تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مع منيرة السفيرة*

ديسمبر 17, 2022 | 0 تعليقات

منيرة الناحلة الهامدة المكوّمة على سرير نظيف مرتب في دار ضيافة أنيق بغرب ألمانيا، هي كائن حي عراقي ينتمي إلى عصور سحيقة. وقد وصلتني بالبريد رسالة تدعوني للتعرف عليها من خلال زيارة الدار الذي يبعد عن بيتي كيلومتر واحد، على طريق دورتي الرياضية اليومية بالدراجة.

 اسمها منيرة فايق مطنش، والوثيقة التي قدمتها لي إدارة بيت المسنين”…” في مدينة بون، تكشف عن حقائق تجعل وجود هذا الكائن الأسطوري أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، وتثير أسئلة تبقى محلقة في فضاء الشكوك. الوثيقة هي رسالة باللغة الألمانية صادرة عن وزارة الخارجية العراقية موجهة عبر سفارة العراق في ألمانيا إلى وزارة خارجية جمهورية ألمانية الغربية، وأنشر هنا نص ترجمة الرسالة لتكون مدخلاً للقصة المذهلة.

وزارة الخارجية العراقية

مكتب الملحقين

22 كانون الأول 1965

         م / إيواء مواطنة عراقية في دار المسنين “…” بالعاصمة بون

        تهديكم وزارة الخارجية العراقية التحيات وترفق لكم تأييد موافقة إيواء السيدة منيرة فايق مطنش العراقية المولودة عام 1850 بمدينة بعقوبة بلواء ديالى في الجمهورية العراقية. وقد صدرت الموافقة على استقبالها عن دار (…) لإيواء المسنين في عاصمتكم بون، وبموجب التأييد المرفق طي هذه الرسالة، تتعهد سفارة الجمهورية العراقية في بلدكم بدفع نفقات إيواء السيدة مطنش شهرياً. وتتولى القنصلية العراقية في مدينة فرانكفورت تنظيم ذلك، وتحويل مبلغ 600 مارك ألماني اتحادي شهرياً إلى الدار المشار إليها في العنوان المذكور في كتاب التأييد لتغطية نفقات ايوائها.

يود هذا الجانب اعلامكم أنّ السيدة منيرة فايق مطنش تعتبر جزءاً من التاريخ الحي لبلدنا، لاسيما أنّ عمرها هو 115 سنة، حسب المعلومات المتيسرة عندنا، ونحن نحرص انطلاقاً من هذا الاعتبار على إدامة العناية بها لتكون شاهداً معمّراً يروي للأجيال مقطعاً من تاريخنا. وربما تكون السيدة منيرة أكبر معمرة في عالمنا اليوم.

يرجى توجيه مكاتباتكم واستشاراتكم بشأن السيدة المشار إليها إلى سفارتنا في عاصمتكم.

تقبلوا وافر الاحترام والتقدير

                                                                        عبد الرحمن البزاز

                                                              وزير خارجية الجمهورية العراقية

                                                                    22 كانون الأول 1965

مفاجأة كأنها صاعقة! السيدة الصامتة الراقدة أمامي اليوم 11 آذار 2020 في مدينة بون بألمانيا مولودة عام 1850!

 يعني هذا أنّ عمرها اليوم 170 سنة…إنها معجزة بيولوجية لا مثيل لها، ولا أعرف مدى اهتمام العلماء والباحثين باستقصاء أحوالها، فهي تنتمي إلى جيل منقرض لم يعد يربطنا به سوى بضعة آثار. هل يعقل أن يعيش انسانٌ لهذا القدر من السنين؟ إنها تعيش هنا في ألمانيا منذ سبع وخمسين سنة، ولا ريب أنّ وضعها يثير فضول العلماء.

 دار المسنين التي طلبتني محتارة في عدة أشياء بشأن “منيرة الأسطورة”، وهكذا سأسميها منذ الآن، فهي منجز تاريخي لا نظير له في كل العصور، وإذا كان ثمة وصف يصدق عليها فهو وصف “عمر نوح” الذي يفسره العلماء بأنه مجرد 200 عام ولكن بحسابات الأقدمين غير الدقيقة. مشكلات منيرة في دار المسنين هي:

*في ضوء جائحة كورونا المرعبة، تفكر إدارة وهيئة أمناء دار المسنين “…” بحل جذري لقضية النزيلة المعمّرة الأسطورية.

 *تمويل اقامتها قد توقف منذ غزو العراق للكويت سيء الصيت عام 1990، لكنّ تبرعات من عراقيين أثرياء ومن بعض الجمعيات في أوروبا، وبعض المهتمين الغربيين بأبحاث طول العمر ما زالت تفد إلى الدار أحياناً، والمطلوب اليوم مصدر تمويل منتظم يغطي نفقاتها.

*حاجة الدار إلى شخص يتقن اللغة العربية باللهجة العراقية ليفهم ما تقوله أحياناً، حيث تنطلق مغردة وحدها في حوارات مع أشباح لا يراها الآخرون.

*معاناة العاملين في الدار من موجات مغناطيسية تنبعث من غرفتها ليلاً وتسبب اضطرابات غريبة عجيبة في أروقة وغرف البناية.

*يؤكد بعض العاملين أنّ هالة نور وردية تحيط بها في بعض الليالي، وهذه الهالة تتزامن دائماً مع نوع من الغناء تردده السيدة في أوقات معينة.

استوقفتني مطالبهم وهي تثير حيرتي ودهشتي في وقت واحد، فطلبت منهم أن يراجعوا أرشيفهم عسى أن يجدوا فيه معلومات قد تفيدنا. لكنّهم لم يعثروا سوى على بعض المراسلات مع السفارة العراقية على مدى العقود الست التي عاشتها في كنفهم، وهي مكاتبات تتعلق بتمويل اقامتها. كما عثروا على رسائل من الدار ومن منظمات مجتمع مدني ألمانية تخاطب السفارة العراقية وتطالبها بوثائق تكشف معلومات عنها. فعلى سبيل المثال لا توجد وثيقة تثبت أنها مولودة فعلا عام 1850، والمعلومة الوارد ذكرها في رسالة وزارة الخارجية العراقية عام 1965 تبدو يتيمة تعوزها الأدلة.

وعدت أؤكد لهم أن العراق في عام 1850 لم يكن دولة، كما أن ألمانيا الاتحادية في ذلك التاريخ لم تكن دولة موحدة بل امارات وممالك متعايشة أو متحاربة، وقد توحدت بعد عقدين من هذا التاريخ بجهود فون بسمارك رئيس وزراء امبراطورية بروسيا في عهد الرايخ الألماني الثاني عام 1871. العراق أيضاً كان ولايات تابعة للسلطنة العثمانية، ولم يكن فيه مؤسسات ولا وزارات، بل تتولى سرايا الولاة الترك ودواوينهم إدارة البلاد بشكل بدائي، نحن نتكلم عن منتصف القرن التاسع عشر، ونحن اليوم في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين…إنها رحلة عبر 3 قرون!؟

ثم ابلغتهم أنّني قد أنجح في محاورتها فأحصل على بعض المعلومات عنها وعن حياتها، لكنّ هذا يتطلب ترتيبات إدارية عديدة، منها أني يجب أن أرتب زيارات للدار في توقيتات متباينة، وعادوا يؤكدون لي أنّ نشاطها السحري الغريب يجري في جوف الليل عادة، لذا لا بد أن أكون جاهزاً للحضور ليلاً، في توقيتات غير متوقعة مزعجة غالباً، تنتزعني من دفء الفراش وترسلني إلى بيت الأسطورة. وكتبنا معاً بروتوكول ينظم هذا، على الطريقة الألمانية، اذ تجري أغلب شؤون الحياة وفق بروتوكولات منظمة، ولا توجد مفاجأة غير محسوبة.

وجلست مع منيرة الأسطورة في غرفتها، لم يبق في وجهها أهداب ولا حواجب بل إنّ قوسين من الوشم الأزرق حلا محل حاجبيها منذ زمن غير معلوم، كما لم يبق من شعر رأسها سوى بضع شعيرات متفرقة، أهداب عينيها هي الأخرى قد تساقطت عبر القرون، وما عادت ترى سوى اشباح حتى لو ارتدت نظاراتها الطبية العديدة الموجودة إلى جانب سريرها. وهي لا تملك أسناناً، وتعيش منذ عقود متطاولة على الغذاء السائل، متغذية بوجبات الأطفال المائعة ومعا خلطات سيريلاك وكورن فليكس بالحليب أو بعصائر البرتقال والتفاح، علاوة على عصائر البطيخ والجزر والموز التي تزقّ في فمها. وهي بالطبع عاجزة عن تحريك يدها أو أي جزء من جسمها، لذا يقوم موظفو الرعاية بتغذيتها، وتحريكها بأنفسهم. أما حاجتها، فتقضيها في حفاظات الكبار، ويقمن الممرضات بتبديل الحفاظات، ويغسلن مخارج فضلاتها بأنفسهن. واكتشفت أنها لم تدخل الحمام منذ نحو 100 سنة، لكنّ الممرضات، يمررن مناشف رطبة على جسدها ورجليها وذراعيها، وعلى رأسها أيضا، ليحفظن الجلد نظيفاً بالحد الأدنى، وقد أبلغوني أن الجميع يخشون تحميمها خوفاً من تعريضها للبرد أو للاختناق. كما أنهم يرشون جسدها وملابسها بماء الكولونيا بشكل مستمر لتبقى رائحتها مقبولة. بشرتها عبارة عن جلد متقرن يقترب لونه من السمرة الرمادية الداكنة وهو ملتصق بالعظام دون لحم أو شحم أو عضلات تحته.

بقيت أتأملها وهي ممددة على السرير ساهمة تحوم في عالم غريب خارج عن عصرنا، يا ترى كيف تفكر، ماذا تتذكر، مع من تتحاور؟ ثم غادرت الدار بعد أن زودتهم بأرقام هواتفي، ليدعوني حال أن تبدأ هلوساتها وحواراتها الغامضة.

مرت أسابيع، ولا خبر منهم، وكنت أتوقع في كل لحظة أن ترحل منيرة فجأة عن عالمنا، فأعجز عن إقامة ارتباط مع القرن التاسع عشر من خلالها أو من خلال ما تبقى من ذاكرتها. ذات ليلة ، كنت في فراشي اقرأ كتاب السرير قبل النوم، حين رن هاتفي، وانتبهت إنه رقم هاتف دار المسنين، وحين اجبتهم تحدثت إليّ ممرضة رعاية خافرة وهي تلهث قائلة: “منيرة تتحدث بإفراط، وتقول كلمات واضحة، هذا غير أنّ هالتها الوردية تشع لدرجة أنها تنير غرفتها المظلمة، بل يتسرب نورها إلى الممر فيغمره بالنور! الا تأتي إلينا لترى حالها؟”

اجبتها بأني قادم فوراً، وغادرتُ سراعاً إلى دار المسنين. وحتى وصلت غرفة منيرة استغرق الأمر نحو نصف ساعة، وحين نظرت إليها فاتحاً باب غرفتها، لم أجد أثراً للهالة الوردية التي تحدثوا عنها، وسألت الممرضة عن الهالة، فأجابت هامسة: إنها تأتي وتذهب، وفي هذه اللحظات قد اختفت، ودعتني أن ألازم الغرفة، فقد تعود هالة منيرة لتشع بنورها الوردي. وجلست قريباً منها، فصرت اسمع همهماتها، واستطعت أن أميّز كلمات عراقية بين همهماتها، ولكنها لم تكن جملاً قط، بل كلمات فحسب:

مصطفى.. الحِب.. بالطارمة…أمّيه

وسارعت أخبر الممرضة أنها قد تكون عطشانة، لأنها تتحدث عن الماء وحِب الماء (وهي الثلاجة الفخارية التي كانت تبرد الماء في تلكم الأزمنة السحيقة). وجاءت لها الممرضة بجهاز حقن فموي، وضعت جانبه بين شفتيها المتراخية، وصارت تقطر الماء في فمها فيتسرب الى جوفها بهدوء، وسكتت منيرة عن الهمهمة وهي تتجرع الماء، ثم توقفت عن الشرب وعادت تهمهم، هذه المرة لم أفهم منها سوى كلمة “مصطفى”. بقيت جالساً إلى جوارها حتى الساعة ثالثاً فجراً، وهي تسكت ثم تعود تهمهم بكلمات من بينها: مفتاح، حوش، سلّة، حصران، وهمهمات أخرى غامضة، هي تتحدث إلى اشباح تنتمي لقرون مضت، وأنا أنصت لها محاولاً أن افتح شفرة ما تقول. أما الهالة الوردية، فلم تظهر قط. غادرت المكان بعد أن غفت الأسطورة.

خلال الأسابيع التالية، صرت أجمع فتات روايات وحكايا لأرقّع منها قصة الأسطورة، فعثرت على نزيل مسن في الدار، سبق أن كان عامل نظافة فيها قبل 40 عاماً، وقد صار يروي لي بلهجته المتعبة الهرمة بضعاً من ذكريات علقت في ذاكرته عنها، واستطعت من خلال كلماته ان أرجح وجود حفيد لها اسمه مصطفى، قد يكون هو آخر من كان معها، قبل أن تبعث بها الخارجية العراقية إلى ألمانيا عام 1967. لكنّ التواصل مع العراق بحثاً عن هذا التاريخ يبدو غير مجدٍ، فتاريخ البلد مضطرب يهتز بالفواجع والكوارث والانقلابات، وذاكرة الناس لا تخزّن وقائع بهذا القدم، وبتلك الندرة. وصار هانز، المنظف الذي عاصر منيرة على مدى 4 عقود، مصدري الوحيد لبناء قصتها، إلا أنّ الرجل قال لي ذات يوم بصوت هامس: “في الدار نسمع منذ عقود همساً بأن منيرة لن تموت، لأنها سفيرة عزرائيل في هذا المكان المنكوب، وسوف نموت نحن جميعاً وتبقى هي في هالتها الوردية وهمساتها مع اشباح الماضي والعالم الآخر”. ونظر الشيخ الهرم نحوي بعينين زجاجيتين خاليتين من أي معنى، وقال محذراً: “أنت نفسك شيخ عجوز، اقترابك من منيرة سيقرّبك من ملاك الموت، هل تريد أن تصبح صديقاً لعزرائيل؟”

كلماته باردة موحشة كأنها ناقوس بعيد يحذرني من الاقتراب من ماضٍ رمادي غريب، ولكنّ الفضول الصحفي شدني إلى الأسطورة. ومرت أشهر وسنوات، تكررت فيها زياراتي للدار، ولقاءاتي العقيمة مستمرة مع منيرة سفيرة عزرائيل المقيمة بمدينتنا! حتى حلت أعياد الميلاد لعام 2022، فأبردت إدارة دار المسنين “…” في بون لي رسالة تبلغني إنهاء بروتكول التعاون المعقود بيني وبينهم، وتشكرني وتعلمني أن هيئة الأمناء الدار قد قررت نقل النزيلة العراقية المعمرة منيرة فايق مطنش البالغة من العمر 172 سنة إلى دار المسنين “…” الواقعة في مدينة فرانكفورت، بناء على طلب القنصلية العراقية هناك والتي وعدت بدفع تكاليف نقلها واقامتها الجديدة. وبذلك فإن اقامتها عندهم، والتي امتدت من عام 1967 حتى اليوم، قد انتهت.

*هذه قصة من وحي الخيال، وأيّ تشابه في التفاصيل مع الواقع هو مجرد مصادفة.

بون/ شتاء 2022

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

أ. صباح علو / خبير السلامة اًولاً: تدابير السلامة التي يجب أن تتوفر في منزلك هي: طفاية حريق متعددة الأغراض (بودرة - ثاني أكسيد الكربون) ولابد من ملاحظة الآتي: -   وضعها في مكان بارز يعرفه جميع أفراد الأسرة وبشكل رأسي. -   وضعها في مكان لا يمكن الأطفال من العبث بها. -...

قراءة المزيد
السلامة المنزلية (الجزء 1)

السلامة المنزلية (الجزء 1)

سلسلة مقالات بقلم صباح رحومي السلامة هي العلم الذي يهتم بالحفاظ على سلامة الإنسان، وذلك بتوفير بيئات عمل وسكن آمنة خالية من مسببات الحوادث أو الإصابات أو الأمراض من خلال سن قوانين وإجراءات تحث على الحفاظ على الإنسان من خطر الإصابة والحفاظ على الممتلكات من خطر التلف...

قراءة المزيد
عوالم السينما الخفية

عوالم السينما الخفية

الكاتب والباحث محمد حسين صبيح كبة تمهيد:  هذه الوريقات هي محاولة لسبر أغوار عوالم لا نعرف كنهها بدقة عالية. السينما هي فن نستمتع به في أحايين وندرس عن طريقه أحايين أخرى وأشياء أخرى لكننا لا نعرف كنهه بالضبط والدقة. وهذا يعني انها قد تكون مثل الكهرباء الذي لا نعرف كنهه...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *