تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

الحلم والقصة والجسد في سورة يوسف

مارس 7, 2022 | 0 تعليقات

تشرع سورة يوسف بالآية ” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”، وهي تبدو آية بعيدة عن صلب الحكاية التي تسود السرد العام في السورة، وربما يراد بها طرد أيّ وهم قد ينتاب البعض حول أنّ هذا النص مترجم عن نص عبراني أو آرامي، لأنّ القصص المذكورة لاحقاً متواترة في التوراة والانجيل.

بعد الإعلان عن عروبة النص وخلوه من النقل والترجمة، يُستهل السرد بالآية: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ”، التي تنبئ القارئ مقدماً انّ السورة برمتها من فن القص. ويصدق هذا على عدة قصص فيها، وتدور غالباً حول شخصية يوسف. وسواء كانت المعاني مرسلة هنا أم رمزية فإنّ القصص تحاول أن تحافظ على عنصر الحكاية فيها، ولعل هذا من باب تشويق القارئ.

نهاية السورة بالآية 111 تعود لتؤكد على عنصر القصة في هذا السياق، نافية أنها مجرد قصة في سياق تاريخي معين، أو حكاية لتزجية الوقت “مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى”، بل توضح أنّ القصد من هذه القصة هو جعل القارئ يفكر بجدية في دلالاتها العميقة، من خلال الخوض في تفاصيل وجزئيات الواقعة، والمعاني التي تسقطها تلكم الدلالات ” لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”.

“لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”

ولا يلبث النص أن ينتقل من القصة إلى الحلم، وهو نوع آخر من القص ولكن في عالم اللاوعي، فيوسف يعرض لأبيه رؤياه في الحلم، ويعيده أبوه إلى سياق النص المستحكم “يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا”.

ويواصل عنصر القص الحضور في مسار النص، حيث يجيب الأب ” كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ”، فالدرس المطلوب هو “تفسير القصة” وليس القصة لذاتها “يعلمك من تأويل الأحاديث”.

الآية 7 تعيد التأكيد على القارئ بأنّ ما جرى ليوسف وأخوته فيه دلالات هامة ” لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ”.

مساحة الحلم في قصة يوسف

ويذهب الدكتور محمود البستاني في دراسته الموسومة (قصة يوسف – الادوار والاحداث- دراسة فنية تحليلية) والمنشورة في 16/11/2019   على موقع العتبة الحسينية المقدسة إلى أن الحلم هو مسار الروي في سورة يوسف والحديث هنا عن أربعة أحلام، ذكرت في القصة.

الأول ـ حلم يوسف في رؤيته أحد عشر كوكباً.

الثاني ـ حلم أحد صاحبيه في السجن في رؤيته يعصر خمراً.

الثالث – حلم أحد صاحبيه في رؤيته حاملاً فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه.

الرابع ـ حلم المَلِك بالبقرات السمان والعجاف وبالسنابل الخضر واليابسات.

ويقف الباحث أولاً مع ابطال القصة، بادئاً بأبطالها الثانويين الذين ما رسوا مهماتٍ محددة ثم ينتهي الى الوقوف عند بطلها الرئيسي يوسف النبي. ويخلص إلى أن هؤلاء الشخوص الثانويين هم:

1 ـ يعقوب.

2 ـ إخوة يوسف.

3 ـ الأخ الاصغر.

4 ـ العزيز.

5 ـ امرأة العزيز.

6 ـ نسوة المدينة.

7 ـ صاحبي السجن.

لعب هؤلاء أدواراً بالغة الأهمية، بحيث اضطلع كلٌ منهم بإبراز هدف محدد: يلقي ـ من جانب ـ الضوء على شخصية البطل يوسف، ويبلور لنا ـ من جانبٍ آخر ـ أفكاراً معينة نفيد منها في تعديل السلوك.

وينتقل السرد الى واقعة العلاقة بين من تبنى يوسف، وهو عزيز مصر وبين الطفل:

“وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ”.

الربيب المراهق في مخدع الملكة!

موسوعة ويكبيديا الشعبية تشير إلى أن بوتيفار هو من اشترى يوسف، وأدخله إلى بلاطه وهو طفل ولم يعامله معاملة العبيد بل أوصى زوجته زليخة بالإحسان إليه لما وجد فيه من الفطنة والذكاء والرأي.

هنا شبّ وترعرع يوسف في بلاط العزيز بوتيفار مدة أحد عشر عاماً وصار شاباً حسن الوجه حلو الكلام، شجاعاً قوياً، وذا علم ومعرفة.

هذا السرد يفترض في طبيعته أنّ زليخة قامت مقام أم يوسف بالتبني، وقد أكرمته وربته، والسؤال هو: لماذا، تقدم هذه السيدة الفاضلة التي رعت يوسف في صباه وطفولته كأبنها، لماذا تسعى لغوايته وتريد أن تضاجعه؟ هل هي امرأة محرومة من الجنس لدرجة التفكير في أن تضاجع ربيبها؟ ألم تنتبه إلى فارق العمر بينهما؟ لمَ لمْ ترع حرمة زوجها عزيز مصر؟ لم لمْ تحفظ اسمه؟

هذه الأسئلة تبقى بلا إجابات، لأنّ القرآن لا يتطرق إليها، بل يتعامل مع زليخة على اعتبارها امرأة مغتلمة تستجيب لرغبتها، وتحاصر يوسف في بيتها وتريد غوايته.

“وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ”

يوسف لم يقل لها مثلاً: “يا سيدتي أنتِ بمنزلة أمي التي ربتني، وأنتِ زوجة من أكرمني ورباني، فكيف تسول لك نفسك أن تشتهيني؟” بل قال لها:

” قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ”

ومع ذلك، فإنّ زليخة تستمر في عرض مفاتنها على الشاب الجميل يوسف بغية غوايته، لإشباع رغبتها به، حتى أنهما تعانقا ولكن:

“وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ”

ما المقصود هنا بالآية ” لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ”. هل تجلى له مَلكُ يردعه عن مقاربة زليخة؟ ما هو البرهان الوارد ذكره في الآية؟

ثم يعلن النص القرآني جهراً ” كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ”، المعنى أنّ الربّ حصّنه بقوة تحميه من السوء والفحشاء التي تعرضها زليخة في هذه اللحظة. والسبب ” إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ”… بمعنى أنّ الرب حصّنه لأنه من عباده المخلصين، فهو إذن لم يتحصن بإرادته، بل حلت به الحصانة الربانية ومنعته عن زوجة العزيز. أين إذن مبدأ التفويض في عاقبة هذا الأمر، يوسف امتنع عن زليخة بإرادة ربانية وليس بإرادته!

“وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”

الوصف يقول هنا أنهما تسابقا لفتح الباب والخروج الى العزيز لأخباره بما جرى. كل له روايته، يوسف كما تقول الآيات قد تحصن بقوة ربه، وزليخة تريد أن تروي نسختها مما جرى، وتعلن للعزيز أن يوسف قد سعى لها راغباً، والدليل انها قد نزعت جزءاً من قميصه دفاعاً عن عرضها، فيما يوسف سيقول إنّ القميص قد تمزق من الخلف، ما يدل على أن لابسه كان مدبراً يروم الفرار، فتلته زليخة فتقطّع قميصه.

الغريب هنا الآية “ألفيا سيدها لدى الباب”، فالعزيز الذي راما لقاءه، كان واقفا على باب الحجرة التي ضمتهما! هل كان يشك في زليخة؟ هل كان يشك في نوايا يوسف الجميل؟ كيف يقف عزيز مصر متلصصاً على باب حجرة تضم امرأته وربيبها؟

“قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ”

سارع يوسف يروي جانبه من الحكاية، معلناً أنّ زليخة سعت إلى غوايته، والعجيب أنّ شاهداً من أهل زليخة سارع يضع فرضية القميص “إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ”…كيف ولماذا يشهد أحد أهلها؟ هل هي محاولة لتبرأتها، أم مسعى لفضحها؟

“فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ”

الفاعل في هذه الآية هو العزيز، هو الذي رأى قميص يوسف، وهذا يعني أنه قد تبنى نظرية القميص التي عرضها أحد أقارب زليخة نفسها. العزيز يقول هنا ” إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ”، بمعنى أنه يعترف مقدما أن كيد النساء يعلو على كل كيد آخر! ثم تخاطب الآية التالية يوسف أولاً، ثم زليخة في المقام الثاني، العزيز الذي ضبط زوجته متلبسة بفعل فاضح في مخدعها مع ربيبيها الجميل يوسف، يوجه في لحظة الحدث خطابه ليوسف أولاً:

“يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ”

العزيز يقول لربيبه، يا يوسف ابتعد عن هذا، إنه تنبيه أخلاقي تربوي ليس أكثر، ومثله يأتي خطاب العزيز لزليخة: “وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ”، فهو يأمرها أن تسأل ربها الغفران عن خطيئتها. العزيز في هذه الواقعة، رجل ديمقراطي ليبرالي، لكن قيمه الليبرالية، وضعت لسبب ما اهتمام واحترام العزيز باتجاه يوسف في المقام الأول، وليس باتجاه زليخة! هل يستجيب العزيز لقيم البادية في تقديم الرجل على المرأة؟ أم أن قلبه المدني المتحضر بات يميل إلى ربيبه أكثر من ميله إلى شريكة حياته الجميلة زليخة؟

نسوة المدينة يكدن لزوجة العزيز!

“وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ”

في هذه الآية يصدر الحديث عن الراوي، أي منزّل النص السماوي، فيعلن أن خبر الفضيحة في قصر العزيز قد تسرّب إلى نساء المدينة، فبدأن لغطاً وهمساً ونميمة حول القصة، وصرن يعلن بلا مواربة أنها عشقت الفتى (وصف الفتى هنا يدلنا على أن يوسف كان بين الخامسة عشرة حتى السابعة عشر من عمره، فهو فتى غر)، ثم يسارعن إلى القول إنّ ما قامت بها “ضلال مبين”، فهو تكفير نهائي لزوجة العزيز يصدر عن نساء المدينة. وهذا يعني أنّهن لم يخفن من سطوة زليخة، وأعلنّ بصراحة أنّها ضالة!

“فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ”

منزّل النص يعود إلى خطاب الراوي مؤكداً أنّ نساء المدينة يمكرن وقد سمعت زليخة بمكرهن، وأنّ هذا اللغط يخيفها، فقررت أن تفنده بطريقتها. هنا يتخذ السرد منحى آخر، فهي قد اعدت مجلساً أنيقا مريحاً للنسوة في قصرها، ثم جعلت في يد كل منهن سكيناً ثم طلبت من يوسف أن يدخل عارضاً حسنه ورجولته عليهن، فدخل، وذهلنّ بحسنه حتى قطّعن أيديهن وسالت دماؤهن لشدة انبهارهن بسحره، ثم سارعن يعلنّ إنّ يوسف بحسنه هذا ليس إنسانا بل ملكٌ سماوي.

هذا النص يثير أسئلة:

*لماذا وكيف أباح العزيز لامرأته أنّ تحبط كيد نسوة المدينة، وهو الذي بات مقتنعا أنها هي التي اغوت يوسف في حجرتها؟

*كيف سُمح ليوسف أن يدخل مخدع الملكة مرة أخرى بعد الفضيحة المدوية؟

*كيف يدخل يوسف الجميل على جموع النسوة دون تحفظ؟

*لماذا وزعت زليخة سكاكين على النسوة؟

قصة السكاكين وسر الأيدي المقطّعة!

الشيخ بسام جرار شرح هذا الأمر بإسهاب على موقع “ملتقى أهل التفسير” السني واسع الانتشار، ولكنه رغم استرساله في الشروح لم يقدم دليلاً مقنعاً على ما ذهب اليه، انقل فيما يلي بعض ما قاله:

امرأة العزيز أعطت كل واحدة من النساء سكِّيناً، وهذا يعني أنّ النساء يعرفن الهدف من توزيع السكاكين عليهنّ كلهنّ. أمّا القول بأنها قدّمت لهن فاكهة فهو غير مقبول من وجوه:

‌أ-   لم تُذكر الفاكهة في الآيات الكريمة، وليس المقام هنا مقام تكريم للنساء اللاتي أسأن لسمعة زوجة العزيز واغتبنها.

‌ب-  لو كان المقصود الفاكهة والإكرام لذكر القرآن الكريم ذلك بإشارة أوضح. وذِكْرُ السكّين، التي هي أداةٌ تُقشّر بها الفاكهة وتستخدم في أغراض متنوّعة، ورد في سياق الحديث عن تجريح الأيدي ولم يرد في سياق الحديث عن كَرَم الضيافة، فَلِمَ التّزيُّد؟!

‌ج-  العادة أن يتم وضع الفاكهة ومستلزماتها أمام الضيف، وليس هناك من عادة ولا مسوّغ لتوزيع السكاكين، وليس هناك من داع لتوزيع السكاكين على كل واحدة، بل يترك الأمر في العادة لتقدير الضيف وحاجته.

‌د-   كانت النتيجة أن جَرّحت النساء أيديهنّ، وهذا يدلّ على أنّ توزيع السكاكين كان من أجل تحقيق مثل هذه النتيجة، وليس من أجل تقشير الفاكهة، فليس المقام مقام إكرام.

أمّا القول بأنّ تجريح الأيدي كان نتيجة الدهشة والذهول، وذلك عندما رأت النساء يوسف، عليه السلام، فهو مردود من وجوه:

1.  لو كانت النساء منشغلات بأكل الفاكهة لكان ذهولهنّ واندهاشهنّ لجمال يوسف، عليه السلام، صارفاً لهنّ عن الاستمرار في الأكل والتقشير، فهذه طبيعة الإنسان؛ أنّه إذا انشدّ إلى شيء ذَهَل عن الأشياء الأخرى.

 2.  لو كانت النساء تأكل على إيقاعٍ موسيقيّ يقوده (مايسترو) لأمكن تصوّر أن يتم جرح أيدي النساء كلهنّ في وقت واحد، أمّا أن تُجرح كل يد بأكثر من جرحٍ في آنٍ واحد فغير مُتصوّر.

3.  يفترض عند أوّل جرح أن يتم التنبّه، أمّا أن يكون هناك أكثر من جرح ثمّ لا يتم التنبّه، فهذا أمر غير متصوّر، بغض النظر عن درجة الاندهاش. ومعلوم أنّ الاندهاش لا يكون عند النساء بدرجة واحدة. أمّا الدليل على حصول أكثر من جرح في كل يدٍ فقوله تعالى:” وقطّعن”، فهذه صيغة مبالغة وتكثير للفعل.

4. وجود السكّين مسبقاً دليل على أنّ التجريح مقصود ومتعمّد، وليس نتيجة ذهول واندهاش.

انتهى ما أورده الشيخ جرار.

زليخة تبرر لنسوة المدينة شهوتها

ويعود الراوي لسرد القصة متنقلاً بلا تعيين بين أطرافها، وهو أسلوب السرد الذي عرف باللغة العربية في زمن نزول الوحي، حيث القرآن هو أول كتاب مجموع مطبوع متسلسل ومسترسل في اللغة العربية. ولا يوجد ما يدعم قول من يدّعون أنّ كتبا أخرى سبقته.

“قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ”

زليخة تخاطب النسوة وكأنها تقول لهن، لماذا لمتنني اذن؟ أنا راودته عن نفسي لأنّ سحره وجماله لا يقاوم، لكنه رفض أن يستجيب لغوايتها، واستعصم بعفته الربانية. ثم تنتقل زليخة إلى صيغة التهديد والوعيد، دون وجود توطئة لذلك في النص، فكأنها توجه الخطاب التهديدي هنا إلى زوجها العزيز، أو كأنها تقول للنسوة المجتمعات إنّها ستجعل منه عبرة لأنه لم يستجب لرغبتها: “وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ”، هل بوسع زليخة (راعيل بلغة الهكسوس) أن تسجن ربيب الملك؟ أم أنها قررت أن تشكوه إلى الملك فيوعز بسجنه؟ ترتيب الآيات ينتقل بعد هذا الحديث إلى يوسف وهو يناجي ربه:

“قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ”

فجأة يُسرّ يوسف ربه بأنه سوف يستجيب الى غواية النسوة؟؟ الخطاب كان يجري عن غواية زليخة، فكيف تحول إلى غواية نسوة المدينة؟ يوسف يقول إنهن يكدن له ليغوينه، وإن لم يُفسد الرب كيدهنّ، فإنّه سيصبو إليهن ويجاريهن في الغواية فينضم إلى قطيع الجاهلين؟

“فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”

الرب استجاب لتهديد يوسف، وقرر أن يستمر في حمايته من غواية النساء، فصرف عنه كيدهن. وللقارئ النبيه أن يتساءل، هل الكيد مقصود به هنا السحر موجهاً ليوسف، فقام ربه بتغيير اتجاهه ” فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ” وجعل يوسف بمأمن منه؟

“ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ”

هذه الآية تمثل انتقاله مطلقة في السرد، تخرج عن كل سياق الآيات التي سبقتها والتي تتلوها. ولنبدأ بالأسئلة الصعبة

*من هم الذين بدا لهم؟ سياق الكلام يدل على أنهما الملك وزوجته، ولكن لماذا لم يقل “ثم بدا لهما”؟ بالتثنية، باعتبارهما فاعلاً مثنى؟ التفاسير هنا تدخل القارئ في تيه لا سبيل للخروج منه.

*ما المقصود ب ” مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ”؟ الآيات في هذا الموضع تعني الأدلة، وكما رأينا فقد كان العزيز متيقناً أنّ يوسف بريء وأن الغواية جاءت من زليخة، فعن أيّ أدلة يتحدث النص؟

“لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ”

كيف تغير موقف العزيز لدرجة أنه قرر أن يودع يوسف السجن؟ ولماذا يسجنه حتى حين؟ هل يريد العزيز أن يلجم نساء المدينة؟ أم يريد أن يضغط على يوسف ليستجيب لرغبات زليخة؟ هل يريد العزيز في حقيقة الأمر أن يجعل يوسف عشيقاً لزوجته؟ أم أنه تصرف بموجب العرف السائد، وأراد أن يُخرس الهمس الذي يدور في المدينة، فقرر أن يسجن يوسف ليقول الناس إن العزيز سجن يوسف بعدما لمس منه ميلاً للتحرش بزوجته؟

ألا يشي النص في هذه الآيات بأنّ العزيز منقاد لزوجته ورغباتها؟ هل كان شائعاً لدى الهكسوس مثل هذا الأمر؟

فما سرّ تقطيع (تجريح) الأيدي؟!

لنسمع مرة أخرى نظرية الشيخ بسام جرار:

لا نستطيع هنا أن نقدّم التصور الحقيقي للدافع الكامن وراء تجريح الأيدي، ولكن سنحاول أن نقدّم تفسيراً نراه أقرب إلى النص القرآني، وأقرب إلى العقل والواقع.

ترجع قصة يوسف، عليه السلام، إلى زمنٍ مغرق في القِدم، أي ما يقارب (3600) سنة، على أقل تقدير. وهذا يعني احتمال وجود عادات وتقاليد هي اليوم مندثرة، وعلى وجه الخصوص عندما نعلم أنّ الحكّام في عهد يوسف، عليه السلام، هم الملوك الرعاة الهكسوس، الذين هم من ملوك البدو. بل إنّ يوسف وإخوته قد عاشوا في مجتمعات بدويّة، بدليل قوله تعالى، على لسان يوسف، عليه السلام، مخاطباً أهله: “وقد أحسنَ بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو”. وهذا يعني أنّ احتمال وجود العادات الغريبة، المجافية للتحضّر، هي أكبر.

العزيز صاحب أعلى منصب بعد الملك، ومجموعة من النساء تذكر زوجته بسوء، وهُنّ مقتنعات بأنّ هذه الزوجة ضالّة، وضلالها بيّن: “إنا لنراها في ضلال مبين”. تقوم زوجة العزيز صاحبة النفوذ والسلطان باستدعاء النساء الطاعنات بها، وبسلوكها، لتقدّم لهنّ العذر المستدعي للاعتذار. ولا أدلَّ على عذرها ذلك من ردّة فعلهنّ عند رؤية يوسف، عليه السلام.

 النساء يعرفن عادات المجتمع وتقاليده، ويعرفن واجبهنّ تجاه المنصب الرفيع؛ فكلامهنّ في غيبتها جرحٌ معنوي لمقام رفيع، وهذه جُرأة لا بد من الاعتذار عنها بما يليق؛ فالجرح المعنوي لهذا المقام لا يغفره إلا جرح حسيّ. والاعتذار يكون في العادة أشدّ عندما تظهر البراءة. من هنا لم تكتف النساء بجرح واحد، بل كررن ذلك، لمزيد من الاعتراف والأسف. وعندما رأت زوجة العزيز ذلك سارعت إلى القول: “فذلِكُنّ الذي لُمتُنني فيه”.

خلاصة ما يقوله الشيخ بسام جرار، أنّ النسوة عوقبن بتجريح أيديهن لأنهن تجرأن على انتقاد زوجة العزيز. ويمضي الشيخ جرار بالتوضيح:

  يقول يوسف، عليه السلام، لرسول الملك: “ارجع إلى ربك فاسأله ما بالُ النسوةِ اللاتي قطّعن أيديهن؟”، فهذا يدل على أنّ يوسف، عليه السلام، يريد أن يرسل إلى الملك برسالة مختصرة تجعله يدرك حقيقة ما حصل قبل سنوات؛ فتجريح الأيدي لا بدّ أن تكون له دلالة يفهمها الملك، لذا نجد أنّ الملك، وبعد وصول الرسالة، يقول للنساء: “ما خطبكنّ إذ راودتن يوسف عن نفسه”، وهذا يشير إلى أنّ تقطيع الأيدي له دلالة عُرفيّة شائعة في ذلك الزمان. ولم يكن مجرد صدفة عجيبة.

ما حقيقة الحديث: “لا تعلّموا نساءكم سورة يوسف”؟

من أغرب ما قيل بحق سورة يوسف، هو حظر قراءتها على النساء، وسأنقل هنا سؤالاً وجه الى السيد جعفر علم الهدى وهو من العلماء المحققين والمدققين والمدرسين في هذا العصر، وحضر درسه عدد من الفضلاء.

السلام عليكم:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

شيخنا الجليل، ما رأي سماحتكم في رواية مفادها: “لا تعلّموا بناتكم سورة يوسف وعلموهنّ سورة النور ” هل هذه الرواية صحيحة؟ وعن أيّ إمام؟ وإلى أيّ المصادر نرجع؟ ولماذا لا نعلّم البنات سورة يوسف، إنّ كانت الرواية صحيحة؟ نسأل الله لكم دوام الموفّقية، خادمكم فاضل المدحوب.

الجواب: من سماحة السيّد جعفر علم الهدی

الرواية مذكورة في الكتب المعتبرة مثل الكافي، لكنّها مرسلة، فقد رواها الكليني بسنده عن يعقوب بن سالم رفعه، قال: قال: أمير المؤمنين عليه السّلام: “لا تعلّموا نساءكم سورة يوسف ، ولا تقرؤهنّ أيّاها ؛ فإنّ فيها الفتن ، وعلموهنّ سورة النور ؛ فإنّ فيها المواعظ “.

وفي رواية معتبرة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): “لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلّموهنّ الكتابة، وعلّموهنّ المغزل وسورة النور “.

وفي رواية عن الصادق (عليه السّلام) قال: “حصّنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النور، وحصّنوا بها نساءكم “.

وهنا نكتتان (نقطتان):

الأولى: ليس المراد من الرواية على تقدير صحّتها أنّ المرأة لا تقرأ سورة يوسف؛ فإنّ قراءة القرآن مستحبّة، وقد ورد التأكيد على ذلك بلا فرق بين سورة وأُخرى، بل المراد ترك التفسير، وبيان ما صدر من زليخا وصواحبها من الانحراف الأخلاقي، والفساد العملي، وما ارتكبنه في حقّ يوسف الصدّيق من الإغواء.

الثانية: الإسلام يؤّكد على صيانة المرأة وحفظها من جميع عوامل الانحراف الأخلاقي، ويترّفع بها عن أسباب تهييج الشهوة، وما يخالف عفاف المرأة وكرامتها، ولذا أمر الإمام (عليه السّلام) بتعليم سورة النور حيث إنّ فيها آيات الحجاب والستر، والمواعظ التي تحفظ المرأة من الوقوع في الفساد، ومنعت المرأة من الأمور التي توقعها في الانحراف، وهيجان الشهوة، ومنها تفسير سورة يوسف، وذكر الحوادث الواقعة في هذه القصّة.

انتهى جواب السيّد جعفر علم الهدی.

سؤالنا التاريخي هنا: هل تثير قراءة سورة يوسف غرائز النساء الجنسية، فقام بعض الكهنة بتحريم قراءتها؟ هل سورة يوسف القرآنية تقدم نوعاً من الأدب الاباحي؟

ملهم الملائكة / فصل من كتاب شيء عن الأديان

صورة الغلاف من موقع unsplash

Vakil Mosque, Shiraz, IranPublished on March 31, 2019

NIKON CORPORATION,

NIKON D7200CameraNIKON CORPORATION, NIKON D7200Lens32.0mm f/2.80.3sISO 100Dimensions5926 x 3951

Free to use under the Unsplash License

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

يصف الكاتب محمد حسين صبيح كبة برنامجاً روسياً افتراضياً عن لقاءات مع الناس ومع مهندسي نفط روس حول برج للنفط مائل الطباع بناه العراقيون، ويمضي ليصف أشياء أخرى غير ذات صلة بالنفط وابراجه. الحكاية بدأ الأمر بشكل لطيف وبدم خفيف. كان الأمر على شكل كاريكاتير في كتاب عن...

قراءة المزيد
كتابات ومفارقات

كتابات ومفارقات

يرى محمد حسين صبيح كبة أن فكرة التحول مما بين بشري وحيواني ونباتي وجمادي هي فكرة رهيبة راودت بعض العلماء مثل ذلك مثل محاولات العرب والمسلمين أمر محاولاتهم في الكيمياء وفي غير الكيمياء مثلا أمر إكسير الحياة ومثلا أمر تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. الفكرة ممكنة...

قراءة المزيد
من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

كتابات ساخرة من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم. يروي محمد حسين صبيح كبة طرفة تفيد أنّ خطيباً في أحد المساجد هبط من المنبر بعد خطبته وهو يرتجف من الخوف بعد أن أحاط المصلون به من كل جانب، ثم قالوا له بكل وضوح: قولك وخطبتك أن موقعة بدر كانت بالدبابات والقنابل...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *