تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

المحمّرة – استراتيجية الرعب قادت إلى الهزيمة!

ديسمبر 7, 2021 | 0 تعليقات

التحقت من الاجازة لأجد لوائنا وقد تحرك إلى المحمرة. جرى هذا في شهر أيار عام 1982. وجدت اللواء بعد ساعات من البحث في مخفر شرطة عتبة بمنطقة الشلامجة. كان النخيل يتساقط كل لحظة بفعل القذائف ولا أحد يعرف ما يجري والشائعات والتنقلات المستمرة انهكت القطعات.

دخلت إلى مقر اللواء وهو قائمقامية عتبة الغافية على جسر بين النخيل ملحق بالمخفر، فوجدت مقدم اللواء وعلى وجهه العملاق آثار الإرهاق وعدم النوم، تلقاني منهكاً، ومد لي يده مهنئاً بالزواج، ثم اعتذر لأنّ المعركة أجبرت اللواء على الحركة ولم يعد بالإمكان تمديد إجازتي اسبوعا آخر لتصبح 3 أسابيع كما كان معمولا به، وهو عرف غير مكتوب لكنّ التشكيلات تعتمده حسب مساعدة الموقف القتالي.

ثم قال لي وهو يخفي ابتسامة بؤس، سنتحرك الليلة لفك الحصار عن المحمرة، ولن نحتاج الشبكة السلكية حتى يستقر الوضع، آمر اللواء (المقدم الركن سلطان إبراهيم العلكاوي كان قد التحق بمنصبه قبل بضعة أشهر) وضابط ركن الحركات وضابط ركن الاستخبارات وضابط الركن الكيماوي، وآمر الرعيل اللاسلكي (م اول خلف وقد التحق بنا حديثا) ومعاون آمر سرية مخابرة اللواء (النقيب عماد وكان قد التحق إلينا قادما من قوات الحدود قبل أشهر) خرجوا استطلاع لتحديد مكان لمقر اللواء الجوال، حين يعودون سيتحدد وقت الحركة. نحن الآن بإمرة فرقة المشاة الحادية عشر.

وذهبت ابحث عن جنودي، فوجدتهم بين النخيل بلا مواضع، وقد بدأوا يحفرون لأنفسهم خنادق شقية، وروى لي معاوني نائب ضابط وادي  ور.ع عداي عريف الرعيل، تفاصيل محنة التنقل التي مرت بهم منذ 4 أيام، حيث أنهم لم يذوقوا طعم النوم، بسبب تغير الأوامر كل لحظة.

الحقيقة التي لا يقولها أحد، إنّ حجم وعديد القطعات كان أصغر بكثير من حجم انفتاحها على الجبهات، حيث أن عديد الجيش المقاتل بالكامل لا يزيد عن 11 فرقة، وكان برمته لا يكفي للدفاع عن المحمرة فحسب، حدث ولا حرج عن امتداد الجبهات على مدى 1400 كيلومتر مع إيران، لكن الإيرانيين كانوا بلا استخبارات، ولم يكونوا يعرفون فنون القتال، ولم يستطيعوا استثمار فوزهم، وهذا جاء رحمة بالعراقيين.

فقد حاصر الإيرانيون 6 ألوية عراقية في المحمرة، كلها عبارة عن 16 فوج من الجيش الشعبي، ومعها لواء واحد أظن أنّه اللواء التاسع عشر. الخطأ الفضيع من الجانب العراقي كان تكديس القطعات داخل المحمرة، وليس حولها، لذا ذهبت القطعات لقمة سائغة للإيرانيين فقد غرق 6 آلاف جندي عراقي وهم يحاولون الهرب من جحيم الحصار سباحة عبر شط العرب، فيما أسر الإيرانيون أكثر من 20 ألف جندي ومقاتل. شارك في حصار المحمرة أكثر من 70 ألف مقاتل ايراني وقطعوا عنها كل الطرق.

سبق ذلك اندحار الفرقة المدرعة التاسعة والفرقة المدرعة الثالثة في قاطع الكارون بعدما عبرت القوات الإيرانية إلى الضفة الغربية من النهر المذكور وأجبرت القوات العراقية على التراجع إلى داخل الحدود العراقية، ما سهل انسياب القطعات الإيرانية إلى شمال المحمرة والبصرة، فباتت البصرة في خطر فادح.

نتيجة هذا استدعى علي حسن المجيد موفد صدام حسين إلى الجبهة، قائد الفيلق الثالث اللواء (مقره البصرة) الركن صلاح القاضي وقائد الفرقة المدرعة الثالثة العميد الركن جواد أسعد شيتنه وآمر اللواء المدرع الثاني عشر العقيد الركن محسن عبد الجليل وأقام المجيد لهم محكمة ميدانية سريعة وأدانهم بالتقصير في تقدير الموقف وإدارة المعركة وفرض عقوبة الإعدام عليهم، ونفذت العقوبة عليهم فوراً. فيما غضّ المجيد ومن خلفه الطرف عن العميد الركن طالع الدوري رغم أن فرقته بدبابتها وجنودها قد سقطت في أسر الايرانيين، ولقربه بعزت الدوري دور حاسم في هذا الموضوع!

أما نحن القوات التي جرى استدعائها على عجل من باقي قواطع العمليات فقد كان دورنا هو محاولة فك الحصار عما تبقى من القطعات في المحمرة، ومحاولة استعادة السيطرة على المدينة المذكورة.

كانت الخرائط تتحدث عن تحرير المحمرة، فيما لم تستطع القطعات حماية دار خوين وقرية البوارين وهي من مناطق البصرة من العتاد الخفيف الإيراني. كان مشهداً سريالياً، وساد الجميع شعور أن تحرير الإيرانيين للمحمرة، سيعيد قطعاتنا إلى الحدود الدولية، وهذا سيؤدي إلى نهاية الحرب، لم يكن أحد يريد الدفاع عن المدينة الدامية، والجميع اتفقوا ضمناً نفسياً دون اتفاق، على أن استعادة الايرانيين للمحمرة ستنهي القتال، لكن الجنرالات لا يقولون ذلك وهم يدافعون عن مصالحهم مع صدام حسين .

تلك الليلة، تحركنا على عجل بلا أوامر وبلا دلالة وبلا حتى خرائط إلى موازاة سدة السويب ولكن باتجاه الجنوب، كنا نسير خلف سدة تسير بموازاة الحدود للوصول إلى قرية البوراين، وكنا نروم الوصول إلى نهر الطويلة، لكن هيهات، فالمنطقة ممتلئة بمفارز الحرس الثوري، والرمي لا ينقطع، نحن في الشاحنات وهم يتصيدونا كأهداف من فوق ومن بين النخيل. تسير القافلة التائهة، والقنابل كالمطر، وكل بضع دقائق، تنهار سيارة في خندق أو نهير، لتخرج عن القافلة. نهاية الليل وصلنا إلى حيث لا يعرف أحد، وعبرنا شبكة نهيرات فسقطت دبابة في نهير، وسدت تقاطع الطرق الرفيع الوحيد المؤدي الى قرية البوارين. بقينا نراوح في هذا المكان، حتى أخبرنا آمر اللواء بالتراجع ونحن راجلين إلى السدة الغربية، حيث تنتشر قطعات مختلقة من الجيش والجيش الشعبي ودبابات تائهة، وكلها عند مخفر الشلامجة. لكنّ الوصول إلى هذا المكان كان بحاجة إلى معجزة. لا أحد يعرف، ولا حتى آمر اللواء اتجاه مخفر الشلامجة، ولا أحد يعرف ما هو الواجب المطلوب، وكان علينا فك الحصار عن قواتنا في المحمرة، ونحن لم نستطع اجتياز الحدود العراقية.

بقينا في العربات، ونزلنا خلفها، فيما بدأت قطعات مختلطة تعود بعكس اتجاه سيرنا مهزومة، مئات السيارات العسكرية والمدنية الخاصة بوحدات الجيش الشعبي والدبابات والجنود الراجلون، بلا أسلحة ، جرحى، جرحى ملقون على قارعة الطريق، جرحى يتساقطون كل لحظة، كان بقاؤنا أحياء مجرد صدفة.

شاحنة هوندا خضراء، محملة بأكداس الأسلحة، وقد جلس فوقها مقاتل من الجيش الشعبي، قطعت ساقه من اسفل الركبة ويمسك بالساق المقطوعة ويبكي وهو يصرخ “والله مو خائن، قولوا لصدام حسين، والله مو خائن”!! يخاف من الرئيس حتى وهو على فراش الموت، وهو غالباً لن يصل وحدات الطبابة الميدانية، فهو يهذي ونزيفه يطفّر ليغمر كل ما حوله.

على الضفة الأخرى من السدة الترابية المكللة بالنخيل كان الرمي بالرصاص على أشده، بعد نحو ساعتين، صدرت الأوامر، أو هكذا بدا الأمر، بالعودة إلى سدة النخيل التي تقع في الجانب العراقي، ومحاولة منع الإيرانيين من دخول البصرة!! وهذا يعني أنهم قد عبروا الحدود الدولية وباتوا في داخل العراق.

كنا قطعات بلا قيادة، الجنرالات يرسمون صوراً وردية على الخرائط في غرف الحركات الأنيقة المبردة، ويكذبون على صدام حسين، طمعاً في مزيد من الامتيازات ونحن نتقطع ونتساقط مثل جثث مرهقة على السواتر. هكذا سارت القادسية، كثير من الأكاذيب، وقليل من الحقائق، وأظن أن الأمر يجري بنفس الشاكلة في الجانب الإيراني، أذ أنهم مشغولون بحروبهم الداخلية، المعممون، بإزاء الاصلاحيين، بإزاء اليسار الغاضب، ومجاهدي خلق وفدائيين الشعب. بعد عام هرب بني صدر رئيس الجمهورية التوافقي، وقتل مجاهدو خلق اثنين من رؤساء الجمهورية ورئيس الوزراء (غالبا بدعم من المخابرات العراقية)، وتفجير في مجلس الشورى قتل فيه 73 قياديا معمماً، وتفجير (طارت فيه عين خميني وشلت يده اليمنى)، وطائرة تسقط قرب قاعدة جوية في طهران فيقتل 93 قيادياً في الجيش والحرس الثوري ومعم ساسة كبار.

كوارثهم لا تنتهي وجنودهم على الجبهة تائهون. من بين مئات الأسرى، لم يسقط بأيدينا سوى بضع ضباط أعوان، ما يعني أن جنرالاتهم لا يصلون الجبهة، أو لا يقاتلون، أو يقاتل عنهم المعممون.

أجلس منتحياً جانب طريق الموت، وافكر لماذا درست شكسبير وتشوسر؟

 ولو جاء دي اتش لورانس إلى هذا المكان ماذا سيفعل؟

ولو التقى هؤلاء الجند المهزومون بأوسكار وايلد فماذا سيفعلون به؟

ولماذا درست كل ذلك، ما دام مشهدي سينتهي بهذا الخراب؟

ليل آخر يلف هذا الخراب والعبث والموت قريب جداً، ومسألة أن تبقى حياً هي مجرد مصادفة، قد تكون بقدرة ربانية كما يراها المؤمنون، وقد تكون لدعوة صدرت عن والدتي التي لم أرها منذ سنوات.

استندت على بندقيتي القبيحة، منتظراً الفجر؟

                         ***

ملهم الملائكة/ فصل من كتاب حين مشينا للحرب

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

مغامرات رياضية نحوية

مغامرات رياضية نحوية

بقلم محمد حسين صبيح كبة  أعطى أستاذ مادة معينة أوراق الأسئلة للطلاب. وكان هناك تقسيم للطلاب بحيث أن طلاب الصف الأول يجلسون في شكل حرف تي الإنكليزي منعا لأي غش أو لأية مشكلة وهكذا بقية الصفوف. تفاجأ طلاب الصف الرابع بأن أحد الأسئلة في درس معين يبدو غريبا بعض الشيء. كان...

قراءة المزيد
فيلم مصري ودرس عراقي

فيلم مصري ودرس عراقي

بقلم محمد حسين صبيح كبة الحكاية الأولى يبدو واضحا للعيان أن الفيلم العربي المصري صراع في الوادي هو فيلم به ثيمة وبه حبكة مصوغتان بعناية فائقة. الواضح في الفيلم قيام الفلاحين بزرع القصب وفي سنة من السنين كان منتوجهم من الدرجة واحد بينما بسبب سوء إدارة إبن شقيق الباشا...

قراءة المزيد
مكتبات بدون مناسبة

مكتبات بدون مناسبة

بقلم محمد حسين صبيح كبة كنت في الثانوية قبل السادس الإعدادي في الخامس الإعدادي، وقتها علمنا أنا وصديق مسيحي أن هناك إمتحان في كلية معينة تقبل الطلاب قبل الإعدادية إذا ما نجحوا في الإمتحان. كان الأمر أشبه بحوزة دينية علمية لا تطبق النظام الفرنسي. علمنا بعدها بسنوات أنه...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *