دراسة من نوع جديد عن الرقص
تعجز الكلمات المكتوبة أو المنطوقة – في أحيان كثيرة – عن الإحاطة بالأحداث والمواقف والتجارب الممزوجة بحِمل كثيف من العواطف والمشاعر الإنسانية، وتمثل الكتابة العلمية الاجتماعية نموذجًا على ذلك، إذ أنها أقل قدرة على استيعاب تلك الأحداث والتجارب من الأدوات الفنية والأدبية؛ ولذلك يناضل علماء الأنثروبولوجيا باستمرار من أجل تطويع اللغة لفهم وتمثل تعقيدات الحياة الاجتماعية في المجتمع الإنساني (. (Seeger, Anthony
والحق أن ثمة وسائل أخرى أكثر نجاعة في التعبير عن المشاعر الإنسانية والخبرات الوجدانية والتجارب الاجتماعية العميقة، إنها الفنون بمختلف تجلياتها: الموسيقى، الرسم، النحت، الرقص . . . إلخ، فهي تتداخل وتتشابك مع كل العمليات الاجتماعية، وتتبادل معها المعاني والرؤى والدلالات.
ويمثل الرقص أحد الأنشطة الاجتماعية والصور الفنية التي تعبر عن كثير من القيم والمعاني والممارسات التي تميز المجتمع الإنساني، وتكشف عن تباينات في البنى الطبقية والإثنية والنوعية (الجندرية). واستنادًا لذلك، فقد استبان للأنثروبولوجيين أنه أمر يستحق مزيدًا من الاهتمام، بعد أن ظل غائبًا لعقود طويلة عن الوعي الأنثروبولوجي الذي انشغل بالقضايا البنائية الكبرى متأثرًا بآبائه المؤسسين.
الاهتمام الأنثروبولوجي بالرقص:
يمكن تعريف الرقص بأنه سلوك إنساني يتشكل من متواليات حركية وإيقاعية غير لفظية هادفة، ومنتظمة، تعتمد تلك المتواليات على إيقاع منتظم، وتتميز عن الأنشـطة الحركية العادية، وللرقص قيم جمالية وحمولة رمزية عميقة من حيث الزمان والمكان والجهد – خلافًا للأنشطة البدنية المعتادة. فالرقص نشاط عضوي ووجداني معقد، مؤطر ثقافيًا، ومُنمط اجتماعيًا. (Hanna, L. Judith 2010: 222)
إن الرقص يمثل حركات منتظمة ترتبط بمقاصد و معانٍ إنسانية واعية، إنه يمثل خطابًا غير لفظي، وتعبيرًا مرئيًا عن قضايا وقيم ومضامين اجتماعية ورمزية، يتم فهمه من خلال البناء الثقافي والسياق التاريخي للمجتمع. (Blacking, John 2018: 93)
وقد أشارت المصادر التاريخية إلى أن الرقص وما يرتبط به من طقوس، ومراسم اقترن بالوجود الإنساني منذ أقدم العصور، ومن خلاله وعن طريقه يتم التعبير عن الحالات النفسية والوجدانية كالفرح والحزن، والقلق والاستعداد للقتال وغيرها، وكان منها ما يؤدى خلال الاحتفالات الدينية من رقصات تعبيرية رمزية للتقرب بها من الآلهة او للحصول على مباركتها. (إياد محمد حسين وعامر محمد حسين 2013: 74)
والحقيقة أن الأنثروبولوجيين – كما أشرنا منذ قليل – لم يهتموا كثيرًا بالدراسة المنظمة للرقص، على الرغم من أن هناك صلات مهمة بين الرقص ودراسة الشعائر وأنثروبولوجيا الفن، وقد قام رواد المدرسة الانتشارية الأوائل بدراسة الرقص مع سمات ثقافية أخرى خلال عملية اختبار فروضهم المتعلقة بانتشار العناصر الثقافية بين المجتمعات، وربما كان الأنثروبولوجي الأمريكي المعروف (فرانز بواس) Franz Boas أول من قام بتحليل الرقص كظاهرة ثقافية مستقلة. وقد ذهب بواس إلى أن الرقص – مثله مثل أشكال الفن الأخرى – يجب أن يُدرس من خلال مفاهيم تختلف من ثقافة إلى أخرى، ويرى بواس أن ثقافة كل مجتمع تشكل أنماطًا للرقص تجعله يبدو مختلفًا عن مماثلاته في الثقافات الأخرى. (شارلوت سيمور شميث 2005: 282)
وتتقاطع أنثروبولوجيا الرقص مع أنظمة أنثروبولوجية أخرى مهمة مثل أنثروبولوجيا الجسد وأنثروبولوجيا النوع، وأنثروبولوجيا الموسيقى، وأنثروبولوجيا الدين، والأنثروبولوجيا السياسية، والأنثروبولوجيا الطبية، والحقيقة أن ثمة معوقات أكاديمية غربية كلاسيكية حالت دون الدراسة الأنثروبولوجية المبكرة للرقص، تمثلت في تلك الاتجاهات السلبية التي كانت سائدة نحو الجسد الإنساني والعواطف، فضلًا عن التقدير المبالغ فيه لقدرة اللغة اللفظية على التعبير عن الواقع. (Hanna, L. Judith 2010: 222)
وقد مارست كثير من التفسيرات الفقهية واللاهوتية للنصوص الدينية المقدسـة – خاصة في المجتمعات الشرقية – دورًا لافتًا في انصراف الباحثين عن الاهتمام بموضوع الرقص، بوصفه: (شكلا من أشكال اللهو، وعملاً لا يليق بالوقار المرتبط بالدين) . غير أن هناك تفسيرات أخرى (راديكالية) تذهب عكس ذلك، فالرقص الصوفي – وفق ما يراه جلال الدين الرومي على سبيل المثال – يمثل تجاوزًا للذات الإنسانية في العبور إلى المعشوق الأزلي الأوحد والفناء فيه. (إياد محمد حسين وعامر محمد حسين 2013: 75)
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن منظورات العلوم الاجتماعية في تحليل الرقص وتفسيره تتباين بدرجة ما مع المنظور الأنثروبولوجي، فيركز علماء الأنثروبولوجيا الثقافية على البعد الثقافي للرقص، وتباين حركات الرقص وفقا للمنطقة الثقافية التي ينتمي إليها، وتذهب الاتجاهات الوظيفية في الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى أن المعاني الكامنة خلف الحركات الراقصة ترتبط بنسق الشخصية وتنوع النظم الاجتماعية، بينما تركز الدراسات البنائية على تحليل بنية الحركات البدنية من حيث المكان والزمان والجهد المبذول، أو الخطوات والمراحل، وقواعد الجمع بين كل منها، والانتظامات المكونة لشكل الرقص، أما دراسات الاتصال فتهتم بالتفاعل بين القدرات الإنسانية المتمثلة في ديناميات الرقص والسياق الاجتماعي – الثقافي. (Hanna, L. Judith 2010: 223)
والواقع أن الرقص لم يكن أبدًا في قلب اهتمامات الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية أو الأوربية، وكان يتم تجاهله لصالح الأشكال اللفظية والمادية للتعبير الثقافي، أو يتم حصره في إطار تحليلات الشعائر الدينية. وعلى الرغم من المقالة اللافتة لمارسيل موس Marcel Mauss عام 1936 بعنوان تقنيات الجسد، فإن معظم الجهود الأنثروبولوجية لدراسة الموسيقى والرقص اضطلع بها باحثون أمريكيون في تقليد بدأ مع بواس، وامتد إلى (ميلفن هيرسكوفيتش) Melville Herskovitzو(جورج هيرتزوج) George Herzog وغيرهما. (Seeger, Anthony 1994: 687)
وعندما بدأ الأنثروبولوجيون في دراسة الرقص، كان معظمهم يفتقر إلى فهم عناصر حركات الرقص، ويفتقرون كذلك للتدريب اللازم لربط الصور المرئية بالعناصر اللفظية. ونتيجة لذلك كان وصف الرقص وفهمه محدودًا جدًا حتى منتصف القرن العشرين. ومنذ سبعينات القرن الماضي، بدأ الاهتمام بالأبعاد المعرفية للصور المرئية الثابتة والمتحركة (التي تتضمن الرقص وغيره من الأنشطة الجسدية). (Hanna, L. Judith 2010: 223)
يمثل كتاب (أنثروبولوجيا الرقص) Anthropology of Dance للباحثة الأمريكية آنيا بيترسون رويس Anya Peterson Royce الذي صدر في عام 1977 منعطفًا مهمًا في التحليل الأنثروبولوجي للرقص، فـ (رويس) التي تلقت تدريبًا في الرقص بجانب عملها الأنثروبولوجي، مزجت الرؤى النظرية والأدوات المنهجية في تحليل الرقص، وانطلقت من قضية أساسية مفادها أن الرقص لا يمكن فهمه بشكل مستقل عن البنية الثقافية التي يوجد فيها، ولذلك ينبغي تحليله كظاهرة فريدة بكل ثقافة، حتى وإن تشابه في بعض حركاته مع رقصات معينة في ثقافات أخرى. ويعد هذا الكتاب الآن مرجعًا أساسيًا لكل المهتمين بدراسات الرقص وجوانب تحليله المختلفة. (Adra, Najwa 1978 : 76)
وتواترت بعد ذلك الجهود العلمية لدراسة الرقص، وأضحت أنثروبولوجيا الرقص منطقة معرفية خصبة وممتعة، وأنجز الباحثون فيها العديد من الرؤى والأطروحات المتعددة والمتنوعة التي أماطت اللثام عن الكثير من جوانبه وتفصيلاته، كما أسسوا منهجيات معتبرة لدراسته.
المنهجية الأنثروبولوجية في تحليل الرقص:
تعد الباحثة الأمريكية جيرترود كيراث Gertrude Kurath من رواد التحليل المنهجي الأنثربولوجي للرقص، إذ سكّت مصطلح علم الرقص Choreology أو الدراسة العلمية للرقص عام 1960؛ للإشارة إلى أنثروبولوجيا الرقص، وقد اشتركت مع الأنثروبولوجيين في تقديم تحليل للرقص، واقترحت عليهم أسلوبًا لتسجيل الرقص كما يؤدى في الميدان، يتضمن هذا الأسلوب ملاحظة الرقص وتسجيل حركاته في سياقه الثقافي، وكذا تحليل المضامين الثقافية كما تتجلى في حركاته المتنوعة. (شارلوت سيمور شميث 2005: 282)
وثمة إشكالية منهجية أنثروبولوجية في تحليل الرقص وهي أن الاعتماد فقط على تفسير الإخباري Informant (وهو شخص من المجتمع المحلي يمثل دليلا للباحث الأنثروبولوجي في مجتمع البحث) للرقصات المحلية وتحليله لها قد يحجب الفهم العميق لها، فقد يخطئ الإخباريون في تفسيراتهم. كما أن ملاحظة أداء الأفراد لرقصات معينة لاستنباط جمالياتها الاجتماعية يتطلب قدرات نظرية عميقة من جانب الإخباريين والباحثين على السواء. (Hanna, L. Judith 2010: 224)
ولذلك فقد بذل العديد من الباحثين جهودًا مضنية من أجل تطوير آليات دقيقة لتحليل الرقص وفهم مضامينه الرمزية والميثولوجية والقيمية، ففي ستينات القرن الماضي أجرى آلان لوماكس A. Lomax مسحًا ثقافيًا مقارنًا لقياس وحدات الرقص، ذهب فيه إلى أن حركات الرقص تتحدد من خلال الحركات المعتادة في كل ثقافة، وأن أسلوب الرقص يختلف باختلاف مستوى تعقد أنشطة المعيشة وأنماطها في الثقافة التي تضمه. وكشف لوماكس أن ثمة تكاملا بين الموسيقى والرقص والجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع. (Seeger, Anthony 1994: 688)
وأجرى بعض الباحثين في فترات لاحقة تحليلات للرقص باستخدام نماذج مستمدة من علم اللغة البنيوي، والأنثروبولوجيا البنيوية، من ذلك مثلا تحليلات كيبلر Kaeppler في نهاية السبعينات لرقصة التونجا Tonga على أساس وحدات الحركة Kinemes التي تتحد مكونة أشكالا حركية. واقترحت كيبلر تحليل الرقص في ضوء ما أسمته (نظم الحركة الإنسانية) في الثقافات المختلفة، حيث أن ثمة فروقًا في المضامين الرمزية والاجتماعية للرقص وفق البنية الثقافية، فهناك مثلاً رقصات طقوسية (كالرقصات الدينية ورقصات شعائر المرور)، ورقصات مرتبطة بالأنشطة والمناسبات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة (كرقصات الحصاد والميلاد والوفاة). وحاول ويليامز Williams تطوير القواعد الحركية للغة الرقص، وذلك في دراسته عن “البناء العميق للرقص”. (شارلوت سيمور شميث 2005: 285)
ومن ناحية أخرى، تناول بعض الباحثين الفوائد الصحية والنفسية للرقص، اعتمادًا على ما أثبتته بعض الدراسات والتجارب المهتمة بعلاج التوتر وتخفيفه من أن النشاط البدني للرقص يُحدث تغيرات عاطفية، وتحولات وجدانية في الجانبين الروحي والدنيوي (العلماني) للفرد. فالرقص قد يزيد من طاقة المرء وينمي إحساسه بالحيوية، ويعمل على تنشيط الدورة الدموية التي تنقل الأكسجين إلى العضلات والدماغ، بالإضافة إلى تعديل مستويات بعض المواد الكيميائية بالمخ. ويعمل الرقص القوي على إطلاق الإندورفين Endorphins الذي يُعتقد أنه ينتج راحة وبهجة كبيرة. (Hanna, L. Judith 2010: 224)
وبالإضافة إلى ذلك فالرقص نشاط ترفيهي لشغل وقت الفراغ، ومصدر من مصادر المتعة الحسية والوجدانية، ويعد بصورة ما شكلا من أشكال التمارين الرياضية، كما أنه وسيلة لإطلاق الخيال، حيث يتحرر الراقص من التحكم في نفسه، ومن ثم يكون في مأمن من أي قوى تتحكم فيه، فالرقص يمثل استعراضًا مثيرًا للذات وللجسد، مصحوبًا في ذات الوقت بقدر مساو من (نفي) الذات والجسد من خلال الذوبان في المضامين الرمزية للرقص. (أندرو إدجار وبيتر سيدجويك 2009: 265)
البنية الرمزية للرقص:
إن الرقص – بوصفه شكلا رمزيًا – يمثل الناس من خلاله أنفسهم لأنفسهم، ولبعضهم بعضا، وقد يكون الرقص دلالة في ذاته، أي قيمة تعبيرية عن حيوية الذات والجسد، إن الدلالة جزء لا يتجزأ من عملية التواصل اللفظي وغير اللفظي، ويعد الرقص وسيطًا محوريًا للتواصل الاجتماعي في ثقافات عديدة. إنه يتطلب نفس القدرات الدماغية اللازمة لإدراك التعبير الإبداعي والذاكرة مثل اللغة المنطوقة. قد لا نلاحظ عند تحليل الرقص – كما هو الحال في اللغة المنطوقة والمكتوبة – العمليات والبنى الثقافية الكامنة خلف الحركات المتنوعة، بل قد نلاحظ فقط مجرد مظاهر قشرية خارجية. إن الرقص عادة ما يجمع عناصره التي تشبه اللغة بطريقة تماثل الشعر في كثير من الأحيان، مع صوره الإيحائية وإيقاعاته ومعانيه المتعددة في شكل منظم. (Hanna, L. Judith 2010:224 )
ونظرا لأن الرمز يكثف طائفة من المضامين الفعالة في إطار نسق المعنى، فإنه يحمل شحنة قوية من التأثير، وربما هذا هو السبب الذي جعل الرقص يشغل مكانة بارزة لفترات طويلة في النسق الديني والتعبير عن الهوية الإثنية والنوع والتدرج الطبقي، والنشاط الاجتماعي والاقتصادي. قد تؤثر دلالات الرقص في عملية التنشئة الاجتماعية والتواصل الثقافي، وتدعم أنماط محددة من السلوك الاجتماعي. ((Hanna, L. Judith 2010:225
تكشف القراءة المتأنية لبعض أنماط الرقص المنتشرة بين شعوب العالم عن تداخل الرقص في كافة مناشط الحياة، فثمة رقصات محددة تؤشر على تغير الوضع الاجتماعي للأفراد، كالانتقال من مرحلة الطفولة إلى البلوغ، والدخول في زمرة المحاربين، ورقصات مرتبطة بإتمام الزواج، وإجراء الختان، كما تنتشر رقصات العمل في ثقافات عديدة، وهي رقصات تعكس قيمة العمل وترمز لمكانة الفلاحين والعمال والمهنيين، فتحكي بعض الرقصات في اليابان ومدغشقر خطوات زراعة الأرز وحصاده، وهناك رقصة (الخياطين) في البرتغال، ورقصة (القصابين) في ألمانيا، ورقصة (صانع الأحذية) في انجلترا. ويؤدي المحاربون في القبائل الإفريقية رقصات الحرب استعدادا للمعركة أو احتفالا بالحرب، ففي قبائل الشيلوك على النيل الأبيض تنتشر رقصة السيف والعصا، وهي رقصة جماعية يُستخدم فيها السيف والدرع والحربة والقوس والسهم، وتسهم في تقوية الروابط بين أفراد القبيلة، ويستعرض فيها الراقصون مهاراتهم في القتال، وجـَلَدهم وقوتهم، ويتم من خلالها اختيار أشد المحاربين بسالة لقيادة الجيش. (عبد الحميد يونس 1982: 270)
يطرح بيير بورديو في هذا السياق فكرة لافتة، إذ يرى أن كل المنتجات الثقافية – بما فيها الرقص – هي محصلة لعلاقات تاريخية مرتبطة ببناء القوة، وامتلاك شكل ما من أشكال رأس المال (الاجتماعي أو الثقافي أو الرمزي أو الجسدي) وهي – أي الفنون – منطقة تعكس الصراع والتمايز الاجتماعي بين الطبقات المختلفة. إن مجال الرقص Field of Dance– حسب مفهوم بورديو – هو نسق يُظهر من خلاله الأفراد من طبقات اجتماعية محددة بشكل واعٍ أو غير واعٍ امتلاكهم وهيمنتهم على أرصدة مميزة ومتنوعة من رأس المال بصوره المتنوعة. (Tsitsou, Lito 2014: 66 – 67)
وثمة رؤية أخرى تتعلق بـ (نسوية الرقص) قدمتها (آنجيلا ماك روبي) Angela McRobbie حيث أوضحت أن الرقص يمثل عنصرًا خصبًا ومهمًا من عناصر الثقافة الفرعية للشباب في العصر الحديث، وأضحى جزءًا أساسيًا من ثقافة الشابات على وجه الخصوص، وتلفت ماك روبي الانتباه إلى أن إهمال الدراسات الثقافية له يمكن اعتباره عَرَضا من أعراض الإهمال العام للمشاركة النسوية في الثقافة الفرعية، ولذلك ترى أن الرقص قد يمثل توسيعا لثقافة الحركة النسوية الخاصة. (أندرو إدجار وبيتر سيدجويك 2009: 264)
وقد ركزت معظم الدراسات المعنية بالرقص على النص (ويعني هنا الحركة) وعلى السياق الاجتماعي والثقافي. ومع ذلك فإن تناول العلاقة المتداخلة بين العاملين (الحركة والسياق الاجتماعي الثقافي) يوفر فهما أكمل لتلك الظاهرة الإنسانية من حيث بنيتها ومضمونها الفكري وديناميكيتها. يتجلى مثل هذا الفهم المتكامل للرقص على سبيل المثال لدى قبائل Ubakala Igbo في نيجيريا، حيث تعكس أنماط الحركات الراقصة تباين الأدوار الاجتماعية وفقا للسن والنوع. فالشباب من الجنسين لديهم رقصات متماثلة نسبيًا، كما أن لكبار السن من الرجال والنساء رقصات متشابهة أيضًا. ولكن عندما يكون النوعان متماثلين نسبيًا في العمر، ويختلفان بشكل ملحوظ في الأدوار الاجتماعية والبيولوجية، تتباين أنماط الرقص، فعلى اعتبار أن النساء واهبات للحياة Life Givers (أمهات) والرجال حماة لهذه الحياة Life Takers (محاربين) تتباين حركات الرقص بينهما: ترقص النساء في دوائر منظمة، مع حركات بطيئة و لطيفة وجهد خفيف، بينما يرقص الرجال في صفوف قوية، مع حركات سريعة وحادة، وجهد مكثف. (Hanna, L. Judith 2010: 222)
ويميل الأنثروبولوجيون المعاصرون إلى النظر إلى الرقص بوصفه وسيلة يتم من خلالها التعبير والاختلاف والتفاوض حول العديد من القضايا والأيدلوجيات المتعلقة بالشخص والنوع والجيل والطبقة الاجتماعية والبنية الإثنية. إن الرقص هو جانب حميمي ومؤسس للهوية الثقافية، وهو – كاللغة – بمثابة نافذة للشخص لرؤية العالم. إن الصور الجمالية – كالرقص – قد تجسد القلق الإنساني والطموحات والآمال والآلام والقيم الروحية. (Hanna, L. Judith 2010: 224)
فالرقصات الصوفية على سبيل المثال – وفق ما يرى ممارسوها ومنظروها – ليست مجرد حركات منتظمة أو عشوائية نتيجة الطرب والتأثر بموسيقى أو إيقاع موسيقي معين، بل هي: ” ذاكرة النفس المضيئة ” المرتبطة بفاعلية الكائن الأسمى، وهي تؤكد على تلاحم وتفاعل كل المعاني المؤكدة لإنسانية الإنسان ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً … الرقص الصوفي هو محاولة لحماية الجسد وتحصينه وتطهيره من كل ماهو مادي يغلف النفس ويحجب آفاقها” (إياد محمد حسين وعامر محمد حسين 2013: 75)
من جانب آخر ينظر المهتمون بأنثروبولوجيا الجسد إلى الرقص بوصفه استكشافًا جوهريا للجسد، وللأعراف المرعية التي تحكم هيئته وحركته وقوته في الثقافة المحلية. فثمة رقصة معروفة لدى الهنود الأمريكيين يلجأ فيها الراقصون إلى تعذيب الجسد كوسيلة لطرد الروح الشريرة منه، فيطؤون بأقدامهم الجمرات الملتهبة، ويطعنون أجسادهم بالسيوف لتعذيب النفس وتطهير الروح. (عبد الحميد يونس 1982: 269)
كما أن الرقص يجسد في ذات الوقت تعبير المجتمع عن هويته وقيمه. وتعبيرًا بالتالي عن مقاومته الناعمة للضغوط الخارجية لجرح هويته. (أندرو إدجار وبيتر سيدجويك 2009: 264) إن الرقص باعتباره مظهرًا من مظاهر الثقافة المحلية، ومؤشرًا على هوية الجماعة يمثل تحديًا ثقافيًا لضغوط الحداثة والعولمة التي تدمر بلا هوادة المحلي لصالح الكوني، وتمحو الخصوصيات الثقافية لصالح قيم حداثية رأسمالية متوحشة، وتجرد الواقع من مضامينه الإنسانية والأخلاقية.
والحقيقة أن المضامين الاجتماعية والأخلاقية للرقص تعكس عمق التجربة الإنسانية، وكثافة عطاء الجسد الإنساني، إن الرقص – كما بينا من خلال هذا المقال – يمثل ممارسة ثقافية ونشاطًا اجتماعيًا وبناءً رمزيًا يحدد هوية الفرد والمجتمع، ويؤدي وظائف اجتماعية وجمالية ووجدانية – ظاهرة وكامنة – تعكس بنية المجتمع وموروثه التاريخي والحضاري.
د.حسني إبراهيم عبد العظيم
المراجع:
أندرو إدجار وبيتر سيدجويك (2009) موسوعة النظرية الثقافية: المفاهيم والمصطلحات الأساسية، ترجمة: هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة، القاهرة.
إياد محمد حسين وعامر محمد حسين (2013) الرقص الصوفي ورمزية الحركات الراقصة: ” المولوية أنموذجًا” مجلة مركز بابل للدراسات الإنسانية، المجلد الرابع، العدد الثالث.
شارلوت سيمور شميث (2005) موسوعة علم الإنسان: المفاهيم والمصطلحات الأنثروبولوجية، ترجمة مجموعة من علماء الاجتماع بإشراف د. محمد الجوهري، القاهرة.
عبد الحميد يونس (1981) معجم الفولكلور، مع مسرد إنجليزي عربي،القاهرة.
Adra, Najwa (1978) Royce: The Anthropology of Dance, Book Review, Studies in Visual Communication, Vol. 5, No. 1.
Blacking, John (2018) Movement and Meaning: Dance in Social Anthropological Perspective, The Journal of the Society for Dance Research, Vol. 1, No. 1.
Hanna, L. Judith (2010) Dance, in Barnard, A. and Spencer, J., eds. The Routledge Encyclopedia of Social and Cultural Anthropology, Routledge, London and New York.
Seeger, Antony (1994) Music and Dance, in Engold, Tim (ed.) Companion Encyclopedia of Anthropology, Routledge, London and New York.
Tsitsou, Lito (2014) Dance, class and the body: a Bourdieusian examination of training trajectories into ballet and contemporary dance, The Scottish Journal of Performance, Volume 1, Issue 2.
*نشر البحث أولا على صفحة معنى
0 تعليق