تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

الحداد والمعدنجي في خندق واحد

فبراير 26, 2023 | 0 تعليقات

كل المهن المرتبطة بالمعادن لها تسميات قديمة قدم التحضر البشري، وفي اللغة الإنكليزية تتصل كل تلكم الحرف بالجذر المعروف Smith وأفضل ترجمة لهذا الجذر هي “معدنجي”، ولكنّ هذه الكلمة بحد ذاتها ليست عربية، فكيف نصل إلى المعنى الهام لجذر تعتمد عليه كثير من أوصاف المهن؟  ومن مهنة المعدنجي ظهرت صنعة الخرّاط “التورنجي” منتصف القرن التاسع عشر مع اختراع ماكينة الخراطة والفريزة Turner، وتقوم وظيفتها على جلخ المعادن وصقلها بالدواليب الفولاذية المدببة وتحويلها إلى أجزاء مطلوبة. وماكينة الخراطة التي يتعامل معها التورنجيه هي مصنع صغير متكامل يعمل بالطاقة الكهربائية. ثم تذهب التفرعات باللغة الإنكليزية إلى مهن أخرى تتصل كلها بإذابة وتشكيل المعادن، فتتخذ الأسماء التالية:

الحدّاد Blacksmith

يتعامل الحدّاد مع الحديد المصهور، ومن الحديد اشتق الوصف بالعربية بمعنى من يحدّ الحديد أي يضع له حدودا تصنع منه أشكالاً. معدات الحداد الرئيسية عبر العصور هي المطرقة، السندان (مسند أو طاولة معدنية ثقيلة تتحمل الطرق والحديد المنصهر)، الملقط، الكير (منفاخ النار اليدوي، الذي يتقد بواسطته تألق الفحم)، مناشير الحديد بقياساتها المتنوعة، علاوة على معدات لحيم الحديد وهي متنوعة، إضافة إلى بضع معدات أخرى تكمّل العمل. أغلب هذه المعدات تحولت اليوم من يدوية إلى كهربائية وهيدروليكية، والحقت بها “الكوسرة”، وهي عجلة مسننة خشنة الحواف تقوم بتنعيم الحديد وصقل حافاته الناتئة. صناعة الأبواب والشبابيك وكتائب الشبابيك، تعتمد على الحداد بشكل كليّ، كما أنّ هناك حداد السقوف وهو من يقوم بتقطيع قضبان السقوف الكونكريتية وربطها في شبكات لتكون قوالب الصب الخرساني اللازمة للسقوف.

أما صناعة السقوف القديمة التي تعتمد على الشيلمان، فكان لها خبراء مختصون بتقطيع الشيلمان وصفه لإتمام بناء الآجر في داخله، وهي مهنة تنقرض تدريجياً في أغلب بلدان العالم. وهناك حداد السيارات، الذي يتعامل مع أجزاء تعليق السيارة (سبرنكات، ورق، دبلات، فنرات). وبشكل عام يتعامل الحدّاد مع الحديد، ومع الصلب “ستيل” ومع معادن أخرى يستخدمها لصنع السبائك، وقبل عصر السيارات، كان الحدادون هم من يصنع الحدوات لحوافر الخيل.

صانع النصال Bladesmith

وهو من يصنع نصال السيوف والسكاكين والخناجر (السكاكين ذات النصال مزدوجة الشفار)، ثم تطور عمل أغلبهم، فصاروا ينتجون السكاكين والسيوف القصيرة (المدي أو القامات) وأغمادها بأنواعها المختلفة. معدات الصانع تشمل المطرقة والسندان وسائر مفردات عدة الحداد لأنّ جوهر عملهما واحد، مع فارق أنّ صانع النصال، يتقن أيضا صناعات حفر الخشب والعاج وصهر البلاستك التي يصنع من خلالها قبضات المدي والسكاكين، علاوة على اتقانه لصناعة الجلود كي ينتج اغماد السكاكين والمدي. ومنذ مطلع القرن العشرين، شهدت صناعة النصال تغيراً جوهريا في التقنيات بدخول أساليب الصهر الحديثة وبتطور إمكانات مكائن الخراطة الكهربائية، وتزامن هذا التطور مع تناقص الاقبال على انتاج السيوف لانتفاء الحاجة اليها عسكرياً، ومع تنامي صناعة السكاكين السويسرية التي تطوى، وسكاكين النصال الاوتوماتيكية.

حداد في ورشته بكرمنشاه

السكّاك Coinsmith

وهي مهنة متصلة بالحدادة، حيث كان بعض الحدادين يكلفون بسكّ النقود في العصور القديمة لحساب الامراء والاقطاعيين والمشايخ. وقد انقرضت هذه المهنة تماماً بظهور الدولة الحديثة، واختصاصها المطلق بإصدار النقود.

سك النقود كان يجري بصهر المعدن (الذهب، الفضة، النحاس) وسكبه في قوالب ذات اشكال محددة ثم يوضع خاتم على قطعة النقود ويطرق عليه بشدة فيترك عليها أثره، وكثيراً ما تشاهد تشققات في أطراف قطعة النقود ناتجة عن هذا الطرق الشديد، ومنذ القرن الثامن عشر استخدمت مكابس (بريسات) الضغط وتطورت إلى مكابس البخار، وتعتمد حالياً مكابس كهربائية وهيدروليكية.

مراحل سك النقود تبدأ بصهر المعدن أو السبيكة، يتبعها صب المنصهرات في قوالب على شكل قضبان تخضع إلى عملية سحب على شكل صفائح متجانسة السمك والنوعية. تمرر هذه الصفائح على آلة تقطعها أقراصاً مستديرة، تدعى قرص السك، ثم تفحص تلك الأقراص للتحقق من دقة وزنها فإن كانت أثقل من المطلوب يجري جلخها إلى الوزن المطلوب أما إذا كانت أخف من المطلوب فتصهر من جديد، بعد ذلك يجري سحب حواف قرص السك المقبول نحو الخارج حتى تحمي القطعة النقدية من التآكل ثم تنظف وتضغط في قوالب تحمل النقوش المرغوبة، وتحزز حواف بعض أنواع النقود لتسهيل التعامل معها. ويتم اليوم تنضيد كل هذه المراحل الكترونيا كمبيوتريا.  ومنذ أوائل القرن السابع عشر شاعت العملة الورقية في التداول، ومع ذلك، بقيت سكك النقد المعدنية متداولة اليوم.

النحّاس والصفّار Coppersmith or Brownsmith

النحّاس هو معدنجي يتعامل مع النحاس و(الصفر وهو سبيكة من النحاس والزنك) البارد دون صهره، لأنّه رقيق لين يقبل التشكيل بالطرق البارد دون صهر. منتجات النحاس والصفر واسعة ومتنوعة، وقد انحسرت في عصرنا الحاضر، بسب البوليمرات والبتروكيماويات التي غزت صناعة المعدات المنزلية والأثاث. ويعتبر الطشت النحاسي اليوم عملة نادرة، وأندر منه طشت الصفر الذي بات يعدد من المقتنيات التي تنم عن الثراء! في العراق كان يوجد سوق شهير اسمه “سوق الصفافير” بشارع الرشيد بقلب العاصمة بغداد، لكنه تراجع مع تراجع صنعة الصفارين، واقتصر وجوده على 4 محلات تنتج عينات من الاباريق والصحون وبعض قطع الزينة التي يطلبها السواح.

صائغ الذهب Goldsmith

  صائغ الذهب يتعامل مع معدن نفيس غالي الثمن، وعليه الحذر والدقة في التعامل مع المعدن. الذهب لين رقيق قابل للانحناء، وميزته الكبرى أنّه لا يصدأ، لذا هو يتصدر قائمة المعادن الثمينة. في عصرنا الحاضر تقدمت على الذهب أو اقتربت منه، بعض المعادن ومنها البلوتونيوم والتيتانيوم وتمتاز بالصلابة والرقة وخفة الوزن وعدم الصدأ. صائغ الذهب فنان يتعامل مع النار والمعدن بقياسات مليمترية متناهية الدقة، وتمتاز عدته اليدوية بخفة وزنها وصغر حجمها، فيما اضافت إليه التقنيات المعاصرة كثير من العدد والمهمات التي تسهل عمله. نتاج صائغ الذهب مرتفع الثمن، ولا يتسامح مع أي خطأ في التنفيذ أو التصميم. الأمانة هي واحدة من أهم صفات صائغ الذهب الناجح، وبهذه الصفة ينجح باستقطاب الزبائن. في العصور الوسطى، اختلطت مهنة الصائغ بمهنة السكاك بمهنة الصيرفي، ولا زالت آثار هذا التداخل ملموسة في بعض بلدان العالم حتى اليوم. في العراق اختص اليهود والصابئة بصياغة الذهب والفضة، وبعد رحيلهم/ ترحيلهم/ هجرتهم/ تهجيرهم عن مدن ميزوبوتاميا، ورث المندائيون عنهم الصنعة وتخصصوا بها، وانقسموا إلى صاغة ذهب وصاغة فضة.

صائغ اثناء عمله في اربيل

صائغ الفضة Silversmith  

صياغة الفضة ارتبطت في كثير من الحضارات بصياغة الذهب، لكنها استقلت لدى بعض الأمم حين توجه بعض الصاغة إلى حرفة صياغة القوارير والأواني والكؤوس والنصب الصغيرة من الفضة. وبات هذا التخصص حرفة قائمة بذاتها، واتصلت بها أيضاً ما تعرف بصنعة المينا، وهو النقش الملون بأحبار الصياغة المعروفة. تفترق صياغة الفضة بالطرق البارد عن صياغة الذهب، وهذا يعني أن صاغة الفضة لا يذيبون الفضة ثم يطرقونها، بل يطرقونها وهي باردة، ولا أعرف سبب هذا لاسيما أنّ الذهب والفضة بنفس اللين تقريباً. صياغة الفضة شهدت تطوراً متسارعاً في الصين وبلدان جنوب شرق آسيا وقد ادخلوا إلى صياغتها النار وتقنيات الصهر والاذابة الجزئية، وتحرز خواتم الفضة الصينية الأنيقة طلباً متزايداً في أسواق العالم.

برّاد الأسلحة (البندقجي) Gunsmith

يعرف برّاد الأسلحة في العراق بوصف “بندقجي”، وفي الموصل يوصف صانع ومصلح المدافع بانه “طوبجي”. الوصفان محليان وردا إلى لغة العراق من التركية. وظهر عنوان برّاد أسلحة في العراق مع تشكيل الجيش العراقي في عشرينات القرن العشرين بعد أن أنشأ البريطانيون دولة العراق الحديثة. تاريخياً ترقى صنعة السلاح إلى أزمنة عتيقة، وفي القرن الثالث عشر خلال وبعد الحروب الصليبية حظيت بمكانة هامة، فأقيمت لصناع السلاح نقابات تحمي مصالحهم، ولعلها من أقدم النقابات في العالم الغربي. صانع السلاح في الأساس حداد، وميكانيكي، والجمع بين المهنتين تنتج عنه صناعة السلاح. والحديث هنا عن الأسلحة النارية تحديداً. صناعة السلاح اليوم جزء من صناعة دولية ثقيلة كبرى تقوم عليها سياسات الدول الكبرى في العالم. وصناع السلاح الذين توارثوا المهنة عن اسلافهم يعملون في ترسانات سلاح الجيش والشرطة عبر العالم، وهي حرفة نادرة تدر على محترفيها موارد هامة.

الرمّاح Spearsmith

وهو صانع الرماح والحراب، وهي حرفة اندثرت باندثار الرماح والحراب، ومن ورثوا هذه الحرفة عن أسلافهم انتقلوا تقليديا إلى صناعة النصال، أو غادروا المهنة إلى فضاءات أرحب.

صانع البنادق (براد اسلحة) في بريطانية إبان الحرب العالمية الأولى

صانع المفاتيح والأقفال Locksmith

مهنة قديمة بقدم صناعة الأبواب والصناديق المقفلة. القفل هو حارس الصناديق والأبواب المؤصدة الذي يمنع السراق والمتسللين. اندثرت هذه الصنعة بتحول انتاج الاقفال إلى المكننة بشكل مطلق، ولم يعد للصنعة الحرفية أيّ دور في صناعتها ونتاجها الواسع. ما تبقى هو صناعة المفاتيح، وهذه تتم على مستوى الأفراد يدوياً بالاستعانة بمخارط كهربائية صغيرة (Turner) وقوالب مفاتيح جاهزة. فيما تخصص بعض صناع المفاتيح بعمليات صهر قوالب مفاتيح الفافون والستيل لأبواب الغرف الخشبية والحديدة القديمة.

التنكجي Tinsmith

وتعني بالعربية الفصحى صانع الصفيح، وهي مهنة موروثة من القرن السادس عشر، تقوم على التعامل مع الصفيح وإنتاج علب أو صفائح أو براميل وخزانات مياه منه. وما زالت المهنة قائمة حتى اليوم، وباتت اقسام منها ترتبط بمهنة مصلحي ابدان السيارات في بعض البلدان. الصفيح في العادة يصل الصناع بشكل طبقات كبيرة، ويقومون بتقطيعه وضغطه بمقصات وضاغطات كهربائية هيدروليكية كبيرة، ثم يحولونه إلى علب حسب المقاسات المطلوبة دون اذابته او صهره، أي أنّ تصنيعه يتم بشكل كامل وهو بارد، ليدخل على أحزمة تعليب المواد الغذائية والمنتجات النفطية والدهون وما شابه. أغلب مفاصل هذه المهنة باتت اليوم تعتمد على الآلة والأتمتة، وتناقص فيها دور الصانع إلى حد كبير.

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

حكايات ساخرة بلا مناسبة

يصف الكاتب محمد حسين صبيح كبة برنامجاً روسياً افتراضياً عن لقاءات مع الناس ومع مهندسي نفط روس حول برج للنفط مائل الطباع بناه العراقيون، ويمضي ليصف أشياء أخرى غير ذات صلة بالنفط وابراجه. الحكاية بدأ الأمر بشكل لطيف وبدم خفيف. كان الأمر على شكل كاريكاتير في كتاب عن...

قراءة المزيد
كتابات ومفارقات

كتابات ومفارقات

يرى محمد حسين صبيح كبة أن فكرة التحول مما بين بشري وحيواني ونباتي وجمادي هي فكرة رهيبة راودت بعض العلماء مثل ذلك مثل محاولات العرب والمسلمين أمر محاولاتهم في الكيمياء وفي غير الكيمياء مثلا أمر إكسير الحياة ومثلا أمر تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. الفكرة ممكنة...

قراءة المزيد
من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم

كتابات ساخرة من وحي خطب الجمعة وسوق انتقالات كرة القدم. يروي محمد حسين صبيح كبة طرفة تفيد أنّ خطيباً في أحد المساجد هبط من المنبر بعد خطبته وهو يرتجف من الخوف بعد أن أحاط المصلون به من كل جانب، ثم قالوا له بكل وضوح: قولك وخطبتك أن موقعة بدر كانت بالدبابات والقنابل...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *