ما جرى منذ 9 نيسان 2003 حتى اليوم كان وما زال جديداً طارئاً على العراقيين، لا أتكلم هنا عن آثار الحرب، فالعراقيون كانوا وما زالوا قضبان وتروس تدور بها عجلات الحروب على مر الأجيال، بل أتكلم عن الجديد الذي تحول اليه المجتمع بين ليلة وضحاها، من القحط والجوع والفقر إلى الرخاء والرفاهية، ومن كم الأفواه والقمع والقتل المنظم الذي ترعاه الدولة، إلى حرية مطلقة وديمقراطية فتية يحاول الافراد أحزابا ومؤسسات استيعابها.
أوكلت لي إدارة الفضائية العراقية IMN التي كانت قد نشأت حديثاً برعاية أمريكية مباشرة مهمة الاعداد الإعلامي لمرحلة الانتخابات، وكان ذلك يتضمن، إجراء لقاءات مع كل المرشحين للانتخابات، أما في بيوتهم ومقراتهم الحزبية أو باستضافتهم في ستوديو 3 بالصالحية مبنى التدريب الإذاعي سابقاً، لإتاحة الوقت لهم لعرض برامجهم الانتخابية.
الجميع بلا خبرة، مرشحون واعلاميون وصحفيون ومصورون وحتى الكوادر الملحقة بالعمل الإعلامي من سواق سيارات وعناصر حماية وشرطة كانت بلا خبرة بالعمل في المناخ الديمقراطي.
كان مدير أخبار التلفزيون آنذاك الإعلامي العريق المرحوم نجم الخفاجي، وقد التحق بالفضائية العراقية قادماً من شبكة بي بي سي عربي في لندن، وحصل على عقد عمل لمدة عام فيها لإرساء قواعد غرفة أخبار تعمل بالنفس الديمقراطي، وهذا بحد ذاته تحد كبير، لأن أغلب العاملين في الشبكة هم بقايا الفضائية العراقية البعثية، وكان من الصعب عليهم أن يفهموا مستوى التغيير الذي ينبغي عليهم إحداثه في الوعي العراقي، حدث ولا حرج أن كثيرين منهم كانوا حريصين على افشال التجربة الجديدة لإظهار أن نظام صدام حسين هو الأنجع مع المشهد العراقي.
قبل أن أباشر عملي أعدت لنا الشبكة دورة في لندن لمدة 5 أيام، شارك في تلك الدورة 4 اعلاميين وصحفيين من الفضائية العراقية، كنت الوحيد بينهم الذي يتقن اللغة الإنكليزية، وهكذا استأجر القائمون على الدورة مترجماً جزائرياً تولى ترجمة المحاضرات وورشات العمل.
آنذاك لم يكن واضحاً لدى الجميع مستوى الانقسام الدولي حول عملية “تحرير العراق” التي قادها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وحليفه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وتحالف دولي ضم العديد من الدول من بينها اسبانيا. المفاجأة الصاعقة أن شبكة بي بي سي بكل كوادرها في القسمين العربي والإنكليزي في بوشهاوس بلندن كانت تعارض التغيير الذي جرى في العراق، لذا فقد اتخذوا من وفدنا موقفاً رافضاً، واقتصرت لقاءاتهم بنا على اجتماعات شكلية جرى الحديث فيها عن عموميات. الأغرب أن الشخص الذي أوكلت له قيادة الدورة وهو محاضر قانوني واعلامي إنكليزي كان نفسه معارضاً لعملية حرية العراق، لذا كان يبعث برسائل قصيرة على مدى الأيام الخمسة مفادها أن العملية بشكلها الحالي غير مفيدة، لكنه على كل حال عرّف المشاركين بآليات التغطية الإعلامية المرتجاة، محاولاً أن يقارن دائما بكيفية تعامل شبكة بي بي سي (شبكة البث العام البريطاني) مع الانتخابات في هذا البلد، ومؤكداً أن علينا دائماً الاقتداء بأداء هذه الشبكة العريقة لاسيما أن وظيفتنا هي أقرب إلى وظيفتها باعتبار أن الفضائية العراقية هي شبكة البث العالم العراقي.
كان التحدي الأكبر الذي نواجهه نحن الصحفيون والإعلاميون هو كيفية أن نبقى محايدين إزاء المرشحين المختلفين وطروحاتهم المتباينة، وهذا الحياد يفترض أن يحدد إلى حد كبير توجيه اللقاءات المقترحة. يجب أن تكون حظوظ وفرص وتوقيتات الجميع متساوية. وطلب مدير الأخبار تخصيص دقيقة واحدة لكل مرشح لعرض ما عنده، وكان ذلك القرار حازماً لكنه صعب التحقيق لأن المرشحين أنفسهم لم يكونوا قد تعودوا على المشاركة الديمقراطية، لذا فإن تخصيص دقيقة واحدة لكل منهم تجعله في حيرة لأنه لا يعرف ماذا يقول، وهكذا صرنا نتجاوز هذا الحاجز الزمني، ليصل وقت المرشح أحيانا إلى دقيقتين.
وذهبنا لبيت في المنطقة الخضراء لنجري لقاء مع إبراهيم الجعفري يتيح له أن يعرض برنامجه الانتخابي في دقيقة واحدة، وانشغلنا بإعداد مكان اللقاء في غرفة استقبال صغيرة نسبياً، ثم ظهر الجعفري، وسجلنا اللقاء، وعرض عليّ المصور الرشز الذي سجلنا، فأيدت سلامته، وحين عدنا إلى المحطة، شاهد مدير الأخبار اللقاء، وسارع يحكم عليه بالإعدام، ففي اللقاء خطأ استراتيجي تمثل في أن مسقط ضوء الغرفة كان واقعاً على الخلفية الموحدة التي كنا نحملها معنا لنضعها خلف المرشحين وهم يتكلمون، لتحقيق عنصر الحياد المطلق في كل لقاء، وكان مسقط الضوء على الخلفية لامعاً بشكل قبيح، إلا أننا لم نلتفت لذلك، والخطأ بالدرجة الأولى خطأ المصور، وخطأي أنا أيضا اذ كنت رئيس الفريق، وهنا طالبنا مدير الأخبار بالحصول على موعد آخر، لتسجيل لقاء آخر وعرضه، ولم يتحقق هذا، والمفارقة أن إبراهيم الجعفري الذي لم يعرض دعايته الانتخابية المحايدة الرسمية، كان هو من انتخب لمنصب رئيس الوزراء الأول للعراق بعد فترة مجلس الحكم وسلطة الحاكم المدني الأمريكي.
الواقعة الأخرى الملفتة التي علقت في ذاكرتي من تجارب تلك المرحلة، هو ذهابانا لتسجيل لقاء الدعاية الانتخابية الرسمية مع المرحوم عدنان الباججي في مقره الفخم بمدينة المنصور. فقد انتظرنا فترة طويلة حتى وافانا الباججي لنسجل معه اللقاء، وأثناء فترة الانتظار حدثني المصور وسائق الفريق عن لقاءات سبق أن أجروها في بيوت مسؤولين عراقيين سابقين (في عهد صدام حسين) وكان كل اعلامي يصل المكان يحصل على مكافأة، وتوقعوا أن تعرض علينا مكافأة لمناسبة حضورنا، وهذا ما لم أتوقعه أنا شخصياً، رغم أني قد التحقت بالعمل التلفزيوني حديثاً، بعد أن كانت خبرتي هي الصحافة الورقية والعمل الإذاعي. فالسياق الديمقراطي حسب فهمي لا يتيح للصحفي أن يقبل أي هدية، ودون أن أبلغهم كنت قد نويت أن أرفض بشدة أي هدية يتقدم بها الباججي او أي ممن كانوا معه، لكنّ الأمر لم يسر حسب توقعات الفريق، ولم يقدم الباججي أي هدية للفريق، ما أثار ارتياحي وجنبني حرج كبير متوقع.
الواقعة الثالثة التي تكشف عن سوء فهم المرشحين أنفسهم لدور الاعلام المحايد، هو لقاء اجريناه مع شخصية نسوية سياسية اسلامية معروفة في بيتها بحي العدل، وقد رحبت بنا السيدة ترحيباً كريماً لكنها رفضت بشدة الالتزام بالوقت الممنوح لها، وتجاوزت ليصل اللقاء إلى 5 دقائق، ثم اعترضتُ وأعدنا التسجيل فبلغ اللقاء 4 دقائق ورفضت بشكل قاطع أن تعيد التسجيل مرة ثالثة، وحين عدنا إلى المحطة، شاهد مدير الأخبار اللقاءين فاعترض بشدة على الوقت، وعرضت عليه ما جرى، فاقترح أن أعمل مونتاج على اللقاء، واعترضت أنا لأنّ اللقاءات المعدة لعرض برامج المرشحين لا يجوز أن يجري عليها أي مونتاج، حسب ما تعلمته من دورتنا في لندن. وبعد أخذ ورد، طلب مدير الأخبار إجراء لقاء آخر مع السيدة المذكورة، لكن هذا لم يتحقق، وجرى بث اللقاء معها كما هو لمدة 4 دقائق.
تعلمت من تلك التجربة مدى صعوبة تقريب الناس للمفاهيم الديمقراطية، وايقنت أن أغلب صحفيي العراق لا يدركون ولا يريدون أن يدركوا حقيقة التجربة الديمقراطية، مفضلين أن يعملوا كموظفين غير اعلاميين على أن يلتزموا بتلك القيم النبيلة.
اليوم وبعد سبعة عشر عاما على تلك التجربة، اختلفت مقاربة الصحفيين حتماً لمسالة التحول الديمقراطي في العراق، لكن النموذج البعيد عن التجربة الديمقراطية والذي أرسته الأحزاب التي تقود العملية السياسية في العراق خرّب إلى حد كبير وعي الإعلاميين والصحفيين وتوجهاتهم في هذا المجال، ولعل من المفيد هنا القول للصحفيين إنّ تغير وعي الناس يبدأ من تغيير الصحفي لوعيه، فإذا رفض الصحفي هذا التغيير فكل الجهود التي تبذل بهذا الاتجاه بلا جدوى
لصناعة وعي ديمقراطي جماهيري، لابد من انتاج صحفيين مؤمنين بالعملية الديمقراطية، وهذا نادر في العراق الجديد للأسف، ويقتصر على الصحفيين المتعاونين مع منظمات المجتمع المدني والذين تعلموا مبادئ الديمقراطية من خلال العمل مع المنظمات الدولية المهتمة بهذا الأمر.
ملهم الملائكة
0 تعليق