تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

الرفاق الحائرون في شرق البصرة!

مارس 14, 2022 | 0 تعليقات

كان غريباً أن المقدم الركن مأمون، ويسميه كثيرون الحاج مأمون لشدة تقواه، يردد بأعلى صوته أغنية فائزة أحمد الشهيرة “الرفاق حائرون، يفكرون يتساءلون” وهو يشير بوضوح إلى ما يسمى بفرقة الأطراف من حزب البعث التي استقرت في مقر لوائنا فكانت كارثة على الجميع!

فجأة وفي ربيع عام 1983 ظهر بيننا م. أول ن الجبوري، وعمره خمسون عاما، وهو عضو شعبة مسؤول فرقة الأطراف التي استقرت في لوائنا، وكان واضحاً أنّ هذا جرى بعد أن ذهب أمرو اللواء الثلاثة المتعاقبون إلى السجن، وبعد أن التحق أمر لوائنا الجديد العقيد غانم صالح العزاوي بالمنصب رغم أنه لم يكن ضمن مزاج الحزب، فهو مثقف، متعلم في ساند هرست (الكلية العسكرية الملكية في بريطانيا)، وهو عسكري محترف، تتقدم الأخلاق وقيم العسكرية عنده على أي قيم أخرى، كما أنه قريب جداً من شيوخ قبيلة العزة، وهي قبيلة عربية مهيوبة الجانب في منطقة ديالا.

وكان على سرية مقر اللواء أن تؤمّن للرفيق ن. سائقاً لسيارته تويوتا لاند كروزر البيضاء الحديثة، ومراسلاً، وكاتباً ومسؤول أضابير في شعبة الأطراف العسكرية الجديدة التي لم ير أحد مثيلا لها إلا في لواء مشاة 23 !! وبما أن سرية مقر اللواء تفتقر إلى جنود بدرجة رفيق حزبي، وتفتقر إلى جنود مقربين من ثقة الحزب، لأنهم في العادة لا يصلون إلى مستويات مقرات ألوية المشاة المشغولة بمعارك قادسية صدام منذ 3 سنوات، بل يحتفظ بهم الحزب في الوحدات الآمنة والمرفهة في الجيش ليقوموا بأعمال المراقبة واعداد التقارير والأضابير عن ضباط ومراتب وجنود الجيش لتحديد مدى ولائهم للحزب والرئيس القائد، فقد كان على الرفيق نهر أن ينقل إلى فرقة الأطراف 3 جنود غير مشكوك بولائهم، ليتولوا عن كثب أعمال الفرقة الحزبية العسكرية الجديدة، وهكذا ما لبث أن التحق بالوحدة جنديان بدرجة رفيق للعمل في الفرقة، وجندي جبوري حائز على الثقة سيكون سائقا للرفيق ن.

ثم أتضح أن الرفيق م. أول ن يحتاج إلى من ينوب عنه حين يذهب في مأمورية (ومأمورياته كثيرة)، أو حين يذهب في إجازة، وهكذا التحق بمقر لوائنا الرفيق م أول ح الحديثي، ليتولى منصب ضابط التوجيه السياسي في اللواء، دون أن يشمل كتاب نقله إشارة إلى أنه سيتولى هذا المنصب الذي ينص ملاكه على ضابط رتبته “رائد توجيه سياسي”، فيما الرفيق المنقول عمره 44 عاما، ويحمل شهادة متوسطة، لكن نضاله الحزبي أكرمه برتبة ملازم أول، وبقيت رتبته حتى النهاية بلا منصب، وبقي عنوانه غير الرسمي، “نائب الرفيق ن” كما يتولى مهام الأمن والمراقبة دون أن يحمل صفة رسمية تخوّله ذلك!

هذا الكيان “الرفاقي” الغريب الذي ظهر في لوائنا، أثار شكوك ومخاوف الضباط والجنود خاصة، لكن نواب الضباط، وهم الطبقة الأكثر ولاءً لحزب البعث، كانوا في طليعة المرحبين بالكيان الجديد، لاسيما أنّ الرفيق ن والرفيق ح كانوا حتى عام 1981 نواب ضباط، وترفعوا رتبتين خلال سنتين لضرورة العمل الحزبي في الوحدات المقاتلة.

المشكلة التي تواجه الرفيق ن والرفيق ح أنهما ضابطان، لكنهما يجهلان كل شيء عن عالم الضباط وأصول تعاملهم، وتبادل الاحترام و رد التحية والجلوس في بهو ومطعم الضباط، وتسلسلات القدم، وجداول الترفيعات وما إلى ذلك، كما أنهما يجهلان تماما سياقات عمل الضباط في ظروف السلم والحرب.

الرفيق م. أول ح الحديثي التحق بمقر اللواء وهو يرتدي بدلة زيتونية وحذاء قيافة خفيف أسود ! وهو ما يخالف قيافة الضباط في شيئين، الأول أن الضابط ملزم بارتداء حذاء خدمة “بسطال” في الجبهة، والحذاء الخفيف ممنوع بشدة، والثاني أن الحذاء الخفيف الجلدي للضباط يجب أن يكون جلديا أحمر اللون وليس أسود قط. وكانت المشكلة التي واجهت الجميع، هي فيمن سيوضح له هذه المخالفة! وأخيرا توصل الجميع إلى أن الرائد الركن عبد الصاحب ضابط الركن الثالث حركات اللواء يمكنه أن يحدث الرفيق م أول ن، ليبين للملازم أول ح الحديثي ضرورات القيافة العسكرية في جبهات القتال، وهذا ما كان! وبعد يومين بدأ الرفيق م أول ح يبحث عن الضابط الإداري ليطلب منه حذاء خدمة “بسطال”.

ولابد من الإشارة هنا، إلى أن حذاء خدمة الضابط يجب أن يكون أحمر اللون، وكان الضباط قبل الحرب يبتاعون من حوانيت الجيش بساطيلهم الحمر التركية خفيفة الوزن، لكن ظروف المعركة التي باتت تسحق أحذية الضباط بسرعة، وعدم توفر ما يكفي من الأحذية الحمراء في حوانيت الجيش أجبرت الضباط على استعمال بساطيل الجنود السوداء، بطلبها من الضباط الإداريين، لاسيما أن مواصفاتها قوتها تتفوق كثيراً على الأحذية الحمراء التركية، وما لبث أن أصبح حذاء خدمة الضباط بحلول عام 1981 أسود اللون باعتبار واقع الحال، وليس بقوة القانون.

وفي عام 1983، جاء تعميم شديد اللهجة، يؤكد على ضرورة ارتداء الضباط أحذية الخدمة الحمراء، وابتياعها من الحوانيت، لكن الضباط احتالوا على تنفيذ الأمر بإرسال أحذية خدمتهم الرومانية السوداء إلى اسكافي مدني يقوم بطلائها باللون الأحمر.

وبالعودة الى سيرة الضباط الرفاق، ففي الحقيقة كان أغلبهم لا يميل إلى ارتداء أحذية الخدمة، لاعتيادهم في سنوات خدمتهم الطويلة حين كانوا نواب ضباط على العمل في مكاتب ومقرات لا تتطلب ارتداء حذاء الخدمة الثقيل، لكن تشدد القادة وآمري التشكيلات في الأمور العسكرية خلال سنوات قادسية صدام المتطاولة أجبرهم على التعود على ارتداء حذاء الخدمة الثقيل إسوة بالمقاتلين!

كل هذه الأمور، قد تبدو للمدنيين قضايا عابرة، لكنها في داخل المجتمع العسكري تعني الكثير.

شخصياً بدأت مشاكلي مع فرقة الأطراف، حين وصلت أوامر من قائد الفرقة شخصياً، على ضرورة خروج الجميع إلى العرض والتدريب الصباحي، بعد انتهائهم من الإنذار الصباحي اليومي، وهذا يعني أن على الجميع الاستيقاظ من الساعة 4 صباحا، وارتداء الملابس العسكرية والحذاء والأسلحة والتجهيزات، والجلوس في خنادق الرمي حتى طلوع الضياء الأول، ثم العودة إلى مواضعهم وتناول طعام الفطور في الساعة السابعة، وبعدها في السابعة والنصف يخرج الجميع إلى التدريب الصباحي!؟ كل هذا ونحن على بعد 3 كيلومتر من الحافة الأمامية، وبوسع أيّ مرصد معادٍ يرتفع 10 أمتار عن سطح الأرض أن يرانا بوضوح ويميز حتى ألوان أحذيتنا!؟

أخطر وأسوأ ما في هذا الأمر، أنه يتجاهل طبيعة عمل جنود المخابرة في الجبهة، فنحن لسنا مقاتلين مشاة، بل جنود وضباط مخابرة مطلوب منا إدامة الاتصال مع الوحدات خلال الحرب، وكل أيامنا هنا حرب، لكن من يصدر الأوامر العسكرية يتعمد تغافل الحقائق، قاصداً غالبا المزايدة لدى الما فوق من القيادات بأنه يحافظ على مستوى تدريب وكفاءة القطعات حتى غير المقاتلة منها !

بعد أيام من صدور هذا الأمر، وشروعنا في تطبيقه، حضر آمر اللواء شخصيا لمتابعة التدريب، في ساحة التدريب الافتراضية الواقعة على بعد 40 مترا خلف مقر اللواء، وهي مفتوحة في العراء أمام أسلحة العدو المحتملة المتوسطة وهاوناته ومدفعيته بشكل خاص. كان آمر سرية مقر اللواء آنذاك الرائد حسين ن. وهو من الدورة الخاصة الأولى، وكان من عناصر الحرس القومي سيئة الصيت عام 1963 قبل منحه رتبة تكريمية في العام نفسه قبيل انقلاب عبد السلام عارف على البعثيين.

صدام حسين قدّم سلطة الحزب على سلطة الجيش

بدأ آمر اللواء يسأل آمر السرية عن الموجود من الجنود، وبدأ يتابع بالاسم من خرج منهم للتدريب، لاسيما الكتبة والسواق والمخابرين والمراسلين. وبات آمر السرية يتلعثم في الرد، وانتهى المشهد بذهاب آمر اللواء غاضباً.

في نفس اليوم، أرسل آمر السرية في طلبي وطلب م أول خلف آمر الرعيل اللاسلكي و طلب آمر فصيل الدفاع والواجبات في سرية المقر، ووجه لنا تحذيراً شديد اللهجة بضرورة عدم استثناء أي أحد مهما كانت صفته من التدريب، لاسيما العرض الصباحي وساعة التدريب الأولى، وبدورنا أبلغنا رعائلنا وفصائلنا بالموقف، وشددنا على خروج الجميع للتدريب.

بعد أسبوع، وصل عدد الحاضرين في العرض والتدريب الصباحي للساعة الأولى إلى 160 شخصاً من عموم السرية، وكان هذا رقماً كبيراً مخيفاً حقا بالنظر لظروف انفتاح اللواء في جبهة الحرب، وكان سقوط أي قنبلة معادية وسط هذا الجمع المنفتح على أرض صحراء كتيبان المنبسطة يعني التضحية بأكثر من نصفهم بين قتيل وجريح!

ومضى الأمر على هذا المنوال، حتى خرجتُ للتدريب ذات يوم، لأجد نفسي الضابط الوحيد الموجود من سرية المقر للأشراف على التدريب، وكان عليّ أن استلم موجود السرية وأدقق جميع الفصائل.

ضمن الفصيل الإداري وفيه الكتبة والسعاة، كان أحد الجنود قد خرج للتدريب بحذاء خفيف. وبدون أن أعرف من هو الجندي الذي لم أره سابقا، أدركت أنه أحد الرفاق، فهم يعشقون الحذاء الخفيف. أخرجته من فصيله، وأمرته أن يعود إلى الثكنة ويرتدي حذاء خدمة ويعود للتدريب. فغادر ساحة التدريب ولم يعد، وكتبت به كشفاً إلى آمر السرية، وسرعان ما رُفع الكشف في نفس اليوم إلى مقر اللواء.

تلك الليلة في غرفة الحركات، أكد مقدم اللواء، المقدم الركن مأمون أنّ على الجميع تنفيذ أوامر قائد الفرقة بشأن العرض والتدريب الصباحي، وبلّغ الملازم أول ن، الذي كان ممتعضاً جداً بسبب كشفي حول جنديه الرفيق رعد الحديثي، بعدم وجود استثناءات في التدريب، كما أبلغه أن عدم تنفيذ الجندي أمر الضابط المشرف على التدريب قد يسبب بتشكيل مجلس تحقيقي بحقه، لأنّ الأمر جرى في ساحة الحرب، وهذا يعني عصيان الجندي لأوامر قيادته.

بعد ثلاثة أيام، ذهبت في إجازتي الدورية، وتركت الموضوع معلقاً لاسيما أني لم اخرج للتدريب بسبب الواجبات الليلة في غرفة الحركات، وفي خفارات السرية.

وحين عدت من إجازتي، وجدت أن الجندي المشار إليه قد صدر أمر نقله إلى شعبة الأطراف العسكرية الحزبية الثامنة (المسؤولة حزبياً عن الفرقة الثامنة ومقرها في الجباسي)، وهذا يعني أن الجندي المذكور وبأمر سلطة الحزب معفو من ارتداء حذاء الخدمة، ومعفو من التدريب الصباحي مهما كان مستوى القيادة الذي ينص على هذه الأوامر. جنود الحزب يتخطون حتى سلطة صدام حسين شخصياً في الخفاء، وهذا كان من أسباب الانهيارات العسكرية في كل مكان، فهم حاضرون لإعدام جنود الوطن حين يشتد أوار الحرب، لكنهم غير حاضرين للتصرف كمقاتلين حين يراد منهم ذلك. 

ملهم الملائكة/ فصل من كتاب حين مشينا للحرب

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

يصف الكاتب محمد حسين صبيح كبة برنامجاً روسياً افتراضياً عن لقاءات مع الناس ومع مهندسي نفط روس حول برج للنفط مائل الطباع بناه العراقيون، ويمضي ليصف أشياء أخرى غير ذات صلة بالنفط وابراجه. الحكاية بدأ الأمر بشكل لطيف وبدم خفيف. كان الأمر على شكل كاريكاتير في كتاب عن...

قراءة المزيد
كتابات ومفارقات

كتابات ومفارقات

يرى محمد حسين صبيح كبة أن فكرة التحول مما بين بشري وحيواني ونباتي وجمادي هي فكرة رهيبة راودت بعض العلماء مثل ذلك مثل محاولات العرب والمسلمين أمر محاولاتهم في الكيمياء وفي غير الكيمياء مثلا أمر إكسير الحياة ومثلا أمر تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. الفكرة ممكنة...

قراءة المزيد
من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

كتابات ساخرة من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم. يروي محمد حسين صبيح كبة طرفة تفيد أنّ خطيباً في أحد المساجد هبط من المنبر بعد خطبته وهو يرتجف من الخوف بعد أن أحاط المصلون به من كل جانب، ثم قالوا له بكل وضوح: قولك وخطبتك أن موقعة بدر كانت بالدبابات والقنابل...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *