إزاء الحصار الأمريكي الدولي المشدد على الجمهورية الإسلامية في إيران أطلقت سلطة رجال الدين، ابتكارا اسمته “كل مسجد مراسل” للتصدي إلى الهجمة الاعلامية الغربية كما ذكر بيان وازرة الإرشاد (الدعاية) الإيرانية.
بعد مشاريع” كل مسجد جهاز عرس” و”كل مسجد محامي”، و في أواخر تشرين الأول/ اكتوبر 2018 ولد مشروع “كل مسجد مراسل” . وهذه النقلة تمثل تعميقاً لسلطة المساجد التي ما برحت تقوى وتتسع في الجمهورية الإسلامية.
وقد عاد المعممون ، لتوظيف المساجد، لتعبئة الناس ومراقبتهم والتجسس على أحوالهم، وما برح الفهم الملائي (الآخوندي) للحصار الأمريكي يدفع باتجاه إقناع الشعب أنّ الهجمة اعلامية وليست حقيقية، وعلى الناس أن يتصدوا لها إعلاميا، فتمر العاصفة، ويعود الصفاء والعافية إلى الجمهورية الإسلامية. وبهذا السياق تحدث مستشار وزير الارشاد الاسلامي إلى الصحفيين والمسؤولين بالقول: “طالما كان المسجد المكان الأشد تأثيرا في إيران، وعلى مدى أربعين عاما من عمر الثورة الإسلامية كانت المساجد وما برحت قوة فاعلة ووسيلة مؤثرة يلحظ أثرها حتى اليوم”.
وأعتبر حبيب رضا أرزاني أنّ الغاية من طرح مشروع كل مسجد مراسل هي دعم الدور الاعلامي للمسجد، وتقوية دوره كمؤسسة ثقافية فنية. ووعد ارزاني ” أن هذا المشروع سيمكن الشعب من الحصول على معلومات مفيدة”!
استراتيجية النظام الديني الإيراني تقوم على خلق أعداء حقيقيين أو وهميين لتعليق أسباب الفشل والفساد الاداري عليهم. وهكذا دئب خامنئي وقبله خميني على الحديث عن” الأعداء” وعن “مؤامرات الأعداء” كسبب مباشر لإنهيار العملة الايرانية، وارتباك السوق، وما يجري من حراك في عموم البلد يستهدف مؤسسات السلطة واجهزتها العسكرية والقمعية (الأمنية). ومشروع كل مسجد مراسل بدوره سوف يعمل تحت ظل هذه الاستراتيجية، فسوف يقوم المبلغون (المعممون) بتوظيف خطب الجمعة واطلاق دورات ودروس تسعى إلى توعية الشعب بخطر ” مؤامرة الأعداء وأبعادها” على حد تعبير خامنئي وهو ما بات خطاباً يومياً في كل المساجد والمنابر.
المصادر الرسمية صارت اليوم تتحدث علناً عن قوة المسجد وأثره العميق في نشر ثقافة المعممين وعقائدهم السياسية، وطبقا لما نشره “سازمان تبليغات إسلامي” و” ستاد اقامة نماز” يوجد في إيران اليوم 72 ألف مسجد شيعي. بمعدل مسجد واحد لكل 1041 فرد من الشعب.
إزاء هذا النمو، تتناقص أعداد الإيرانيين الذين يحضرون في المساجد لإقامة الصلاة والعبادة يوما بعد يوم، وتشير تقارير مسربة من أروقة مؤسسة إقامة الصلاة “ستاد اقامة نماز” إلى أنّ عدد مرتادي المساجد في المدن الكبرى والمتوسطة والصغرى، انخفض خلال الأعوام العشرة الأخيرة إلى 3% شهريا من مجموع سكان المدن المشار اليها. ولا تجرؤ السلطات على نشر هذه المعلومات، فتعمد إلى تسليط الأضواء والاهتمام الاعلامي على المساجد الكبرى، حيث يجري حشد وتعبئة الفقراء بما يشبه الاغراء لحضور الصلوات فيها.
ففي عشرات المناسبات الدينية التي ظهرت وتنامت عقب سنوات الحروب الكثيرة التي انغمست فيها سلطة المعممين، يجري حشد الطبقات الفقيرة في المدن، وبينها يُحشر المهاجرون الأفغان واللاجئون العراقيون في حافلات رسمية أو مستأجرة، وينقلون إلى المساجد الكبرى لإحياء مراسم العزاء أو مراسم الاحتفال، مقابل وجبة طعام، وكيس من المكسرات والحلويات لكل مشارك، وغالباً، لا تعيدهم الحافلات إلى حيث يقيمون، بل يُترك عناء العودة على عاتقهم، بعد أن كثّروا السواد أمام كاميرات التلفزة والصحفيين في المساجد لإحياء مناسبة معينة.
وازاء مساعي المعممين الساسة لدعم قوة المساجد في إيران، اصطدمت مسيرة “المخلصين لخط ولاية الفقيه” المتوجهين إلى الأضرحة الشيعية في العراق بأزمة من نوع آخر. فقد شهدت زيارة الأربعين في تشرين أول/ اكتوبر 2018، ظهور مشكلة كبرى، أحرجت القائمين على الزيارة، فالعملة الإيرانية المنهارة لم يقبلها العراقيون، رغم اعلان حكومة العراق أن الزيارة يمكن أن تتم بالدفع بالتومان، وليس بالضرورة بالدولار، وقد رفض الصرافون في كربلاء وبغداد أن يجروا تحويلات من التومان إلى الدينار مباشرة، مما خلق أزمة مصيرية لنحو مليوني زائر، وجدوا أنفسهم فجأة معدمين ولا يملكون أن يشتروا قنينة ماء حدث ولا حرج عن دفع تكاليف الزيارة.
بعض مصارف إيران الكبرى، “بانك مركزى” و”بانك ملى” عقدت جلسة طارئة، وارسلت وفدا إلى كربلاء لتسهيل مهام الزائرين، وأعلن الوفد أن الأزمة نشأت بسبب” القطع المستمر لخدمات الانترنت في العراق، وبسبب عدم وجود تخصيصات للتحويلات المصرفية ! هذا التفسير تجاهل أن تحويلات الزوار الإيرانيين تتم دائما عبار مكاتب الصيرفة الشخصية الصغيرة المنتشرة في كل مكان بالعراق، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بخدمات الانترنت”.
الجزء الأصعب من المشكلة جاء بعد أن دفع كثير من الزائرين أموالهم إلى البنك المركزي وبانك ملي في إيران، بانتظار أن يتلقوا دنانير عراقية في كربلاء والنجف بدلا عن تلك النقود، فوجدوا أنفسهم هناك بلا نقود، ولا توجد جهة تؤيد سلامة وصول المبالغ التي سلموها في بلدهم، لتدفع لهم مقابلها دنانير عراقية.
المشهد الأشد إيلاما للجماهير “المخلصة لخط ولاية الفقيه” وسائر من شاهد الفيديو من الشعب الإيراني كان اصطفاف طوابير طويلة من الزائرين العاشقين، أمام ثقب في أحد الجدران، بانتظار أن يستلموا وثيقة معينة عليهم تعبئتها واعادتها عبر نفس الثقب إلى الشخص الغامض غير المرئي الجالس خلف الجدار، على أمل أن يصرف لهم التحويل المطلوب!!
السر الخفي وراء هذه الأزمة، رفع عنه الستار حين وجّهت القيادات الإيرانية الزائرين، بعدم مراجعة مكاتب الصيرفة العراقية للحصول على تصريف (خشية تفاقم وضع التومان المنهار)، وتحدث مسؤول إيراني رفيع المستوى لوكالة أنباء أيسنا الإيرانية كاشفاً “إنّ سبب توجيهات القيادة الإيرانية للزائرين هو عدم تعاون البنك المركزي العراقي في تقديم الخدمات الخاصة بالصيرفة لزوار الإمام الحسين”. ولم يذكر هذا المسؤول أنّ البنك المركزي العراقي يرفض التعامل مع الإيرانيين خشية الرقابة الأمريكية القوية في العراق على حركة العملات والتعاملات مع إيران، بسبب الحصار الدولي المفروض على هذا البلد.
ملهم الملائكة/ فصل من كتاب “إيران دولة المساجد العميقة”
0 تعليق