تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

العشق دون اللمس…اعجاز العذريين الصعب!

فبراير 28, 2021 | 0 تعليقات

هل كانت المرأة حقيقة هي موضوع عشق قيس والعذريين المجانين؟ أم أن قلوب الرجال كانت تعجز أن تصل النسوة فتتعلق بثيابهن وتنسج أخيلة حولهن؟ ليلى ولبنى وعزة وشبيهاتهن ما كنّ حبيبات بل ايقونات تحرك الالهام.

يخال لكثير من المحدثين أنّ تعبير “الحب العذري” يختص بالمحافظة على عذرية وبكارة الفتاة، فيما الأمر يرتبط على الأغلب بقبيلة عذرة التي شاع فيها الغزل العفيف بعد الإسلام. وعلى المهتم بشعر ومشاعر العرب في تلك المرحلة أن ينظر بجد الى كيف عاش اباؤهم قبل عقود من موجة الغزل العذري والحب العفيف. ويحتج المدافعون عن العفة في الحب العذري بأنّ شعر عنترة وقصائد غزله بعبلة كمثال سبقت ظهور الإسلام، لتنفي بذلك فرضية أنّ التعفف صفة نشأت اضطراراً بسبب الإسلام وحدوده الصارمة بشأن الاختلاط.

الحب العذري هو تشبب عاشقٍ متيمٍ بحبيبةٍ واحدةٍ، ويُجهل في الأصل سبب نسبه الى بني عذرة، لاسيما أنّ اشهر من عشقوا ودبجوا القصيد الغزلي العفيف لم يكونوا من بني عذرة، فعروة بن حزام، وقيس بن الملوح مجنون ليلى، وقيس لبنى، وجميل بثينة، وعبد الله بن الدمينة، وكثيّر عزة، والعباس بن الأحنف، ويزيد بن معاوية، كلهم ليسوا من بني عذرة، بل أنّ قبيلة عذرة لم تنجب شاعرا عفيفا متعففا واحدا نقلته لنا قصص العرب.

شعر الحب العذري لا علاقة له بقبيلة عذرة !

حرتُ في تفسير نسب العفاف الى عذرة، فبحثت في كتاب محدث هو” سوسيولوجيا الغزل العربي” للطاهر لبيب الذي نقل:

 قال سفيان بن زياد: قلت لامرأة من عذرة رأيت بها هوى غالبا خفت عليها الموت منه: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ فقالت فينا جمال وتعفف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يُفني آجالنا، وإنا نرى عيوناً لا ترونها. وحاولت أن اتقصّى أصل هذه الحكاية فعييت.

وبحثت في ما نسب الى روضة المحبين لإبن قيم الجوزية فوجدت رواية:

قال سعيد بن عقبة لأعرابي: ممن أنت؟ قال الأعرابي: من قوم إذا عشقوا ماتوا قال: عذري ورب الكعبة فقلت ومم ذاك؟ قال: في نسائنا صباحة وفي رجالنا عفة.

وحين أردت التثبت منها، عييت مرة أخرى.

وبحثت في نهج البلاغة لابن أبي حديد فوجدت أنّ حجازيات الشريف الرضي يمكن أن توصف بالغزل العفيف، فيما لم يعرف عن “نقيب الطالبيين” صبابة وغزلا .

الحب العذري بلا لمس!

فحبيبة غزله هي مرة أميم “أميمة”:

 وهل ينفعني اليومَ دعوى براءةٍ

لقلبي ولحظـي يا أميمَ مُريبُ

ومرة ظمياء :

أشـمّ منكَ نسيماً لسـتُ أعرفُه

أظنُ ظمياءَ جرّت فيك أردانا

وتارة هي لمياء:

و مالي يا لمياءُ بالشـعر طائلٌ

سوى أنّ أشعاري عليك نسيبُ

وكل هذا في الحقيقة هو إعلان عن “لا حبيبة”، وأرى أنّ الشريف الرضي لم يكن قط عاشقا صبا، وأخال أنّ عشق العذريين المعلن يخفي وراءه عطشا للأنثى وشوقا لتلمس مواضع خصبها يتخفى في ثياب العفة.
فهل كان شعر الغزل العفيف تعبيرا عن عفة وتنزهٍ عن الجنس، أم كان تنفيسا عن الحرمان في المجتمعات العربية الإسلامية في عصور الإسلام الأولى في القرنين الأول والثاني هجري؟ الكاتب والصحفي فارس يواكيم تحدث جوابا عن هذا السؤال بالقول:

” كان الغزل العفيف من تقاليد الحياة الاجتماعية العربية في الجاهلية وصدر الإسلام. وانعكست المفاهيم الاجتماعية في  الصياغات الإبداعية الشعرية.  كانت التعفف ضرورة، لأن الحب بوجه عام  “تابوه” لا يجوز الاعتراف به.  برغم تمرد بعض الشعراء على الأعراف، مثل قيس بن الملوح  (ليلى) وعنترة (عبلة) جميل (بثينة) وكثير(عزة) .

في الوقت نفسه، وانسجاما مع الأعراف، كان الغزل يتقنع بالتعفف، وبصفة “الغزل العذري”. أو يتقنع بمخاطبة المؤنث بصيغة المذكر، وهذا التمويه ورد في الكثير من القصائد.

وانسجاما أيضا مع هذا المنطق، يمكننا النظر إلى بيت عمر ابن أبي ربيعة الشهير “إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا/ لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر”.

هل كان العذريون يقبلون حبيباتهم؟

العاشق العذري المتيم الحالم

ويهوى العذريون إن صحَ عشقهم امرأة بعينها لا يغادرونها الى أخرى، وهذا يضع كل القضية موضع سؤال، فالإسلام كان دائما ضد الكهنوت، ولم يكن دينا يحرّم الجنس، بل يحث على التكاثر والعلاقات الجنسية ضمن مؤسسة الأسرة ورباط الزواج الإسلامي، فكيف عاش هؤلاء متغزلين وهماً بامرأة واحدة؟

ولم يعرف عن كل أصحاب الغزل العفيف تشببا ووصفا لمحاسن الأنثى في حبيباتهم، فهن أشبه بجنيات اسطورية، لا تحيض ولا تحبل، وتكتفي بالتحليق في أخيلة عاشقيهن بغلال وردية ليست شفيفة. معشوقات العذريين لسن إناثا بل هنّ أقرب الى الملائكة وهذا برأيي إعلان قطيعة وبراءة مقصودة من شعر الخلاعة والمجون العربي الفاحش الذي سبق الإسلام، وعاد الى الظهور في العصر العباسي مع انتشار الف ليلة وأقاصيصها الإباحية. ولا أود أن أذهب بعيداً في عرض الغزل العربي الصريح قبل الإسلام ( ومن عجب أنّ النت خلا منه تماما، وكأنها رسالة ممن حمّلوا الأدب العربي على وسائل الاعلام الإلكترونية- النت- بأنّ ادبنا كان أبدا عفيفا رومانسيا لا يجرح ؟!) لكني سأكتفي بما أشتهر من شعر الملك الضليل (امرؤ القيس):

سموت إليها بعدما نام أهلها

سموّ حباب الماء حالاً على حال

فقالت سباك الله إنّك فاضحي

ألست ترى السّمار والنّاس أحوال

العذريون ما برحوا مسهدين ساهرين يعانون حرّ الصبابة والحزن الرومانتيكي المغرق في الشاعرية والعفة، فهل كان العرب الفاتحين المنصورين بإسلامهم القوي الذي اجتاح العالم، أهل رومانسية يتعففون عن النسوة!؟ وما مصير مئات ألوف الجواري اللواتي غنمهن المقاتلون وأردفوهن على ظهور الجياد ليعودوا بهن سبايا هنّ حِلٌّ لهم بملك اليمين؟

الحب العذري ظاهرة شرقية

عن حقيقة الحب العذري

الشاعرة ريم قيس كبة لم تبتعد كثيرا عما روته كتب البحث في الشعر والتاريخ العذري، لكنها اقتربت جدا من حدود التحريم التي أراد الحاكم العربي الاسلامي في العصر الأموي فرضها فقاربت الموضوع بالقول:

“يرى بعض الباحثين أنّ أصل التسمية جاءت نسبة الى “بني عذرة”.. وهي القبيلة التي ينتسب إليها أكثر من شاعر عذري.. لعل أقدمهم هو عروة بن حزام عاشق عفراء.. وهناك من يحيل اصل المصطلح الى إلى عفَّة اللسان والمسلك.. أي العذرية..

أما السبب وراء تلك الظاهرة فيرجعها بعض الباحثين الى أنّ الأمويين كانوا فرضوا على أهل الحجاز سورا من العزلة السياسية لأنهم كانوا يشكون بولائهم.. وقد انقسم أهل الحجاز الى قسمين: هم أهل المدن من أبناء الصحابة وسواهم وكان بنو امية يجدونهم خطرا يهدد سلطانهم.. فاغدقوا عليهم الأموال فانصرف الكثير من القوم الى اللهو والمتع.. بينما انصرف البعض الآخر الى حياة الزهد والتقى والعفاف.

أما القسم الثاني فهم من أهل البادية الذين استبد بهم الفقر واليأس فانصرفوا الى تأمل المثل العليا ونشات فيهم نزعة شبيهة بالتصوف وهي الغزل الروحي العفيف.

ويرجع فريق آخر من الباحثين سبب تلك الظاهرة الى أنّ الحب العذري كان غالبا ما ينشأ في سن مبكرة قبل أن تبلغ الحسية نضجها لدى العاشقين.. ويبقى ذلك اسلوبا حياتيا لا تغيير فيه.. وخير مثال حب قيس بن الملوح:

“عشـقتكِ ياليلى وكنتِ صـبيةً…وكنتُ ابنَ سبعٍ ما بلغتُ ثمانيا “.

مي زياده وجبران خليل جبران قصة حب وهمية

جبران ومي، قصة حب عابرة للقارات !

ولنرحل بالقضية الى القرن العشرين، حيث شاع بين الناس عشق جبران خليل جبران لمي زيادة، وعشقها له، وهو من أغرب نسج الخيال في عوالم الحب العذري، إذ أنّ جبران لم يلتق اللبنانية المبدعة مي زيادة قط. لكن ما جمع بينهما هو رسائل حب تناقلها بريد عابر للمحيطات. والى ذلك تحديداً أشارت الباحثة سلمى حفار الكزبري التي حققت مع سهيل بشري تلكم الرسائل، ” فإنّ العلاقة بينهما بدأت بعد أن قرأت مي رواية جبران الرومانسية “الأجنحة المتكسرة”. ولكن، بغض النظر عن كيفية بدء “الحب”، فقد أتاحت الخطابات ضوءا باهرا للمؤرخين على حياة كل من كاتبيها وأفراحه وشجونه وآرائه في مختلف شؤون الحياة. وقد كانت تلك علاقة يزيد في تفرّدها أنّ طرفيها لم يلتقيا وجها لوجه على الإطلاق. لكنها دامت قرابة 20 عاما وأتت الى ختامها مع وفاة جبران في نيويورك في 10 أبريل 1931. ماذا تسمّي هذا وأين يمكن أن تصنّفه؟ “.  

من جانبي، وضمن رؤية عصرية واقعية فارقت هواجس العصر الرومانتيكي الى عصر العولمة القاسي بحقائقه الفاضحة وثقافته السريعة، ليس بوسعي كبح نفسي عن هذا السؤال: ما كان يحصل لو التقى الحبيبان، هل كانا اكتفيا بالهمس العذري المتباعد، دون لمسٍ حسيٍّ يحوّل الشوق المحروم الى سرير عشق صاخب؟

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

حادثتان غريبتان

حادثتان غريبتان

بقلم الكاتب والباحث محمد حسين صبيح كبة تمهيد في هذه المقالة / البحث سأقوم بذكر حادثتين غريبتين مرتا بي ثم اقوم ببعض التحليلات. المتن ألف- الحادثة الأولى: كنت في عمان الأردن أتابع التلفاز على إحدى القنوات الفضائية التي كانت مسموحة في الأردن وغير مسموح بها في العراق إلى...

قراءة المزيد
السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

أ. صباح علو / خبير السلامة اًولاً: تدابير السلامة التي يجب أن تتوفر في منزلك هي: طفاية حريق متعددة الأغراض (بودرة - ثاني أكسيد الكربون) ولابد من ملاحظة الآتي: -   وضعها في مكان بارز يعرفه جميع أفراد الأسرة وبشكل رأسي. -   وضعها في مكان لا يمكن الأطفال من العبث بها. -...

قراءة المزيد
السلامة المنزلية (الجزء 1)

السلامة المنزلية (الجزء 1)

سلسلة مقالات بقلم صباح رحومي السلامة هي العلم الذي يهتم بالحفاظ على سلامة الإنسان، وذلك بتوفير بيئات عمل وسكن آمنة خالية من مسببات الحوادث أو الإصابات أو الأمراض من خلال سن قوانين وإجراءات تحث على الحفاظ على الإنسان من خطر الإصابة والحفاظ على الممتلكات من خطر التلف...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *