تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

بلا نوم لمدة ٣٦ ساعة

أبريل 14, 2023 | 0 تعليقات

عدت من إجازة مرضية التي استمرت شهرين إثر اصابتي بانزلاق فقرات نتيجة سقوط ملجأي فوقي، ليذهب كل ضباط السرية في إجازات ومأموريات ودورات، وبات علي أن أتولى العرض والتدريب الصباحي وخفارات السرية وغرفة الحركات، وبريد السرية والواجبات كافة، ولم يكف كل هذا فألقوا على عاتقي مسؤولية جديدة.

في اليوم الثاني لالتحاقي، توليت خفارة غرفة الحركات الليلية، ونحو الساعة الواحدة ليلاً، اتصل آمر الفوج الأول ليبلغ عن نشاطٍ هندسي معادٍ أمام حجابات الفوج، وكان علي أن أتصل بمراصد الاستخبارات والمدفعية ومفارز الرازيت المتقدمة وغيرها وأسألهم عما سجلوه، وتبين أنهم لم يرصدوا شيئا، فبقيت انتظر تطورات الموقف، لأضع هيئة ركن اللواء في الصورة، وإلا فلا داعي لإيقاظ الجميع إن كان الأمر يتعلق بشفل يعمل ضمن قطعات العدو.

وعاود آمر الفوج الاتصال بعد ساعة، وقال إنّ هناك شفلين يحفران أو يدفنان أو يطمران شيئا على بعد 500 متر من فصيل حجابنا المتقدم، وهو بحاجة إلى موقف اللواء من هذا الأمر. عند هذا التبليغ، كانت الساعة قد بلغت الثالثة والربع بعد منتصف الليل، وكان عليّ أن اتصرف مادام آمر الفوج يطالب بموقف، فقمت بإيقاظ مقدم اللواء، المقدم الركن مأمون وأبلغته هاتفياً بما جرى، فارتدى ملابسه وجاء إلى غرفة الحركات، وبعد أخذ ورد مع آمر الفوج الأول، ومع المراصد، قام بإيقاظ آمر اللواء العقيد غانم العزاوي، فجاء بكامل لباسه إلى غرفة الحركات، وتباحث مع آمر الفوج الأول، ثم اتصل برئيس أركان الفرقة، وأطلعه على الموقف، واستقر قرار الفرقة واللواء على توجيه ضربة مدفعية إلى الشفلين. ولكن قبل تنفيذ الضربة، اتصل مرصد الرازيت، وأبلغ عن انسحاب آليتين معاديتين إلى خارج الأرض الحرام. ولم تطلق المدفعية قذيفة واحدة.

عاد الجميع إلى نومهم، وبقيت في غرفة الحركات خافراً، ومع الفجر اتصل بي مرصد استخبارات اللواء، وأبلغ عن وجود تل صغير أمام فصيل حجاب الفوج الأول الأيمن. فأضفت الموضوع إلى الموقف، وابلغت قلم حركات اللواء بتوقيعه من مقدم اللواء وتنبيهه إلى الإضافة.

بعد دقائق، هاتفني مقدم اللواء، وسألني عن مزيد من التفاصيل، فأكدت له أن المعلومة جاءت من مرصد الاستخبارات المتقدم. بعد ربع ساعة، عاد مقدم اللواء إلى غرفة الحركات، وكانت الشمس قد بدأت تشرق، وما إن دخل حتى أوعز لي بالذهاب للاستراحة، لعدم وجود بديل لي، فكان عليه أن يتولى الخفارة الصباحية (من السابعة حتى الساعة الحادية عشرة صباحاً وقد تمتد حتى الثانية عشرة ليلاً في حل عدم وجود بديل يحل محله).

ذهبت استريح، وبعد أن غفوت نحو ساعة، رنّ هاتفي، فجاءني صوت المخابر على بدالتنا بأنّ آمر كتيبة مخابرة الفرقة يطلبني، نظرت إلى الساعة فوجدتها الثامنة والنصف صباحاً، كلمته بأعياء، فاعتذر لأنه يطلبني في هذا الوقت المبكر، ثم أخبرني أنه قد جرى تبديل شبكة اتصالات الفرقة وأنه قد أرسل نسخاً من الشبكات الجديدة مع الملازم مثنى، وطلب مني تغيير شبكة اتصالاتنا اللاسلكية بالوحدات، تحسباً من تطور في الموقف. أكدت له أني سأقوم بذلك، فعاد يصر على أجراء التغيير اليوم، وإرسال نسخ من الشبكات الجديدة هذا اليوم، والأفضل بيد مأمورهم الملازم مثنى.

أسقط في يدي، وعدته بتنفيذ الأمر مدركاً أنّ عليّ نسيان فكرة النوم، والمباشرة بالعمل فوراً، لأني ضابط المخابرة الوحيد في اللواء الآن. تغيير شبكات الاتصال اللاسلكية يتطلب جهداً يستغرق ما لا يقل عن 3 ساعات بلا انقطاع، وهكذا نهضت متعجلاً، وحلقت لحيتي، وارتديت ملابسي كاملة، ثم كلمت عريف الرعيل اللاسلكي، وطلبت منه إعداد شبكة اتصالات بديلة جديدة على أن لا يضع فيها ترددات جديدة، ريثما اتناول طعام الافطار، وأعود له لنعد معاً الشبكة كاملة.

تناولت افطاري متعجلا، ولحظت أن غرفة الحركات الملاصقة لبهو الضباط، فيها حركة غير عادية، وخمنت أن قضية الجهد الهندسي المعادي تتفاعل.

انجزت شبكة اتصالات لاسلكية جديدة للواء، وهذه وظيفة آمر الرعيل اللاسلكي الذي ذهب في دورة تطويرية بمدرسة المخابرة في بغداد. وفي حال عدم وجود آمر الرعيل اللاسلكي، يقوم بهذا الواجب عادة معاون آمر السرية وهو نقيب مخابرة، وتصادف أن معاون آمر السرية منتدب لمهمة “حزبية” في قاطع عمليات الأهوار المجاور لقاطع الفرقة الثامنة من جهة الشمال حول حقول نفط مجنون ومناطق الأهوار المنتشرة حولها.

في العادة، يجب أن ترسل الشبكات إلى الوحدات المعنية بيد ضابط، لكن وبما أني الوحيد الموجود، فقد أنتدبت نائب ضابط خلف عداي وهو أقدم نائب ضابط في الرعيل اللاسلكي، وسلمته الشبكات مرفقة بكتاب معنون إلى الوحدات المرتبطة بنا على شبكة اتصال عالية التردد جداً  VHF، وينص الكتاب على أنّ العمل على الشبكة الجديدة يبدأ في الساعة 10 صباح يوم غد، وأخرجت له سيارة الرعيل السلكي التي تحمل ورقة عمل دائمة تتيح لها التنقل دون انتظار أوامر مقر اللواء.

وحالما ذهب مأمورنا لإيصال الشبكات، وصل الملازم مثنى، مأمور كتيبة مخابرة الفرقة وهو يحمل شبكات الاتصال اللاسلكي للفرقة (على أجهزة HF عالية التردد بعيدة المدى). استلمت نسختنا منه، وأمضيت له كتاب استلام يعيده إلى وحدته، ثم ذهب إلى محطتهم عندنا، ليوجز عمال المحطة بتفاصيل الشبكة الجديدة وليغير ترددات الأجهزة.

استقر وضعي قليلا، فعدت إلى ملجأي، ونزعت حذاء الخدمة، واندسست في فراشي الفقير عليّ أنام هنيهة، وفعلا غرقت في نوم سريع بسبب الانهاك والسهر. رن هاتفي بقوة،  فتناولت جهازه اليدوي وأنا نصف نائم، فأبلغني عامل البدالة أن مقدم اللواء يطلبني على عجل في غرفة الحركات، نهضت من فراشي، وكانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر، ما يعني أني قد نمت نحو ساعة ونصف، ومدني هذا ببعض القوة لمواصلة السهر. في الجبهة لا يعتبر النوم والحاجة إليه سبباً للتخلف عن الواجب!؟

في غرفة الحركات، كان مقدم اللواء غارقاً في خرائط جبهة اللواء وفي الرد على الهواتف التي ترن باستمرار (يوجد في غرفة الحركات، هاتفان على بدالة اللواء، وهاتف مباشر على بدالة الفرقة يتحول إليه خط بدالة الدفاع بعد الساعة 12 ليلاً، وهاتف مع مرصد الاستخبارات المتقدم، وهاتف مع كتيبة المدفعية التي تسند اللواء، وهاتف مع آمر كتيبة الاسناد، وهاتفان مباشران مع حجابي الفوجين المتقدمين، اضافة إلى هاتف مباشر مع آمر فوج العمق، وهاتف مباشر مع مقر اللواء الجوال. علاوة على الهواتف، توجد أجهزة اتصال بعيد مربوطة على شبكة لاسلكي الفرقة، وشبكة لاسلكي اللواء وشبكة لاسلكي المدفعية). في أوقات العمليات تعمل كل هذه الأجهزة والهواتف بشكل مستمر ما يربك الضباط القائمين بخفارة الحركات بشكل كبير.

استقبلني المقدم الركن مأمون بابتسامة ذابلة بسبب الإرهاق، فهو الآخر لم ينم ليلاً، وقال: كنت أريدك أن تأخذ مكاني في غرفة الحركات ريثما أذهب لآخذ غفوة قصيرة، لكنّ كتيبة مخابرة الفرقة اتصلوا بي وطلبوا أن تذهب لهم فوراً مع نسختين موقعتين من مستند التسلم والاستلام الرقم 102 الشهير…ضحك مداعباً هو يقول: ربما يريدون أن يرسلوا لنا هدية ثمينة، لذا طلبوا ضابطا للاستلام…بالمناسبة أين رفاق العقيدة؟ ما عدنا نراهم…طبيعي… فإنّ واجباتهم أهم من واجباتنا المتعِبة، الله يعينهم، إنهم حقا حائرون، هاهاهاهاه.

ضحكت مجاملاً له، وترخصت منه أن يمنحني 10 دقائق اتناول فيها طعام الغذاء. بعد وجبة الغذاء عدت مسرعاً إلى ملجأي، واخرجت نسختين موقعتين من مستند 102، احتفظ بها للطوارئ، وطلبت سيارة الخطوط الجديدة (وكنا قد استلمنا شاحنة مرسيدس 2 طن صغيرة لواجبات مد الخطوط) وخرجت بها إلى الكتيبة التي تقع على بعد 8 كيلومترات خلفنا على ضفاف شط العرب.

اتضح أنّ المصروف لنا هو 8 أجهزة تسجيل كاسيت صغيرة، معدة للربط على هواتف المعركة وأجهزة اتصالاتنا مع وحداتنا، مع صندوق يحتوي 30 كاسيت سعة ساعة كاملة، إضافة إلى 40 بطارية حجم قلم لتشغيل الأجهزة. واجب هذه الأجهزة تسجيل مكالمات المعارك، لتوثيق ما يجري صوتياً، كي لا يمكن للمعنين التراجع عن أوامر أصدروها أو الادعاء بغير ما يجري. ونصّ كتاب كتيبة المخابرة، على أن واجب تشغيل تلك الاجهزة وادامتها يقع على عاتق ضباط مخابرة اللواء، ويشمل ذلك الأجهزة المربوطة على شبكة اتصالات الفرقة بالألوية.

وعدت إلى مقر اللواء، محمّلاً بالمسؤولية الجديدة بالغة الصعوبة، وكان عليّ أن أربط أجهزة الاتصال فوراً على الشبكات والهواتف المعنية، وأجري عليها تجربة لأفحص صلاحيتها.

دخلت بالأجهزة إلى غرفة الحركات، فوجدت لحسن حظي أن ضابط الركن الكيماوي النقيب همام (اسم رمزي) قد عاد من اجازته، ما سوف يخفف من واجبات الحركات النهارية عن مقدم اللواء الذي لن يحتاجني لأحل محله، كما أن آمر سرية هندسة اللواء قد عاد هو الآخر من اجازته الدورية ما سوف يخفف عني الخفارات الليلية في غرفة الحركات.

ابتسم مقدم ركن مأمون وهو يراني محملا بالعلب والصناديق، وقال: يالله، يالله، هدية دسمة من مقر الفرقة، خير رب أجعله خير!

ضحكت وابلغته بنوع ” الهدية” ووظيفتها، ابتسم بهدوء وهو يقول، اعتقد أن الرفاق يجب أن يقوموا بهذه الوظيفة، ضباط المخابرة واجباتهم كثيرة…لكن عليك ان تبدأ بتهيئة المعدات الآن، هل تريدنا أن نخرج من غرفة الحركات؟

ضحكت للنكتة وقلت له إن الربط لا يستغرق سوى دقائق لكن الفحص هو الذي قد يتأخر، ولكن بوسعكم البقاء في أماكنكم وسأقوم بإبلاغ المعنيين هاتفياً بهذا الأمر.

قال مقدم اللواء باسماً ولكنه يتكلم بجد: أليس من الأفضل أن نشعر الوحدات بهذا الأمر بكتاب رسمي؟

قلت له: يا سيدي أنت تقدّر ذلك، اعتقد أن وجود كتاب رسمي مهم في هذه الحالة، وإن كانت كتيبة المخابرة قد اعطتني الأجهزة دون كتاب!!

أجاب متسائلاً: فعلا، وهذا غريب حقاً، على كل حال المسؤولية في رقبتك! أنت الذي جلبت الأجهزة والكاسيتات!

وقضيت ساعات طويلة أربط الأجهزة على الهواتف وأجربها، وعلى أجهزة الاتصال البعيدة المثبتة على الأجهزة اللاسلكية أيضاً، وكان هذا هو الجزء الأصعب، لأنّ الشبكات اللاسلكية في وضع مراقبة، والحديث عليها محظور، لذا كان عليّ أن أتصل بالمحطات هاتفياً أولاً لأشرح لهم الأمر، ثم أعود لأربط الأجهزة وأجري التجربة معهم. عند منتصف الليل تماما انتهت المحطة الأخيرة. وانتهى يومي الصعب بالضربة القاضية. عدت لملجأي- بيتي التعيس، وتدثرت بفراشي مسرعا لأنام قبل أن يتغير مزاج الميدان.

فصل من كتاب حين مشينا للحرب

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

أ. صباح علو / خبير السلامة اًولاً: تدابير السلامة التي يجب أن تتوفر في منزلك هي: طفاية حريق متعددة الأغراض (بودرة - ثاني أكسيد الكربون) ولابد من ملاحظة الآتي: -   وضعها في مكان بارز يعرفه جميع أفراد الأسرة وبشكل رأسي. -   وضعها في مكان لا يمكن الأطفال من العبث بها. -...

قراءة المزيد
السلامة المنزلية (الجزء 1)

السلامة المنزلية (الجزء 1)

سلسلة مقالات بقلم صباح رحومي السلامة هي العلم الذي يهتم بالحفاظ على سلامة الإنسان، وذلك بتوفير بيئات عمل وسكن آمنة خالية من مسببات الحوادث أو الإصابات أو الأمراض من خلال سن قوانين وإجراءات تحث على الحفاظ على الإنسان من خطر الإصابة والحفاظ على الممتلكات من خطر التلف...

قراءة المزيد
عوالم السينما الخفية

عوالم السينما الخفية

الكاتب والباحث محمد حسين صبيح كبة تمهيد:  هذه الوريقات هي محاولة لسبر أغوار عوالم لا نعرف كنهها بدقة عالية. السينما هي فن نستمتع به في أحايين وندرس عن طريقه أحايين أخرى وأشياء أخرى لكننا لا نعرف كنهه بالضبط والدقة. وهذا يعني انها قد تكون مثل الكهرباء الذي لا نعرف كنهه...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *