لم تكن لطموحات صدام حدود ففي كانون الأول (ديسمبر) من عام 1974 رأس وفداً حكومياً كبيراً إلى باريس بدعوة من رئيس وزراء فرنسا آنذاك جاك شيراك فتمثلت لجنة الطاقة الذرية ضمن هذا الوفد بثلاثة أشخاص هم الدكتور همام عبدالخالق والدكتور خالد ابراهيم سعيد والمهندس أحمد بشير النائب (رئيس المؤسسة العامة للكهرباء) وطلبت هذه المجموعة من لجنة الطاقة الذرية الفرنسية CEA تزويد العراق بمفاعل نووي للقدرة الكهربائية من النوع المبرّد بالغاز والمهدأ بالغرافيت، غير أن الجانب الفرنسي اعتذر عن ذلك بحجة أن فرنسا قد تخلت عن إنتاج هذا الصنف من المفاعلات واستعاضت عنه بمفاعلات من صنف مفاعل مبرد بالماء الخفيف المضغوط PWR . واتفق الجانبان على قيام فرنسا بتزويد العراق بمفاعلات نووية للأبحاث وأخرى لإنتاج القدرة الكهربائية. الزيارة تضمنت طائرة من الخطوط الجوية العراقية محملة بالسمك وحطب الطرفة، وسماكة عراقيين من شارع أبي نؤاس لإعداد وجبة مسكوف تاريخية في قصر الأليزيه.
تمخضت زيارة صدام إلى فرنسا عن توقيع عقد شراكة تجارية دامت حتى عام 1990 فتولت فرنسا تصدير طائرات ميراج المقاتلة لتعزيز إمكانات القوة الجوية العراقية كما أنشأت مؤسسة لإنتاج العدد الإلكترونية ومكونات الرادار التي تم بناؤها في منطقة الدور قرب تكريت وكذلك أنشأت مجمع الحديد والصلب في منطقة خور الزبير قرب البصرة وغير ذلك من المشاريع الكبيرة.
وتم في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1976 توقيع العراق عقدٍ بقيمة 450 مليون دولار مع تجمع من الشركات الفرنسية وبموافقة لجنة الطاقة الذرية الفرنسية CEA لبناء مشروع 17 تموز القائم على مفاعل تموز-1 وهو من نوع حوض سباحة مخصص لفحص المواد MTR بقدرة 40 ميغاواط حراري ومولد لفيض من النيوترونات الحرارية.
هو في الحقيقة مفاعل يستخدم لبحوث الفيزياء النووية وفيزياء الحالة الصلبة ولفحص المواد (بما في ذلك الوقود النووي) المستخدمة في تصنيع أجزاء محطات الطاقة النووية. ويمكن استخدام هذا المفاعل لإنتاج النظائر المشعة علماً أن الوقود المستخدم لتشغيل هذا المفاعل هو من نوع سبيكة اليورانيوم والألومنيوم ويحتوي على يورانيوم بتخصيب 93 في المئة.
ويتضمن مشروع 17 تموز أيضاً بناء مفاعل تموز-2 وهو مفاعل ذو قدرة 500 كيلو واط حراري فقط وينتج فيضاً نيوتروني حراري (…) ويستخدم كنموذج نيوتروني لمفاعل تموز-1 ولتعيير قضبان السيطرة وتوزع الفيض النيوتروني ويستخدم أيضاً لدراسة تأثير التجارب في المفاعل على فاعليته.
ثمة شبه كبير بين مفاعلي تموز-1 وتموز-2 من جهة، وبين مفاعلي أوزيريس وآيزيز الفرنسيين المستخدمين في ساكلي قرب باريس منذ عام 1966. وقد يفسر هذا التشابه سبب تسمية مفاعل تموز-1 في وسائل الإعلام الدولية باسم مفاعل أوزيراك (وهي كلمة منحوتة من كلمتين OSIRIS و RAK) والفوارق بين مفاعل أوزيريس وتموز-1 هو أن قدرة الأول 70 ميغاواط حراري بينما قدرة الثاني 40 ميغاواط حراري وأن مفاعل تموز-1 يحتوي على قنوات أفقية لاستخراج النيوترونات، ويتضمن خزاناً للماء الثقيل بسعة 700 ليتر ذا مصدر نيوتروني ساخن وآخر بارداً يستخدم للتجارب الفيزيائية. كما يحتوي المــفاعل على أنابيب نقل مسارات النيوترونات الباردة إلى منطقة تحت الأرض لإجراء تجارب فيزيائية متخصصة.
وتضمن مشروع 17 تموز مختبراً لفحص المواد سمّي (لاما) وقد خُصِّصَ لإجراء فحوصات إتلافية ولا إتلافية على المواد قبل وبعد تشعيعها في مفاعل تموز-1، وتضمن المشروع ورشة اختصاص لتجميع وفحص التجارب التيستجرى في قلب المفاعل كما احتوى على محطة سميت RWTS مخصصة لمعالجة النفايات السائلة ذات النشاط الإشعاعي الواطئ والمتوسط والناتجة ضمن حلقة تبريد المفاعل وكذلك لمعالجة نفايات أخرى تنتج عن تشغيل وإجراء التجارب في مجمع 17 تموز.
وثمة اتفاقية أخرى تم توقيعها في 13 كانون الثاني من عام 1976 بين لجنتَي الطاقة الذرية العراقية والإيطالية CNEN للتعاون المشترك في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية وكنتيجة لهذه الاتفاقية تم توقيع عقد مع شركة سنيا تكنت الإيطالية وبموافقة CNEN لبناء مختبر صغير لأبحاث الراديو كيمياء يستخدم لاستنباط مخطط سير العمليات لاستخلاص مقادير بمستوى الغرامات من عنصر البلوتونيوم من أعمدة وقود تشعع لهذا الغرض وثمة عقد آخر تم توقيعه مع الشركة ذاتها بكلفة 250 مليون دولار أميركي لبناء مشروع سمي مشروع 30 تموز يتكون من مختبر لتصنيع وقود لمفاعلات إنتاج الطاقة من نوع PWR ويتضمن قاعة تكنولوجية لبحوث الهندسة الكيماوية ومختبر فحص المواد وورشة ميكانيكية صغيرة وأخرى كهربائية ومختبراً لإنتاج النظائر المشعة وعُدد التشخيص الطبية.
وبالتوافق مع هذه المشاريع كانت وزارة الصناعة والمعادن قد وقعت عقداً خلال 1975- 1976 مع شركة سيبترا البلجيكية Sebetra لاستغلال الفوسفات من منجم عكاشات لإنتاج الأسمدة الفوسفاتية، فيما كانت العمليات تسير عبر إنتاج حامض الفوسفوريك فطلبت لجنة الطاقة الذرية من وزارة الصناعة التعاقد لإنشاء وحدة معالجة حامض الفوسفوريك لاستخلاص اليورانيوم منه قبل استغلال الحامض لإنتاج الأسمدة الفوسفاتية محققة بذلك توصية الخبير العراقي في عام 1972.
وتم فعلاً إنشاء هذه الوحدة ضمن مجمع القائم من شركة مبشم البلجيكية Mebshem وهي وحدة مصممة لإنتاج 103 أطنان من اليورانيوم سنوياً أي 146 طناً من مادة ثنائي يورانات الأمونيوم ADU المعروفة باسم (الكعكة الصفراء) واكتملت الوحدة عام 1984 وتم تشغيلها لغاية حرب 1991 عندما دمرتها قنابل جيوش التحالف الدولي ضد العراق وأنتجت طيلة تلك الفترة ما مجموعه 109 أطنان يورانيوم (أي 169 طن من الكعكة الصفراء) وسبب نقصان الإنتاج هو تشغيل الوحدة بما معدله 214 يوماً في السنة بدلاً من 317 يوماً وبسبب كون النسبة الواقعية لليورانيوم في حامض الفوسفوريك كانت ثلثي النسبة المحسوبة في التصميم وبسبب معالجة 50 في المئة من إجمالي حامض الفوسفوريك لهذا الغرض إضافة إلى أن كفاءة استخلاص اليورانيوم كانت 93 في المئة من الكفاءة المحسوبة في التصميم.
المقاربة الإسرائيلية للمشروع
كان مناحيم بيغن رئيس الحكومة الاسرائيلية يخطط لهجوم على المفاعل النووي العراقي في (تشرين الثاني / نوفمبر 1979)، لكنّ الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ورئيس الموساد إسحاق هوفي عارضوا ذلك مؤكدين بأنّ المفاعل العراقي لا يمكن أن يشكل تهديداً حقيقياً إلا بعد بضع سنوات، وأنّ الغارة قد تؤدي إلى حرب شاملة قد توقف أو تقضي على عملية السلام الجارية مع السادات، والتغيرات الغامضة في إيران لا تنبئ بمستقبل آمن في المنطقة. القيادة الأمريكية ومنذ أزمة الرهائن في طهران كانت مشغولة بوضع استراتيجية احتواء تشمل إيران التي تهدد بتصدير ثورتها الإسلامية، وصدام حسين الحالم بقيادة الأمة العربية ومحو إسرائيل.
في ليلة السادس/ السابع من نيسان /أبريل 1979 – أنتبه إلى دلالة هذا التوقيت وعلاقته بمولد حزب البعث والاحتفالات السنوية به في العراق – وفي نحو الساعة الثالثة فجراً، هزت سلسلة انفجارات متزامنة مستودعات مؤسسة البناء البحرية والصناعية للمتوسط في محافظة (لاسين سور مير) بفرنسا، حيث كانت قطع أساسية من مفاعل أوزيراك مخزونة بانتظار شحنها إلى العراق في تواريخ وتفاصيل مغطاة بطابع “الأسرار الدفاعية” وهي أعلى تصنيف أمني في فرنسا. وقررت في حينها الشرطة الفرنسية بأن “إسرائيل” هي المشتبه الرئيس للقيام بالعملية.
الهجوم نفذته الموساد، واختارت التوقيت لتبعث رسالة للساسة العراقيين مفادها لا تفرحوا بأعيادكم، فنحن هنا لنفسد عليكم لذة النصر السياسي. ولم يكن بوسع أحد من العلماء القيام بمهمة إصلاح الفرن سوى د. يحيى المشد الذي نجح في إصلاحه والإشراف على عملية نقله لبغداد، وهو عالم مصري متخصص في علم المعادن يعمل للجنة الطاقة الذرية العراقية وكان في مهمة ترتيب شحن وقود نووي للعراق،. نفذت الموساد عملية أغتيال المشد، حيث جرى قتله في الغرفة وتركت جثته غارقة في بركة دماء. في ليلة 17-18 حزيران (يونيو) 1980، وأشارت التحقيقات إلى قيام فريق مدرب باقتحام غرفة الدكتور يحيى المشد في فندق ميرديان بقلب باريس، وقتله.
وفي غياب حصول أي سرقة استبعدت الشرطة الفرنسية أن تكون عملية سطو هي الدافع وراء الجريمة، لكنّ نتائج التحقيق لم تظهر وبقي الملف معلّقاً لأن الجانب العراقي أصر على تعليقه، معتمداً على كفاءة جهاز المخابرات العراقية الذي كان قد ولد توا آنذاك في كشف خفايا الاغتيال.
وكان د. يحيى المشد أحد ثمانية أشخاص هم أعضاء لجنة استلام مفاعل أوزيراك. وفي الأول من تموز / يوليو، حققت الشرطة الفرنسية مع بائعة هوى محترفة فرنسية كانت قد التقت مع المشد في تلك الأمسية وسمعت أصواتا آتية من غرفته. وبعد 12 يوما أي في يوم الثاني عشر من تموز 1979، وعندما كانت المذكورة متجهة لمركز الشرطة الفرنسية للأدلاء بإفادتها، دهستها سيارة مجهولة ولاذت بالفرار.
ابتداء من شهر آب /أغسطس 1980، أعطبت عبوات ناسفة مكاتب ومقرات إقامة مسؤولين في شركات إمداد للعراق في فرنسا وإيطاليا وهي: تكنياتوم وسنيا- تيكنت وانسالدو مركانيكو نوكلياري. وهي مؤسسات كانت قد عرضت تزويد العراق بمفاعل اختباري وخلايا حارة تستخدم في عملية تخصيب اليورانيوم
في السابع من آب /اغسطس 1980تم تفجير أربعة قنابل، اثنتان في مقر شركة (SNIA-Technit) في روما المسؤولة عن تجهيز مفاعل تموز للعراق، وواحدة في دار مدير فرع الشركة في ميلانو، وواحدة في بيت خبير مفاعلات نووية في باريس.
في 13 ديسمبر/ كانون اول 1980، اغتيل المهندس المدني الاستشاري عبد الرحمن رسول بالسم في مقر اقامته في باريس. وفي ابريل /نيسان 1981 اصيب الدكتور المهندس سلمان رشيد سلمان اللامي بحالة تسمم اثناء حضوره ورشة عمل في جنيف، توفي على أثرها في 9 حزيران 1981.
آنذاك، تحدثت وسائل الاعلام مطوّلاً عن نجاح جهد استخباري اسرائيلي في تدمير قلب مفاعل تموز1 يوم 6 نيسان/ ابريل 1979 بميناء طولون بفرنسا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وحول هذا الموضوع قال ناحوم أدموني مدير خلية “العهد الجديد” إنّ تنظيماً مجهولاً أطلق على نفسه تسمية “الخضر” نسبة إلى الناشطين في الحفاظ على البيئة أعلن مسؤوليته عن الهجوم كما أكدت تقارير سرية حصلت عليه الموساد. لكنّ ذلك الهجوم لم ينتج عنه تدمير كامل لقلب المفاعل المعد للشحن البحري إلى العراق، وقد عقد الفرنسيون اتفاقاً جانبياً آخر مع العراقيين لتصليح الأجزاء التالفة دون إشارة إلى من يتحمل تلك التكاليف الإضافية.
وبمجرد حصول دوائر الاستخبارات الإسرائيلية على معلومات مفصلة عن التفجير وعن نتائجه، اتُخذ القرار لاستغلال الهجوم، والسعي حثيثا لتأخير شحن المكونات المطلوبة إلى العراق. وعزز ذلك أنّ الفرنسيين بعثوا رسائل إلى صدام حسين، الذي بات رئيس العراق مزيحاً الرئيس أحمد حسن البكر عن عموم المشهد السياسي العراقي، ليقبل منهم تغييراً في مواعيد ايصال الشحنات بسبب الهجمات التي تتعرض لها الشحنات (وغالبا كان يُوحى لصدام حسين أنّ الهجمات نفتها أجهزة إسرائيلية، وهذه لم تكن كل الحقيقة). هذا المناخ المليء بالشكوك والمخاوف، أفرز تأخيرات أخرى في مواعيد التسليم، ما أخّر انجاز مفاعل تموز. لكن تفاصيل دقيقة كالتي عرضناها هنا لم تكشف حتى تاريخ كتابة هذه السطور.
في آب/ أغسطس 1980، تلقى الموظفون والعمال العاملون في الشركات الفرنسية المساهمة في اعداد المشروع النووي العراقي بمقر عملهم في التويثة، وبمقر سكنهم، في مجمع عشتار بالمدائن، رسائل تهديد تخيّرهم بين حياتهم وبين التخلي عن عملهم في المشروع، فانتابهم الخوف وتراجع أغلبهم عن المشاركة، بل إنّ كثيراً منهم تحرك ميدانياً فغادر العراق وعاد إلى فرنسا خوفاً من التهديدات،.
في 22 أيلول/ سبتمبر 1980 وتزامناً مع إعلان العراق حربه الشاملة على إيران، استدعت وزارة الخارجية الفرنسية السفير الإسرائيلي في باريس مائير روزين وأبلغته رسمياً أن فرنسا ترجح أنّ إسرائيل هي من بعثت رسائل التهديد المشار إليها، وطالبته بإيقافها فوراً. وعلى كل حال، ونتيجة رحيل العمال الفرنسيين، ونتيجة اندلاع الحرب مع إيران، توقف العمل في أوزيراك لبضعة أشهر.
*ملهم الملائكة / فصل من كتاب اوبرا اوزيراك
0 تعليق