أم صهيب عربية بلا شك، ويرجّح الجميع من لغتها العربية غير الفصحى أنها من الشام، وهناك همس يؤكد أنّها أردنية من محافظة الزرقاء، وقد كبرت في بيت عمها والد أحمد الخلالية المشهور بلقب” أبو مصعب الزرقاوي”، لكنّ الأردنيات في المخيم يؤكدن أنهنّ لم يرين أم صهيب لا في حي معصوم ولا في عموم الزرقاء، كما أن لهجتها خالية من لكنة الزرقاوية البدوية المميزة. العارفون بالشأن الأردني ينفون علاقتها ببيت الخلالية مؤكدين أنها فلسطينية ولدت في مخيم اربد عام 1988 وهاجرت بشكل ما إلى الفلبين حين بلغت عمر المراهقة مطلع الألفية الثالثة، وهذا يفسر أنّ صهيبها آسيوي الملامح كما تشي به صورة تعلقها في خيمتها، ثم في بيتها وتجمعه بعدد من الشبان الملتحين المكللين بالسواد، في مقهى بحي مولنبيك في بروكسل عاصمة بلجيكا.
ومع حلول ربيع عام 2020، استطاعت أم صهيب أن تقنع مديرة المخيم بقدراتها “الطبية”، فشغلتها مع كادر التمريض في المستوصف القريب من الإدارة في قاطع المباني المقابل للجملونات الكبيرة، وما إن انتشر وباء كورونا، حتى صارت أم صهيب مديرة مركز اختبارات كورونا، ونقلت مسكنها من الخيمة الكبيرة 400 باون المطوقة برواق من مشمع نيلي اللون يحميها من المطر والبرد والسيول والرياح، لتستقر في بناية من طابقين، محتلة طابقها الثاني، ومخصصة طابقها الأرضي لعقد لقاءاتها “التوجيهية الإسلامية” بالمهاجرات والأمهات الكادحات! ثم باتت تدير مكتباً يضم 3 ممرضات و3 ممرضين، متخصصين في اختبارات كورونا. وحرصت أم صهيب ألا تنشط في السرادقات الزرقاء الطويلة التي خصصت لرقود المصابين، فلم تصب بالفيروس المميت في تلك المرحلة الحرجة. أم صهيب صارت مسؤولة، وبات بوسعها أن تخرج من المخيم بسيارة الإسعاف لمرافقة بعض الحالات أو لجلب وسائل الفحص. وما إن حلّ شهر رمضان في ربيع عام 2020، حتى صارت أم صهيب تغادر المخيم إلى مدينة ال…ة بشكل شبه يومي، وفي أحيان نادرة إلى مدينة ال…التي تبعد نحو 70 كيلومترا عن المخيم. هذه الرحلات اتاحت لها أن تلتقي في تلكم المدن بشخصيات مؤثرة، ترعى بشكل مباشر مبادرة “سلالة المؤمنين”، التي يرعاها أمراء خليجيون، ويدفعون لكل من يثبت حملها “بالسونار”، مبلغ 500 دولار شهريا بأثر يرجع لأول شهر الحمل ويستمرون بالدفع خلال فترة الإرضاع، وينقطع المال بفطام المواليد الجدد.
تعين ام صهيب في هذا الجهد أم أسماء وهي بلجيكية من أصول مغربية، ترفع بشدة لواء مساعدة مجاهدات سوريا وأطفالهن رغم مرور 6 اعوام على وجودها في المخيم قضتها كلها ناشطة في صفوف الدواعش.
تمتاز أم أسماء بكتمان شديد وتردد دائماً “لن أتحدث عما فعله زوجي، فأنا لا أعلم ما فعل”، وهذا الكتمان جعل أم صهيب تتخذها كاتمة لسرها في مبادرة “سلالة المؤمنين”. المبادرة التي فتحت باب أمل للمجاهدات في المخيم، حيث بدأت أموال الخيرين تتدفق عليهن من جديد، ما صار يخفف من معاناتهن. لكنّ تنظيم تداول الاموال واستلامها ونقلها بسيارات الإسعاف تولته أم صهيب، لأن أم أسماء لم يكن متاحا لها مغادرة المخيم. وهكذا صارت مسؤولية ام أسماء رعاية الحوامل والمرضعات في داخل المخيم، وايصال المساعدات والأغذية وعينات فحص كورونا إليهن بشكل منتظم. وفهمت أم أسماء أنّ هاتيك الحوامل والمرضعات، هن رأس حربة الجهاد في المخيم، والوسيلة الوحيدة الباقية لضمان امتداد نسل الخلافة. ومع حلول شهر الصوم، تدفقت المساعدات الغذائية والكتب والمنشورات الإسلامية، حتى حل موعد عيد الفطر، فوصلت هدية دسمة للحوامل والمرضعات، وكان على أم صهيب أن تستلمها من مدينة ال… التي تبعد نحو ساعة عن المخيم.
الهدية وصلت بطريقة ذكية، فقد استلمت أم صهيب 100 نسخة من المصحف، 30 منها نسخ من مصحف قطر، جاءت مسلفنة بنايلون، وفي جلد كل مصحف خبئت ورقة 100 دولار بعناية، بحيث أن من يزيل غطاء النايلون سيجد انامله تتلمس زيادة ورقية شفافة رقيقة صغيرة في ظهر غلاف المصحف، وما أن يزيل الزيادة، حتى تنتزع ورقة سمراء اللون تغطي كل ظهر المصحف من داخله، لتظهر تحتها ورقة 100 دولار الخضراء المباركة! أما المصاحف السبعين الأخرى فهي اصدار تركي متداول أنيق لكنها بلا غلاف مسلفن. مصاحف قطر هي هدية فاعلي الخير إلى المؤمنات الصابرات، وعلى أم صهيب أن توصلها لهن، فيما استلمت لنفسها هدية ثمينة في ظرف انيق مكتوب عليه (عيد فطر مبارك) وبداخله 10 أوراق من البترودولار الأخضر الجديد. أما باقي المصاحف فعليها توزيعها على ساكنات المخيم المؤمنات اللواتي يجدن قراءة القرآن.
لكنّ السر الكبير الذي لم تكشف عنه أم صهيب ولا غيرها، هو كيف تتلقح النساء الحوامل، ومن يعاشرهن وأين؟ ويبدو أن هذا السر مسكوت عنه لخطورته، وسيبقى طي الكتمان لأجل غير مسمى.
في منتصف عام 2022 تحول الطابق الأول من بيت أم صهيب، إلى ملتقى لقراءة القرآن بشكل يومي، وباتت جلسات التلاوة والترتيل تقام كل يوم في المكان، برعاية غير مباشرة من صاحبة البيت، التي خصص لها فاعلو الخير مبلغ 500 دولار شهرياً لدعم مشروع قراءة وحفظ القرآن من قبل أمهات الجهاد الصابرات. بهذا المبلغ، علاوة على مبلغ 300 دولار شهري تستلمه من لجنة الإغاثة التابعة لمنظمة الصحة الدولية وللهيئة العليا لإغاثة اللاجئين مقابل عملها في مركز اختبارات وفحوص كورونا، صارت أوضاع أم صهيب المالية ممتازة، وبات بإمكانها فعل الكثير، حتى أنها تشاركت مع أحد حراس المخيم، واشترت له توك توك جديد صغير، مسخر لخدمتها ولتأمين احتياجاتها ونقلها إلى المدن القريبة حين لا تتوفر عجلة اسعاف رسمية. الأمهات والمؤمنون صاروا سبباً لسعادة مفعمة عمّت بيت أم صهيب وجمّلت حياتها في المخيم، حتى أن كثيراً من الخاطبين من مدن قريبة تقدموا للزواج بها، وأضحت تفكر اليوم بجد في أن تتزوج من شخص متنفذ، وعد بأن ينزع عنها صفة اللجوء المشبوهة، ويحولها إلى مقيمة عربية عادية تسكن في المدينة، الموضوع لا يتطلب اكثر من إقامة، ولدى أم صهيب جواز سفر أردني وفلبيني وبلجيكي ويمكن لأحدها أن يؤهلها لنيل الإقامة في المدن البائسة المنكوبة، فتنتهي قصتها مع مخيم الدواعش إلى أبد.
*هذه القصة من وحي الخيال، وأيّ تشابه لها مع وقائع حقيقية في أيّ مكان وأيّ زمان هو مجرد مصادفة، والكاتب غير مسؤول عنها.
0 تعليق