ولدت فكرة العقارب من اقتراح تقدم به أحد ضباط ركن الفرقة الثامنة، بنشر مفارز خلف خطوط التماس في العمق الإيراني للقيام بعمليات فردية نوعية، ولأن قائد الفرقة كان ابن عمة صدام حسين، فقد واقفت القيادة العامة للقوات المسلحة على تشكيل فصيل العقارب.
فصيل العقارب لا ينتمي لصنف معين في الجيش، فهو ليس مغاوير ولا صاعقة ولا قوات خاصة ولا استخبارات، بل خليط من كل ذلك.، ولذلك جرى تعميم كتاب إلى كل وحدات الفرقة الثامنة، بحث المنتسبين جنوداً ومراتب وضباط على التطوع لفصيل العقارب، للقيام بعميات نوعية خلف خطوط التماس.
المفاجأة أن ن ع مخابر مطوع عماد وهو أحد منتسبي رعيل المخابرة الثاني السلكي الذي كنت آمراً له، قد تقدم بكتاب للتطوع على هذا الفصيل، استدعيته وهنأته على التطوع، وسألته إن كان يرى نفسه أهلا لهذه المهام، فأجاب مبتسماً “سيدي أنا مطوع، وأيّ تكريم سينقلني نقلة كبرى في السلك العسكري”، وأبديت تفهماً تاماً لدوافعه، علاوة على أنه كان مندفعاً جسوراً مغامراً غير هياب، وهذا هو عز المطلوب من قوة العقارب.
بعد نحو شهرين صدر امر استخدام ن ع عماد في مقر الفرقة الثامنة، فانفك عن وحدتنا وذهب. بعد نحو 3 أشهر، زارنا ن ع عماد، وقد ترفع لدرجة نائب ضابط درجة ثالثة، أي أنّه قد قفز 6 رتب إلى أعلى خلال هذه المدة القصيرة! وسألته عن هذا الفوز العظيم السريع، فأجابني أن القوة قد خطفت سيارة ماء حوضية إيرانية مع سائقها، ومعتمد بريد مع دراجته وجاءت بكل ذلك إلى قواتنا، فصدر أمر قائد الفيلق بتكريمه وباقي القوة بهذا الشكل. ثم رحل عماد عنّا بلا خبر.
بعد نحو سنة وصلنا أمر بتكريم ن ض عماد برتبة ملازم أول!! لنجاحه مع منتسب آخر بخطف ضابط إيراني برتبة مقدم، وجلبه سالماً مع سلاحه إلى القوات العراقية. ثم لحق ذلك كتاب نقل الملازم الأول عماد إلى مديرية الاستخبارات العسكرية العامة!
وانقطعت أخباره، ثم علمت في عام 1984، بأنه قد نُسب إلى مشروع 999، استطلاع عميق، وما كنت أعرف عن ذلك المشروع شيئا، فسألت الضباط الأكثر قدما، وقال أغلبهم إنه مشروع استخباري لكنهم لا يعرفون عنه شيئاً.
بعد أعوام التقيت النقيب عماد، في نادي الضباط بمدينة الربيعي ببغداد وكنتُ قد ترفّعت تواً إلى رتبة ملازم أول، وهالني كم تغير الرجل، فبات مفتول العضل أنيق المظهر، رياضي رشيق الحركة. وتبادلنا القبل، وجلسنا نتعشى إلى مائدة واحدة وأصر على أن يدفع الحسب، ثم كشف لي ونحن نحتسي كؤوس الطلا أنّ المشروع 999 وتوأمه المشروع 888، ينفذان عمليات في العمق الإيراني. لكنّ 999 مختص بإيران، و888 ينفذ عمليات في إيران وغيرها عبر العالم على طريقة الموساد! ثم بين لي أنّ هذين التشكيلين يعرفان بأنهما وحدات الاستطلاع العميق، ويحظيان بتدريب عالٍ جدا، وتسخّر لهم إمكانات كبرى.
في عام 1988، بات لكل فيلق سرية استطلاع عميق، وكان سبب التوسع أن نهاية الحرب أدت إلى حل التشكيلات والألوية بالجملة فيما عرف بالهيكلة، وهي تقنية إسرائيلية تتيح تعبئة التشكيلات والوحدات عند أي طارئ. ولم يشأ القادة أن يفقدوا تشكيلات الاستخبارات الكبرى التي عملت في الفيالق، فعمدوا إلى استحدث وحدات استطلاع عميق في كل فيلق، نُقل إليها عناصر من مغاوير واستخبارات الفرق المنحلة.
مع غزو الكويت، تحركت هذه الوحدات لدعم مقرات الفيالق ضد عناصر الانتفاضة جنوب وشمال العراق، ولكنها لم تستطع أن تغير المعادلة في كركوك، حيث سقط مقر الفيلق الخامس بأيدي البيشمركة، وأسر عناصر سرايا الاستطلاع العميق وقتل بعضهم، فيما سلم أغلبهم إلى إيران وبقوا في الأسر والتحقيق مدة 13 سنة.
أما عناصر الاستطلاع العميق، من قوات النخبة التابعة لمديرية الاستخبارات العسكرية العامة، فقد قتل أغلبهم في عمليات تحرير العراق عام 2003، ولهذا قصة قد أمر عليها فيما بعد.
لقاؤنا في تلك الليلة، علمني القاعدة التالية، إبان الحرب يمكن أن يُقتل الجندي بسهولة، ويمكن أيضا أن يصبح جنرالاً بسهولة، وهكذا فإنّ عماد قد ترفع في الرتب، لو بقي كل عمره في الخدمة ما كان سيصل إليها، وتفصيل ذلك:
من نائب عريف إلى عريف سنتان.
من عريف إلى رئيس عرفاء سنتان.
من رئيس عرفاء إلى نائب ضابط درجة ثامنة 3 سنوات على أن يكون حاصلا على شهادة الدراسة المتوسطة على الأقل.
من نائب ضابط درجة ثامنة إلى نائب ضابط درجة ممتازة 24 سنة بواقع 3 سنوات في كل رتبة.
لا يترفع نائب الضابط إلى رتبة ضابط إلا بأمر جمهوري خاص!
كل هذا اختصره النقيب عماد في ثلاثة أعوام، الحرب تصنع معجزات.
***
ملهم الملائكة/ فصل من كتاب حين مشينا للحرب
0 تعليق