حين دخل الجيش العراقي مدينة قصر شيرين، بوغت سكان المدينة الإيرانية الحدودية القريبة من خانقين بأنّ الجيش دون قتال كثير بات يتحرك بينهم، فتدفقوا يغادرون المدينة باتجاه مدن إيرانية أخرى في الشرق والشمال، وكان منظر أرتال السيارات يثير شجناً في النفوس.
دخلتُ المدينة بعد ساعات من احتلالها، كانت تقلني سيارة عسكرية روسية من نوع واز، ومعي جندي سائق، وجندي مخابر. جعلت نهر الوند دليلاً لسيرنا في المدينة الصغيرة، بحيث أجعله دائما على يميني كي لا نفقد اتجاهنا.
إنّها بدايات خريف جديد، وقد ترطب الجو بلمسة باردة خاصة في صباحات شهر أيلول الذي فجع به أهل المدينة.
وغادرت المدينة على عجل بعد أن شربت قنينة كولا إيرانية اشتريتها من دكان ما زال مفتوحاً، ودفعت ثمنها دراهم عراقية!
في الأيام التي تلت، خلت المدينة من كل ساكنيها تقريباً، وباتت قصر شيرين الكردية الحدودية التي اكتسبت اسمها من اسم القصر الذي بناه الشاه خسرو برويز لزوجته المسيحية الكردية شيرين، مدينة أشباح تضم بعض الوحدات الإدارية التابعة لقطعات الفرقتين الثامنة والرابعة المنفتحتين في حوضي سربل زهاب (سرپل ذهاب باللغة الفارسية)، وسومار . وبقي في المدينة رجل وامرأة يعيشان لوحدهما في بيت قريب على حافة نهر الوند، في امتداد المدينة الجنوبي على الطريق المؤدي لمدينة كيلان غرب. كانا يتعيشان على صدقات القطعات، ولم يعرف أحد لماذا لم يغادر العجوزان المدينة مع من رحل من سكانها.
عدت من إحدى اجازاتي الدورية مبكراً، والفاصلة الزمنية بين قصر شيرين وبين بيتي في حي البلديات بالعاصمة العراقية لا تتجاوز ساعتين، وهكذا دخلت قصر شيرين قبل غروب الشمس، ولفت نظري أن بعض الجنود يتحلقون حول ما يشبه الدكان، وتقف إلى جانبه شاحنة عسكرية من نوع ايفا محملة بالأرزاق والمشتريات، وكان أحد الجنود يتولى تفريغ بعض من حمولتها في الدكان المتداعي الصغير العجيب الذي ظهر فجأة وسط القطعات!
كنا 3 ضباط عائدين من الاجازة، وتقلنا سيارة واز أجهزة تابعة للفصيل الكيماوي للواء المشاة 23 جبلي. اقترحت على زملائي أن نقف عند هذا الدكان العجيب لنشرب شيئاً، بانتظار غياب الشمس، لننطلق من المدينة باتجاه موقع لوائنا في حوض سربل زهاب عند حلول الظلام تفادياً للرصد المعادي الذي قد يوجه نيران مدفعيته لنا لو شاهدنا.
حال أن توقفنا قرب “الدكان” الغريب، انسحب الجنود الذين كانوا واقفين قربه، وتوقف الجندي الذي كان يفرغ المشتريات من الشاحنة عن عمله، واقترب منّا متسائلاً عن سبب وقوفنا؟
قلت له مستفسراً: هل هذا حانوت عسكري، أم دكان مدني؟
أجابني موضحاً أنه حانوت مؤقت تابع للتوجيه السياسي لفرقة المشاة الجبلية الرابعة ويبيع مشتريات سريعة، تغلب عليها المواد الجافة، سكر، شاي، خبز، بسكويت، جبس، بطاريات بمختلف الحجوم، سجائر، علب ثقاب، ومشروبات غازية.
“وهل يوجد من يشتري هنا؟”
أجاب الجندي بأنّ العسكر الملتحقين إلى وحداتهم، أو النازلين منها، يقفون للتبضع أحياناً.
كان مذياع الدكان يبث برامج إذاعة بغداد.
اشترينا ثلاثة علب كولا، بقينا نتجرعها بهدوء، فيما يتناهى لأسماعنا صوت جريان نهر الوند المنخفض عن يمين الشارع. تخطيت عابراً باتجاه النهر، فرأيت شيخاً وامرأة عجوز يجلسان على حافة النهر فوق صندوقين من البلاستك على الأرض وهما يتحدثان بلغة بدت مألوفة لسمعي. تأملتهما لدقائق وقد هالتني فكرة وجود مدنين إيرانيين بعد مرور عام على احتلال العراق لهذه المناطق! ثم انحدرت من الشارع باتجاههما، واقتربت منهما وألقيت عليهما السلام باللغة العربية، لأقف إلى جانبهما محاولاً أن أجد منفذاً للحديث معهما، فهما كما لحظت يجهلان اللغة العربية، وأنا كنت لا أتكلم الفارسية ولا الكردية، وبقينا لهنيهة نتكلم بالإشارات. وسرعان ما ايقنت أنّ حوار الطرشان هذا غير مجدٍ، فكلنا لا نتقن لغة الإشارة والايماء، لذا سألت الرجل إن كان يتقن الإنكليزية، فارتسمت على شفتيه بسمة، وأجابني بإنكليزية متعثرة لكنها مفهومة أنّه يستطيع محاورتي بهذه اللغة، وهكذا انطلقت أحدثه متجنباً استخدام لغة ذات مستوى عال، لأتيح له متابعة ما أقول:
-هل أنتم من سكان قصر شيرين، أم من القرى المحيطة بها؟
-نحن من سكان قصر شيرين، بل إن زوجتي ولدت في هذه المدينة!
-ولماذا لم تغادرا المدينة مع سكانها الذين هجروها؟
-نحن لا نملك سوى بيتنا في هذه المدينة، وكنتُ أبيع الطيور والدجاج، في بسطة وسط سوق المدينة، لكن ذهب كل شيء، وليس عندنا مكان نذهب إليه.
-ألا يوجد لكما أقارب يمكن أن تستقرون عندهم؟
-لدينا أقارب بعيدون عن هذا المكان…في مدينة عيلام خلف تلك السلاسل العظيمة، مشيراً باتجاه الجنوب الغربي حيث تتعالى في الأفق قمم رمادية بعيدة تكللها الثلوج. لكننا لا نملك مالاً يوصلنا إليهم، والآن بوجود الحرب، صار العبور لهم مستحيلاً، الطرق كما تعلم مغلقة!
-ولكن كيف تعيشون هنا، ماذا تأكلون، ماذا تلبسون، من أين تأتون بالوقود، ماذا لو مرض أحدكما، كيف تذهبون إلى الطبيب؟
تحدثت العجوز الجالسة وقد كساها الحزن وعلت ملابسها الزرقاء أوساخ واتربة، وقالت شيئاً باللغة الكردية وهي تؤشر بيدها على كتفها دلالة على الرتبة العسكرية، ولحظت حين رفعت يدها أنها ترتدي صليباً فضياً يتدلى على صدرها الهرم. لكنني لم أفهم ما قالت، فعدت أسأل الشيخ عما قالته زوجته، فأوضح لي أنهما قد تحدثا إلى كبير العساكر في المنطقة حول صعوبة وضعهما، وطلبا منه المساعدة، فعرض عليهما أن بوسع السلطات نقلهما إلى داخل العراق ليقيما في مخيمات اللاجئين الإيرانيين الذي تدفقوا من الشريط الحدودي مع اندلاع الحرب، لكنهما رفضا العرض، وطلبا منه أن يمدهما بالعون ليبقيا في بيتهما. وهكذا فإنّ الجنرال (وأحسب أنّه يقصد قائد الفرقة الثامنة أو قائد الفرقة الرابعة اللتان تستقر قدماتهما الإدارية ووحدات الميدان الطبية التابعة لهما في قصر شيرين) قد أصدر الأمر إلى حانوت التشكيل أن يمدهما بالمواد الغذائية والمحروقات ومياه الشرب مجاناً وبانتظام، كما كلف وحدة الميدان الطبية الرابعة المستقرة في قصر شيرين بأن تهتم باحتياجاتهما الطبية، وتوفر لهما الدواء والعلاج باستمرار. وبات الشيخ وزوجته الإيرانيان يعيشان على أرزاق الجيش العراقي ومصروفاته ومصادره.
-هل لي أن أسألك إن كنتم مسيحيين؟
-نعم، نحن مسيحيون من طائفة اسمها الأرمن، هل تعرف الأرمن؟
-بالطبع أعرف الأرمن، إنّهم مهاجرون من أرمينيا، في روسيا، يعني أنتم بالأصل لستم إيرانيين، لستم فرساً؟
ضحك الرجل وانهمك يشرح لزوجته باهتمام فحوى ما دار بيني وبينه، ثم قال: نحن ولدنا في إيران، ولكن آباءنا وأجدادنا نزحوا منذ سنوات طويلة من أرمينيا، يعني سنة 1910! نحن إيرانيون، لكننا بالتأكيد لسنا فرساً، إيران مثل قارة كبيرة، تضم أجناسا وأقواما وأديانا كثيرة، يوجد فيها أرمن ويسمونهم “أراملة”، ويهود ويسمونهم “موسوي”، وزرادشتية ويسمونهم “زردوشت” ومسلمون، وأحمدية، واسماعيلية، وديانات أخرى وأقوام كثر لا أعرفها.
-أين تسكنون الآن؟
-أشار الرجل إلى أعلى الطريق، باتجاه الدكان الصغير، وقال: لصق الدكان “بغل مغازة”، ونأخذ من الجيش كل شيء، نفط الإضاءة وقود التدفئة، الطحين والرز والشاي والصابون والسجائر، والجنود كلهم يساعدونا.
ودعتهما وغادرت بعد أن ساد الظلام.
حتى انسحاب الجيش العراقي للحدود الدولية، واظبت على زيارتهما في بيتهما أثناء مروري بقصر شيرين، وكنت أحمل لهما ملابس، ومواد غذائية وصوابين. ثم التقطت لهما صوراً احتفظت بها في مجموعتي، لكن الهجرات التي ما برحت تصيب العراقيين كلعنة جرباء خالدة، أضاعت صورهما مع كثير من مقتنياتي الشخصية.
في 20 حزيران/ يونيو 1982، صدرت الأوامر إلى الجيش العراقي بالانسحاب إلى الحدود الدولية، وقبل أن تصدر تلك الأوامر، تولت سرايا هندسة الميدان العراقية تدمير كل مباني مدينة قصر شيرين، والاستثناء الوحيد من أمر التدمير صدر على بيت العجوزين والدكان الملاصق له.
وآخر مرة شاهدت فيها العجوزين، كانت في شهر نيسان 1982، قبل أن يتحرك لواؤنا إلى المحمرة، واوصلت لهما بعض الملابس والبطانيات والبطاريات الجافة لجهاز الراديو العتيق الذي يملكانه، ولمصباحين يدويين (تورجات) كانا يستخدمانها للإنارة.
كانت المدينة قد فقدت ملامحها، حيث دُمرت كل المباني فيها، بل نُقلت الأنقاض برمتها إلى داخل العراق، و(حسبما قيل) عُبدت بها منطقة ساحة الاحتفالات الكبرى في بغداد، تحت طبقات الأسفلت الأنيقة التي كست الساحة أمام المدرج الرئاسي وتحت السيفين الكبيرين المشرعين فوق ألف خوذة من خوذ الجنود الإيرانيين استولى عليها الجيش العراقي خلال المعارك. وهكذا فإنّ مرور الاستعراضات العسكرية في ساحة الاحتفالات في المستقبل سيتم دائماً فوق تراب إيراني ومعدات عسكرية تخلّفت من جيشهم المهزوم.
المبنى الوحيد الذي بقي في المدينة منتصباً فوق تلة الإذاعة هو بقایا قصر خسرو برويز التي بقيت منتصبة شاهدة على تاريخ تولى.
ملهم الملائكة / فصل سقط من كتاب حين مشينا للحرب
0 تعليق