في سياق الجهود الإسرائيلية الحثيثة لسحق المشروع النووي العراقي، تنبهت خلية “العهد الجديد” المتخصصة بجمع المعلومات عن المشروع إلى وصول أعداد من المختصين العراقيين العاملين في هيئة الطاقة النووية العراقية إلى فرنسا لمناقشة تفاصيل المشروع مع الجانب الفرنسي ونقل المشروع إلى مرحلة التنفيذ
في منتصف عام 1977، تمكنت الخلية من اختراق عدد من الموفدين العراقيين إلى فرنسا، وحصلت على معلومات منهم بأن المشروع في التويثة بدأ يتبلور ويدخل مراحل التنفيذ. بل إن الخيلة حصلت على مخططات المشروع من مهندس مختص عراقي وفد إلى فرنسا في تلك الفترة، وكشفت المخططات أن أعمال الحفر جارية عموديا في الأرض، ما يؤيد أنهم يهيئون الفرن النووي العميق في مجمع التويثة.
تلك المخططات، خدمت خلية “العهد الجديد” بشكل كبير جداً في منتصف عام 1977، وثبت فيما بعد من خلال عملية أوبرا أنّ المعلومات كانت دقيقة وحقيقة جداً.
ونجحت الخلية الإسرائيلية بوضع مخطط تفصيلي كشف عن كل عناصر المشروع العراقي، من خبراء عراقيين وعرب وفرنسيين، وحصلت الخلية على أسمائهم وعناوينهم ووظائفهم بشكل مفصل. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن جهود خلية المرحلة الجديدة، كانت سرية في داخل إسرائيل نفسها، ولم تطّلع عليها أغلب الدوائر الأمنية الإسرائيلية حتى اقتراب موعد تنفيذ عملية أوبرا. حجم المعلومات التي جمعتها الخلية أنتج كراساً صغيراً ببضع صفحات من المعلومات شديدة التركيز، متنوعة المصادر، وكان على الاستخبارات العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلي تفكيكها بما يخدم كل الوكالات، كلاً حسب اختصاصه.
ورغم أن الجهد الأكبر وقع على الموساد وعلى خلية “العهد الجديد” التي قادها ناحوم أدموني، فقد كان لوحدة الاستخبارات العسكرية 8200 الميدانية المتخصصة في استخبارات المخابرة دور حاسم في التقاط وتثبيت المعلومات التكميلية عن الغارة.
(اوصي بقراءة هذه الإشارة في سياق مقالنا السابق عن عملية اختراق الكابل المحوري، واستراق المكالمات القيادية والاستخبارية الجوية لمناطق العراق التي مر ذكرها على الطريق العام بين القاعدة الجوية في الحبانية غرب العراق وبين قاعدة H3 في اقصى غرب العراق بصحراء الأنبار).
ومنذ مطلع عام 1977، تأسس تعاون متخصص بملف أوزيراك، بشكل تحالف بين الوحدة 8200 وبين القسم التقني من مديرية استخبارات جيش الدفاع الاسرائيلي. وكان اهتمام هذا الجهد الأكبر منصبا على التقاط ومفاتيح تمكّن وحدة استخبارات سلاح الإشارة (المخابرة) المكلفة بالواجب من الدخول على البرقيات والرسائل الخاصة بمشروع اوزيراك، وانتقائها من بين كميات هائلة من السابلة الجوية والورقية الدولية التي كانت تتناقل عبر العالم.( نحن نتكلم عن عصر سبق العصر الرقمي، وكانت أهم وسائل الاتصال آنذاك تتم عبر أجهزة فاكسميل بنسخها البدائية لكن الكفؤة في الكتمان والمحافظة على السرية وسريعة في ايصال الرسالة بقياسات ذاك العصر).
هذا الجهد العملاق، أنتج قاموساً ضمّ أهم الكلمات المفتاحية التي تمكن المختصين من تعقب البريد الخاص بمشروع أوزيراك، من خلال فرز الكلمات ذات الدلالة المتصلة بالمشروع، ومنها مثلاً “نووي”، أو “ذري”، وهي ما يعرف اليوم بالكلمات المفتاحية في النشر الالكتروني، وتبويبها بسرعة.
وشاعت آنذاك “الطابعات التلفزيونية أحادية الإرسال” والمعروفة في العالم العربي بكلمة “تلكس” (العاملة على نظام دوبلكس) teletypewriters التي حلت محل البرقيات، وقبل عصر الفاكس ميل. هذه الأجهزة مكّنت إلى حد كبير خلية المرحلة الجديدة والوحدة 8200 من تبويب وتصنيف المعلومات الراشحة لهم عبر شبكات التراسل الدولية.
في حينها، كان مسموحاً لكل شركة أن تحصل على رقم تلكس خاص بها للتراسل الدولي، ومن الناحية الاستخبارية كان هذا ايجابياً لاعتبارين:
الأول، استخدام التراسل الدولي عبر تلكس تزايد بسرعة، ما يعني سيولة السابلة وهو مطلب الجميع.
ثانياً، بعض الكلمات المفتاحية في قاموس الخلية كان يمكن تحويلها إلى أرقام تلكس، ما زاد من كفاءة الجهاز.
لكنّ الوحدة 8200 ومعها القسم التقني نجحوا في تطوير تحالف عملي ناجح آخر، حيث طوروا قاموساً خاصاً بمفردات التراسل الدولي بين بغداد وباريس، ما ضخ على إسرائيل كمية ضخمة من المعلومات، (المؤلف: بضمنها معلومات عسكرية، ومعمارية تتعلق بملف الملاجئ النووية في بغداد وبعض مدن العراق، والذي اندحر في أول هجوم نفذته طائرات التحالف الدولي عام 1991، حيث كانت المعلومات دقيقة عنه لدرجة أنّ الصواريخ كانت تصيب أحيانا بعض الطوابق المتخصصة فحسب، وربما كان الاستثناء الوحيد بين هذه الملاجئ هو ملجأ القادسية الذي تسبب قصفه بكارثة ولأسباب شرحناها في موقع آخر من هذا الكتاب).
وتطلب هذا الجهد المفاجئ وحجم المعلومات الفرنسية المتدفقة على الفريق، تجنيد كل من يتكلمون الفرنسية في دوائر المخابرات داخل إسرائيل لتأمين ترجمة سريعة وفرز أسرع للمعلومات والمكالمات الهاتفية (التي كانت تتدفق عبر محطة التنصت على الكابل المحوري غرب العراق كما ذكرنا).
التعاضد الذي برز عبر الجهد المشترك بين المنظومات الاستخبارية كان العامل الحاسم في تحديد مراكز تجميع المعلومات المهمة، لرسم الأهداف الأهم.
واجهت تحليلات مديرية الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية موقفا اطلقوا عليه تسمية ” مشكلات الأغنياء”، الذي يفسر بسبب وفرة المعلومات. ومن خلال التقارير المرسلة، عرفوا مستوى تقدم العمل في المنشآت التي كانت قيد الإنشاء. وواحدة من أبرز الوقائع (الظريفة إن صح التعبير في هذا المقام) التي سجلت حينها كانت في مطلع عام 1980، أنّ ماكنة لحام معادن، قد تُركت في أحد مباني مفاعل تموز، ولا أحد من العاملين يعرف سبيل العثور عليها. فيما امتلك فريق المتابعة الاستخبارية الإسرائيلي من المعلومات، ما كان يمكّنه نظرياً من أرسال برقية إلى الفريق العراقي، يعلمه فيها عن مكان ماكنة اللحام، وطريق الوصول إليها!
كان واضحاً تماماً لكل أعضاء فريق المرحلة الجديدة أن جمع وتحليل المعلومات والمعطيات عن الجهد النووي العراقي لم تكن بحد ذاتها هدفا، لأنّ الهدف الحقيقي كان تطوير وسيلة “صنعت في إسرائيل” تحيّد التهديد النووي العراقي المحتمل. كما كان واضحاً على المستوى السياسي في إسرائيل، أنّ المكاسب التي تتوقعها كل من إيطاليا وفرنسا من دخولهما السوق العراقي، سوف تتجاوز الاعتبارات الأخلاقية للموضوع، كما أن الاحتجاجات الإسرائيلية لدى تلك الحكومات، ما كانت لتوقف مدد المساعدات النووية الفرنسية إلى العراق. على كل حال، فإنّ حملة الاحتجاجات على مستوى الحكومة الإسرائيلية قد فشلت حتى في التقييم الدبلوماسي، وهو ما برر أخلاقيا وعملياً عملية أوبرا التي تلت لاحقاً.
لابد من الإشارة هنا إلى أنّ التحولات السياسية التي جرت في الشرق الأوسط في أعوام 1979، 1980، 1981، غيّرت معادلات سياسية كثيرة وهزت ثوابت كان يحسبها البعض لا تتغير. فقد تحول شاه إيران المخلوع إلى مجرد نبيل إيراني منبوذ لا يريده أحد إرضاء للجمهورية الإسلامية الجديدة، وباتت ترسانته العسكرية موضع سؤال في كل الأوساط.
المد الإسلامي المتصاعد في أفغانستان بعنوان “جهاد”، باتت إيران فجأة بوابته الخلفية، ووجدت الحركات الإسلامية السنية في المنطقة الممتدة من ماليزيا وإندونيسيا إلى سبته ومليلة في المغرب نفسها تعتمد من حيث لا تدري على أسلحة مهربة من مخازن السلاح الإيرانية التي وضع الحرس الثوري اليد عليها عند قيام الثورة عام 1979. لكن القصة اتخذت بعداً آخر في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أدركت إدارة الرئيس رونالد ريغان التي خلفت الإدارة الأمريكية الأضعف في القرن العشرين (الرئيس جيمي كارتر) أن مبيعات الأسلحة الاستراتيجية إلى إيران باتت أمراً من الماضي، ولم يعد استئنافها ممكناً نظراً لتوتر العلاقات بين البلدين، ولأنّ حكومة خميني لا تخفي أنها تريد تصدير ثورتها الإسلامية بكل الوسائل إلى العالم، وبالتالي فإنّ أي صواريخ وطائرات أمريكية ستعزز وتسارع عمليات التصدير تلك.
وهكذا قررت الإدارة الأمريكية تسليم إسرائيل صفقة طائرات F-16 المتطورة التي كان مقررا تسليمها إلى إيران، ووصلت الطائرات في وقت دقيق حقاً، لتعزز إرادة الإدارة الإسرائيلية في تنفيذ ضربة قاضية على المفاعل النووي العراقي.
ولو استعاد المراقب المشهد، لوجد أنّ وصول المفاعل أوزيراك إلى العراق في توقيته المقرر عام 1979 كان سيغير معادلات كثيرة. لكنّ تدمير أجزائه في ميناء طولون، وهروب الكادر الفرنسي من التويثة بسبب التهديدات، وقيام الحرب العراقية الإيرانية، وأزمة الرهائن في السفارة الامريكية بطهران كلها ساهمت في التأخير، لتحسم صدفة التطورات اتجاه بوصلة القرار الأمريكي، وتسهم بشكل قد يكون غير محسوب في وضع توقيت غير منتظر للهجوم.
ولا أحد يمكنه أن يتنبأ بشكل المنطقة وخرائطها لو امتلك عراق صدام حسين سلاحاً نووياً خلال حربه مع إيران، وبعدها خلال غزوه للكويت.
*فصل من كتاب اوبرا اوزيراك المنشور عام 2018 في القاهرة وبغداد
0 تعليق