنبرة قريبة، فانبطحنا لتنفجر خلف الساتر في داخل مقر الفرقة، وتلتها قنبرة أخرى بيضاء 60 ملم، ارتطمت بالساتر، شاهدتها بعيني وهي تشطح إلى داخل مقر الفرقة، وترتطم بشدة بأرض المقر داخل الساتر، ثم ترتفع مرة أخرى، لتعبر متنططة جدار الساتر من الناحية الأخرى خارجة دون أن تنفجر، كانت تحلق بطيئة إلى درجة أني تمكنت من رؤية خط أحمر وخط أزرق على بدنها.

حرر الايرانيون المحمرة من القطعات العراقية، واسروا 29 ألف مقاتل اغلبهم جيش شعبي، فيما غرق نحو 6 آلاف مقاتل عراقي في مياه شط العرب

وركضنا إلى داخل الساتر الذي انتشرت على واجهته الجنوبية 3 ملاجئ ازدحمت بالهوائيات، إضافة، إلى وجود دكات رمي للدبابات، استقرت في إحداها، ناقلة جنود BMB1، وفي الأخرى ناقلة جنود أخرى عليها علامة الهلال الأحمر، أي إنّها عجلة إسعاف لإخلاء المصابين. رأيت أحد الملاجئ وقد دخلت من حافته مجموعة أسلاك وكابولات فقدرت أنه ملجأ البدالة، ودخلت إليه، فصدق حدسي، وإذا بمجموعة جنود وضباط صف ونواب ضباط يشتغلون على بدالة 194 روسية 40 خطاً، والى جانبها بدالتان صغيرتان سعة 10 خطوط. سألت أقدم نواب الضباط رتبة، أين اجد مقر لواء 23 الجوال، فأجابني أنه لا فكرة عنده عما أقول. قلت له إن لواء 23 قد بات بإمرة الفرقة 11 منذ يومين، ويجب على أن أصل إلى مقره، ويفترض أنّه هنا؟

فأجابني” نحن مقر الفرقة 11 الجوال، وهذه ناقلة السيد القائد، وهذه محطاته، لا توجد مقرات ألوية هنا!؟

وكانت مفاجأة قبيحة، فبعد هذا الزحف المرعب، لا وجود لمقرنا الجوال هنا!؟

اسقط في يدي، وكلمت مرافقي عداي أسأله عن هذه الخيبة فقال هامساً: سيدي تبدو القضية تايهة، حماها ما ينعرف من رجلهه!؟ وسألت نائب الضابط مرة أخرى، هل لديك اتصال بمقر لواء 23 في عتبة؟  

نظر نائب الضابط إلى لوحات البدالات أمامه، ثم عاد يقول لي يائساً: لا لا، لا شيء مع لواء 23 هنا!

بقينا جالسين كالأيتام على باب مأدبة اللئام، لا أحد يدعونا للدخول بسبب حساسية بدالة الفرقة ومنع دخول أي غريب لها كالعادة، فيما لا نعلم إلى متى سنبقى ننتظر، حتى تصلنا بكرات السلك. جلسنا نحو نصف ساعة، ثم قلت لعداي: دعنا نرجع إلى حيث تركنا رأس السلك، ونرن على بدالتنا في المقر الجوال، لنرى الأمر معهم.

وعدنا نهبط على الساتر المرعب، إلى حيث ربطنا رأس السلك، وصلنا بسرعة لسهولة الهبوط، ثم ربطنا هاتفاً على السلك، ورن الهاتف في البدالة، فأجابني ن ع جاسم، سيدي…رائد ركن ستار (ضابط ركن الحركات) يبحث عنك؟ قلت له: ألم تخبره أننا نمد الخط إلى مقر اللواء المتراجع؟

بل قلت له، لكنه أخبرني بضرورة أن تتصل به بسرعة.

وأين أصبح عريف بهجت؟

عريف بهجت خرج مع علي فاضل ومعهم بكرة أسلاك وهم في الطريق لكم، وقد وجدوا هذا الخط مقطوعاً حين فحصوا بالاتجاهين، فأصلحوه واتجهوا نحوكم مع السلك!

قلت له: وصلني برائد ركن ستار!

رن عليه وعاد لي… رائد ركن ستار تفضلوا!

تفضل سيدي ملازم ملهم!

الله يساعدك ملازم ملهم وين صرت؟

سيدي على ساتر مقر الفرقة الجوال، أحاول أن أوصل الخط إلى مقر اللواء الجوال، لكنهم أخبروني بعدم وجود مقر جوال هنا، فأين أذهب بالخط سيدي؟

ارتبك الرائد ركن ستار، وكان جديداً في مقر اللواء، ويبدو عليه الخوف من كل شيء، ثم سألني: وماذا سنفعل الآن؟

-اسأل السيد آمر لواء، هل تغيرت الأوامر؟ وإذا تغيرت فماذا نفعل بالخط؟

سأله، ثم عاد يقول: السيد آمر اللواء يقول: اتجه يمين الطريق، ستجد مقر اللواء الجوال قرب نقطة معبر حدود الشلامجة، هناك موجود مقدم اللواء.

صار سيدي. وقطعت الاتصال. وبقينا ننتظر وصول ع بهجت وجندي مكلف علي. ولاحا في الأفق على الساتر المرعب وهما يركضان. الموقف نفسه يلاحقهما، الرصاص الثقيل والقذائف، ثم وصلا عندنا والعرق يقطر منهما والغبار يغمرهما وهما يلهثان.

الله يساعدهم! عفيه عاشت أيديكم، لكن تبدّل الأمر، ولابد أن نعود بالخط إلى معبر حدود الشلامجة، اعتقد أنها البناية الصفراء الخالية من الأبواب والشبابيك التي نراها من هنا.

بوجهين شاحبين لشدة الإرهاق والرعب وعدم النوم، استندا إلى أرض الساتر كي لا يسقطا لهول الخيبة ونظرا في لا مكان بعيون زائغة وكأنها تواجه الموت.

وهكذا انتظرنا نحو ربع ساعة حتى استردا أنفاسهما، ثم ركضنا نسحب السلك ونعيد لفه على البكرة، حتى وصلنا تقاطع الشارع، كان الوقت يقترب من الغروب، والقصف والرمي الخفيف على معبر الشارع على أشده، لكننا لشدة التعب، لم نشأ أن ننتظر، فقطعنا السلك عند المعبر، والتقطنا نهايته الأخرى من الجهة الثانية بعد أن زحفنا لعبور الشارع الملتهب بالرمي، ثم سحبنا السلك ونحن نركض بيأس نحو المبنى الأصفر، المزينة جدرانه بالآجر الجيري الخردلي الأنيق الذي ميّز مباني سبعينا ت القرن العشرين.

حين وصلناه بلوعة قطعتها عشرات القذائف، كانت تلك عين الجحيم، فحول المبنى تتساقط القذائف بعدد الدقائق، ويتساقط القتلى والجرحى بلا حساب. دلفنا فيه ولا أثر لمقر اللواء الجوال، واقترب الليل، فقال لي عريف بهجت، ونحن واقفين وسط الجحيم ولا أكاد أسمع صوته: سيدي لا فائدة من كل هذا، هل تتخيل أنّ هذا السلك الذي سحبناه إلى هنا سيعمل وسط هذا القصف؟ هذا محال.

دون أن يخبرني ذلك كنت مدركاً له، ولا أدري ماذا أفعل، ولكن بروداً كبرود الموتى خيم عليّ مع اقتراب الغروب. أشعر أنّها ليلتي الأخيرة في هذا الجحيم. جلس ع. بهجت وعلي فاضل داخل المبنى واسندا ظهريهما إلى الجدار وأوقدا سجائر كأنها إيذان بالاستسلام، وفعلت مثلهما والعطش يلوّث النيكوتين في فمي، فلا لذة للدخان مع العطش، وجفاف الفم هو جفاف الحر وجفاف الخوف، ورعب المغرب، المغرب دائماً مخيف.

*فصل من كتاب حين مشينا للحرب

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

يصف الكاتب محمد حسين صبيح كبة برنامجاً روسياً افتراضياً عن لقاءات مع الناس ومع مهندسي نفط روس حول برج للنفط مائل الطباع بناه العراقيون، ويمضي ليصف أشياء أخرى غير ذات صلة بالنفط وابراجه. الحكاية بدأ الأمر بشكل لطيف وبدم خفيف. كان الأمر على شكل كاريكاتير في كتاب عن...

قراءة المزيد
كتابات ومفارقات

كتابات ومفارقات

يرى محمد حسين صبيح كبة أن فكرة التحول مما بين بشري وحيواني ونباتي وجمادي هي فكرة رهيبة راودت بعض العلماء مثل ذلك مثل محاولات العرب والمسلمين أمر محاولاتهم في الكيمياء وفي غير الكيمياء مثلا أمر إكسير الحياة ومثلا أمر تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. الفكرة ممكنة...

قراءة المزيد
من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

كتابات ساخرة من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم. يروي محمد حسين صبيح كبة طرفة تفيد أنّ خطيباً في أحد المساجد هبط من المنبر بعد خطبته وهو يرتجف من الخوف بعد أن أحاط المصلون به من كل جانب، ثم قالوا له بكل وضوح: قولك وخطبتك أن موقعة بدر كانت بالدبابات والقنابل...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *