تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

الذي مات والذي عاش في لغتنا

سبتمبر 9, 2020 | 0 تعليقات

دون أن يشعر الناس، تتغير لغتهم، فهي كائن ينمو كما تنمو أجسادهم وأجساد سائر الكائنات وأرواحها. هناك كلمات ترحل فننساها، لتولد كلمات جديدة تقتحم خصوصية اللغة وتصبح جزءاً من عالمنا. من يتذكر كلمات، قُطر، أفندي، رفاق وعشرات الكلمات التي ذبلت واختفت؟

لا يلتفت الناس غالباً الى تغيرات الوعي التي قادت الى هجرة الكلمات، وتبدد الأنغام، وسكوت القوافي. إننا نتحدث عن عقول تغيرت على مدى عقود طويلة بلا هوادة.

شاعت كلمة “ولف” بكثرة بعد أن غنت هيفاء حسين “رسالة للولف مني لوديها، قطعة من العتب والله لسويها”، وسمعنا أنّ الزعيم القتيل قد أحبها، واُشيع أنّه عشق مطربة الملاهي اللبنانية جاكلين، وأشاع أعداؤه أنّ له علاقة بالأختين “نزهت وهيام يونس”، لكنه مات عازبًا بلا ولد ولا ملك تليد على “يطغه” العسكري بمكتبه بوزارة الدفاع، ومعه رحلت تلك الاوصاف والأنغام والأشعار

لا هوادة بعد اليوم

“لا هوادة بعد اليوم „، كانت بدايتي مع الوعي، سمعتها في برنامج من إذاعة القوات المسلحة في بغداد عام 1963، وكان المقصود منها إهدار دم الشيوعيين. بعدها صارت عموداً في صحفية الثورة بنسختها العراقية قُصد منه التلويح بالقبضة الحديدية الدموية للسلطة، لم نعد نسمع اليوم هذا التعبير.

” الأمبريالية “، شاعت اللفظة بعد أن بسط اليسار نفوذه في مناطق عدة من العالم، واستخدمتها الأحزاب الشيوعية بكثرة في خمسينات وستينات القرن الماضي، وقلدتها الأحزاب القومية العربية في سبعينات القرن نفسه. أغرب شعار قرأته يحمل تلك الكلمة:

البيئة حين تتغير تتبدل معها الكلمات واللغة

” عمال ومنتسبو معمل نسيج ديالى، يحذرون الأمبريالية العالمية من مغبة التدخل في شؤون العالم الثالث”.

كانت تلك لافتة معلقة فوق مبنى صغير يراها كل من يعبر جسر بعقوبة القديم. منتسبو المعمل المذكور وأغلبهم أميّون كان عددهم 19 عاملاً وموظفاً حسب معلومة وصلتني من محاسب المصنع المذكور.

رحلت الشيوعية والبعث والناصرية والنهروية والماوية والجيفارية، وبقيت “الإمبريالية” سمة العالم المتحضر الذي يحاول أن يُنقذ العالم النامي من الآفة ” الإسلاموية” ومن طيور الظلام وهي تأخذه الى كهوف تورا بورا.  

شاعت كلمة “نضال ” منذ بدء خمسينات القرن المنصرم حتى باتت إسما لآلاف الفتيات، وأمسى أشهر إرهابي مطارد دولياً يلقب ب ” أبو نضال”، ومأواه العراق، وقتله نظام البعث بعد أن إنتهت مهمته. ربما أرّخ مقتله موت كلمة نضال!

مع نضال شاعت كلمة “كفاح ” وصارت اسماً للأولاد وللبنات، وكان أبو كفاح أحد رموز ” المقاومة الفلسطينية”، ولا أدري ما حل به، ولكني أعرف أنّ “المقاومة الفللسطينية ” تحولت الى السلطة الفلسطينية في رام الله، والى الإخوان المسلمين المنشقين عنها في غزة.

تبدّل الزمان وحلّت كلمة أخرى بديلا عن المعنيين هي “جهاد” واقترنت بها صور كل القبائح والفضائع. ولم يعد أحد يجرؤ أن يسمي إبنه باسم “جهاد” خشية ان يلتصق ذلك بالقبائح الشهيرة.

ثم شاعت كلمة “تأميم”، منذ بداية الخمسينات، وتأميم قناة السويس، وقانون رقم 80 في العراق، وصار الناس يسمون بناتهم وأولادهم بهذا الإسم. وتخلصت دولة البعث من مشكلة كركوك (التي أصلها إسم المدنية)، بتسميتها تأميم. وعرفنا “أبا تأميم”، الذي صار اسمه فيما بعد “جزار السليمانية”. ثم ماتت كلمة تأميم بعد أن طبّعت مصر علاقتها بإسرائيل، لتصير سيناء وشرم الشيخ من أكبر مصادر دخلها القومي.

الزلزال السياسي في العراق عام 2003 غير جزءاً من اللغة

عصر الجنائن الهجرية 

وغنت سيتا هاكوبيان البصرية الأرمنية “أجمع أوراق الشوك”، وغنى عبد الحليم: الحلوة، وغنت وردة اشتروني، وغنت فيروز للمطر والشتوية والخريف ولكل صيف شرق أوسطي، فيروز المارونية كانت تعبر كل انتماء، وصارت أسماء (حليم، وردة، فيروز، شادية، سندريلا “سعاد حسني”، شمس وميرفت) على كل لسان وفي كل بيت. لكن شمس البارودي – الصقيلة العارية في كأس ماء تتكسر فيه الشمس غنجاً – قررت فجأة أن تتحجب (لسبب غامض لم يُعلن حتى الآن)، وكذلك فعل زوجها اللعوب حسن يوسف الذي تمشيخ وأطلق لحيته وكوى جبهته، وصارا رمزين للأخوان المسلمين، وبعدها انطفأت سماء الفن وحلت محلها جنائن القرن السابع ميلادي، فصرنا نسمع ب: أسماء وزينب وعائشة ومصعب وعبّاد وسجاد وزين العابدين وطلحة وزبير وطريق ذات الشوكة، وعاد التاريخ يسيل دما على وجه حضارتنا الصحراوية.

ثم شاعت الأوصاف الكبرى: يوم العبور، معركة نهر الليطاني. ملحمة تل الزعتر. بيروت الغربية والشرقية. قادسية صدام. أم المعارك. أم الحواسم. عاصفة الصحراء. ثعلب الصحراء. يوم القرار. حلب وإدلب والفلوجة والأنبار ومعها تسميات الأصل والفرع، داعش، الرقة، علويون وما بينها من تفاصيل.

ولسبب مجهول شاعت أسماء الإناث الغريبة العجيبة، صابرين، هندرين، ملايين، وأسماء الذكور المريبة، مهند، عدي، لؤي، ثم حلت محلها أوصاف تخرج من بيوت “العوائل المتعففة”. ولا أدري كيف ظهرت وكيف غابت تلك الأسماء.

اليوم تشيع أوصاف وكلمات: على النت، فيسبوك، شير، أس أم أس، لايك، ويبسايت، لاب توب، موبايل، سامسونغ، مسج، غوغل، يوتيوب، آبل، آي باد، سكايب، دفتر، ورقة، داعش، النصرة، الوفاق، المؤتمر، الدعوة، الدعاة، مُبلّغ، دفاتر، قطر، شيخ، سيّد، فتوى، مسيار، متعة، صيغة، مسفار، مناكحة، لحية، المملكة، الإمارة، مسافحة، إرهاب، صفويين، عروبيين، إسلاميين، نقاب، مبرقعات، جبة، ربطة، حجاب، عمامة، سياف، ذبّاح، أمير، وعشرات الكلمات والأوصاف الأخرى، وستكون جزءاً من لغتنا سواء رضي قحطان وعدنان ومستر أكس بها أم لم يرضوا.

 ملهم الملائكة

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

ماثلاً أمام محكمة الثورة المرعبة

ماثلاً أمام محكمة الثورة المرعبة

ها أنا أنتظر مع المنتظرين في باحة محكمة الثورة سيئة الصيت، والهلع والأسئلة تجتاحني حول كيفية وصول قضية عسكرية بسيطة متكررة ويومية إلى هذا المستوى المرعب من القضاء. يخفف من هلعي وجود ضابطين آخرين من وحدتي معي في هذا الموقف. في قاعة انتظار محكمة الثورة في أبو غريب، نحو...

قراءة المزيد
جنيفر إي سميث مبدعة من عصر العولمة

جنيفر إي سميث مبدعة من عصر العولمة

فاجأني اسمها وأنا اتصفح روايتها This Is What Happy Looks Like. المفاجأة ابطلت بلا هوادة فرضيتي بأنّى بتّ ملمّاً بنتاج كل الكتاب المعروفين! اسمها يدفعني لمراجعة مقلقة لا تنتهي لمعلوماتي. الرواية نشرت عام 2013، يعني عشر سنوات من يومنا هذا، فهي لم تعد توصف بالجديدة، لكنّ...

قراءة المزيد
الحداد والمعدنجي في خندق واحد

الحداد والمعدنجي في خندق واحد

كل المهن المرتبطة بالمعادن لها تسميات قديمة قدم التحضر البشري، وفي اللغة الإنكليزية تتصل كل تلكم الحرف بالجذر المعروف Smith وأفضل ترجمة لهذا الجذر هي "معدنجي"، ولكنّ هذه الكلمة بحد ذاتها ليست عربية، فكيف نصل إلى المعنى الهام لجذر تعتمد عليه كثير من أوصاف المهن؟...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.