تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

الحدود السيّارة – جليد إيطاليا والنمسا وسويسرا*

ديسمبر 4, 2022 | 0 تعليقات

لقرون عدة، كان الجليد بضاعة إستراتيجية. وليس من السهل نسيان النقل والحصاد الذي اعتمد على الجليد لقرون متطاولة لدعم الصناعة الدولية، وكان واسطة مغرية لمجهزين ومصدرين عدة، في طليعتهم أوروبيا النرويج. كما لعب الجليد المخزون دوراً حاسماً في تأمين مصادر المياه وحفظ الطعام وحفظ الأنواع علاوة على حفظ الأصناف المتجمدة التي يحفظها الجليد كعينات لما انتجته الحياة عبر القرون. فوق كل ذلك كان الجليد عاملاً مناخياً يبرّد أشهر الصيف في مناطق عدة من العالم. الثلاجات (المساحات الجليدية الجبلية) المحلية في مناطق عدة من العالم عززت دور الجليد التجاري بين القارات في القرنين التاسع عشر والعشرين. لكن الجبال، ورغم موجة ذوبان الجليد العالمية الخطيرة، ما زال دورها حاسماً في اقتصاديات العديد من الدول حول العالم. في الجيوبوليتك، تكتسب الحدود المترسمة على “حافات البلدان”، حتى في أقصى مناطق العالم أهمية بالغة. الحد السيّار معرض للتحول في أي لحظة إلى أزمة أمنية أو عسكرية أو كليهما، وهو ما انتبهت إليه إيطاليا والنمسا وسويسرا، وبات يتطلب عناية تشريعية وقانونية رسمية من لدن الدول الثلاث.  حين تتغير تضاريس الأرض، ستتأثر الحدود بكل تأكيد.

وحين نفصّل ما جرى على المثلث الجليدي الذي تلتقي فيه إيطاليا بالنمسا وسويسرا على جبال الألب، سنتقصى بالتأكيد آثار حدود إيطاليا بعد الوحدة وتاريخها المضطرب. فالحدود المشتركة مع سويسرا جرى تثبيتها بين البلدين عام 1861. أما الحدود الإيطالية النمساوية فيرجع فضل ترسميها إلى تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919. فيما تغيرت الحدود الإيطالية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية. أما الحدود الإيطالية السلوفينية فرسمت في سياق اتفاق الذي جرى بين إيطاليا وبين يوغسلافيا السابقة، إحدى بلدان المعسكر الاشتراكي إبان الحرب الباردة. أما الحدود المارة بمنطقة جبال الألب فتتبع بشكل أو بآخر مبدأ الجغرافيا السياسية العامل وفق خطوط الفصل المائية المارة عبر السلاسل الجبلية، والتي يقدر عدد الدعامات الحدودية المقامة فيها بنحو 8 آلاف دعامة، رغم أن بعض الحدود غير مؤشرة لأنها تتداخل مع الحدود الجليدية والمسطحات الثلجية صعبة المنال. كل هذه الحدود قلت أهميتها بنهاية الحرب الباردة عقب انهيار الكتلة الشيوعية، ولم تعد إيطاليا تملك حدوداً مع يوغسلافيا، وباتت كل الدول المحاذية لها أما دولاً أعضاء في الاتحاد الأوروبي، أو أنها قريبة من الاتحاد بارتباطها باتحاد التجارة الحرة الأوروبية، كما هو حال سويسرا. وأطلق ثلاثة باحثين منذ القرن الماضي مشروعاً باهراً، وهكذا فقد أكتشف ماركو فيراري، إلياس ايسكوال وأندرياس باغناتو أنّ الحد الطبيعي بين إيطاليا وجيرانها في منطقة الألب صار يتغير، لأنّ ذوبان جبال الجليد glacial shrinkage له تأثير مباشر في تغيير المشهد الحدودي بين بلدان المنطقة، وهي ظاهرة لم يسجل مثلها التاريخ المدوّن. ومن خلال دراسة خرائط القرن التاسع عشر، وكتب الرحلات في تلكم المرحلة، علاوة على التصاوير الجوية التي تكررت على امتداد القرن العشرين، أمكن تشخيص التغيرات الكبرى التي اصابت المشهد. وأطلق على مشروعهم اسم Limes وهي كلمة لاتينية تعني الحد، وسرعان ما بات المشروع يستقصي التغيرات الايكولوجية على الحدود الإيطالية النمساوية إبان ربيع عام 2016. وبعد أن أنشأ الفريق مجسات أرضية في المنطقة، شرع في توثيق التغيرات الجارية على مسطحات تجمع المياه التي ما برحت تتغير بسبب ذوبان جليد وثلوج الثلاجات الكبرى، وهكذا صارت الحدود تتحرك صعوداً ونزولاً، نحو الأمام ونحو الخلف حيث غمر التآكل الجليدي عموم المنطقة. وكان العمل على ارتفاع يصل إلى 3 كيلومترات (10 آلاف قدم) غير متاحاً، إلا من خلال استخدام طائرات الهليكوبتر، حين تسمح الظروف المناخية باستخدامها.

ذوبان الجليد يحرك الحدود

جليد هذه الثلاجات قد ينزلق كاشفاً عن ملامح جديدة كلما تراجع أو اختفى. هذا التراجع يشكل عامل تحفيز لتغيرات دائمة في المشهد. دعامات الحدود القديمة ما عادت تفرض حدوداً حقيقية. واستخدم مشروع Limes المعطيات التي كشفت عنها المجسات لإقامة حدود واقعية بين إيطاليا والنمسا، وعززت تلك المعطيات نتائج تمخضت عنها استطلاع أرضي أجراه الجيش الإيطالي خلال تسعينات القرن الماضي.. وفيما بدأ المشروع في ترسيم سلسلة التغيرات الجارية على ارتفاعات جبلية محددة، فإنه واصل توثيق ما يجري على سفوح جبل سيميلاون Similaun . وفي أماكن أخرى من جبال الألب، على سفوح ثلاجة Ubelaferner (التي تعرف أيضا باسم Ebeltal)، حيث تمتد الحدود الإيطالية النمساوية لنحو 3 كيلومترات فوق مستوى سطح البحر، يكشف ذوبان الجليد عن ظهور خط قمم جديد، يفرض كنتيجة حتمية لذلك، إعادة ترسيم الحدود بين البلدين في هذه المنطقة.

وفقاً لما عرضنا، لم تعد الحدود ثابتة، بل هي تغيّر موقعها تبعاً لتغير ارتفاع الثلاجات، وسمك جليدها. وحين تتراجع الثلاجات وتتقلص مساحاتها وحجومها، لا يبقى الجليد مؤشرا للحدود في المناطق المتغيرة، بل تحل محله الحافات الصخرية. واعتماداً على جغرافية بيئة الألب فإن هذه التغيرات تؤدي إلى أن تخسر بعض الأطراف أراضٍ، فيما تكسب أطراف أخرى مساحات إضافية، وهكذا فإنّ التغير المناخي سيؤثر على جبال الألب وسيحدد حجوم إيطاليا وجيرانها.

في عام 2003، تسببت موجة حرارة كبرى في ذوبان نسبة كبيرة من الغطاء الجليدي في هذه المنطقة، وشاعت ظاهرة انهيارات التربة والجرف الصخري، وسجلت بعض تلك الوقائع على ارتفاعات وصلت إلى 4 كيلومترات فوق مستوى سطح البحر، وفقدت جبال الألب خلالها كمية هائلة من جليدها بشكل لا سابقة له. تكرار موجات الحر على مدى أعوام القرن الواحد والعشرين ينذر بمخاطر جمة، ويحذر المختصون بالتضاريس والمناخ في المناطق الجليدية الجبلية الوعرة من اختفاء آلاف من ثلاجات منطقة الألب بحلول نهاية هذا القرن. الجبال باقية هناك بالطبع، لكنّ شكلها وحجومها سوف تتغير إلى الأبد بفعل الاحتباس الحراري وذوبان الجليد، وانقطاع تساقط الثلوج، والسيول والفيضانات الناتجة عن الاحترار علاوة على انهيارات التربة والانجراف الصخري لمناطق شاسعة. المناطق الخلابة التي تميز الألب، ومنها تلك المحيطة بمرتفعات Matterhorn تصيب حدودها تغيرات مخيفة.

التغيرات في هذه المنطقة، ومثيلاتها في مناطق أخرى والتي نجم عنها ارتباك في ترسيم الحدود بين الدول، باتت موضع درس وبحث، وساعدت تقنيات الملاحة بالأقمار الصناعية GPS في رصد التغيرات، وقد أقيمت محطاتها على امتداد المناطق الحدودية المعرضة للتغيير لتؤمن رصداً دقيقاً لتغيرات التضاريس، المعهد الإيطالي للجغرافية العسكرية تبنى كثيراً من هذه الأنشطة، وكشفت مخططات دراساتهم ورصدهم عن انتقال الحدود وتغير أماكنها بسبب التغيرات التي تطرأ على المسطحات المائية. واكتشف القائمون بالرصد أن الحدود تتحرك بمقدار أمتار عدة، وأحيانا أكثر من ذلك، اعتماداً على مستويات الذوبان والانجراف الثلجي والجليدي الموسمي في الثلاجات التاريخية الموجودة في هذه المناطق منذ عصور ساحقة القدم.

الحاجة لتشريعات تنظم الحدود السيارة

هذه الكوارث وتبعاتها ألهمت المشرعون بإجراء تغييرات على القوانين والتشريعات الخاصة بترسيم الحدود والحقوق المترتبة على كل طرف ، ففي عام 2006 اتفقت الحكومة الإيطالية والنمساوية على  أن تتضمن التشريعات الحدودية بين البلدين عبارة “الحدود المتحركة” (التعبير الذي ينقله مؤلف الكتاب moving border)، وتلا ذلك اتفاق مشابه بين إيطاليا وسويسرا وقعت بموجبه اتفاقية بين البلدين في عام 2009، وعلى كل حال فإنّ مفهوم “الحدود المتحركة” ما برح يثير جدلاً جيوبوليتيكياً، مقروناً بإمكانية تهدد مستقبل العلاقات ببين الدول ذات الصلة بشكل دائم. واعتماداً على المديات البعيدة لتأثيرات التغير المناخي، فقد تظهر حكومات شعبوية أو قومية متطرفة ترى أنّ من المهم “انقاذ” الثلاجات بالقوة العسكرية! ويمكن بسهولة تحوير الحكايات المروية حول فقدان مساحات شاسعة من “التراب الوطني” مضيفاً لفائدة تراب الجيران الوطني، ليكون ذلك مدعاة لحروب لا نهاية لها تسيل فيها دماء غزيرة وتتبدد خلالها أرواح وثروات بلا حدود. هذه المناطق تعتمد اليوم تقنيات حديثة لتوليد الجليد الصناعي بما يخدم المنتجعات الغنية الباذخة القائمة على رياضات التزلج على الجليد ورياضات الشتاء التي يقصدها مليارديرات العالم وأصدقاؤهم وعائلاتهم. وتبذل سويسرا، وهي من أهم مواطن رياضات الشتاء الباذخة في أوروبا، جهوداً وأموالا كبرى لوقف ذوبان الجليد ومقاومة التغير المناخي في هذه المناطق، لدرجة أنّ شركات رياضات الجليد تتبنى مشروع تغطية وستر الثلاجات الكبيرة في منطقة Rhone، أي أن الشركات تضع فوق الجليد والثلوج أغطية من اقمشة كاتمة تمنع الحرارة وأشعة الشمس من اذابتها، وهي عملية مكلفة شاقة. وبالنظر لطبيعة التطورات السياسية في المناطق التي تجري فيها هذه التغيرات، فإنّ من غير المتوقع قيام صراعات مسلحة بين الدول ذات العلاقة، لكنّ، حماية التضاريس والطقس فيها يتطلب مشاريع هندسة حرارية متقدمة، بل وحتى حماية عسكرية.

* فصل من كتاب Border Wars لمؤلفه Klaus Dodds، وهو كتاب صدر نهاية عام 2021.

تابعني

روابط مهمة

مؤلفاتي

مقالات ذات صلة

حادثتان غريبتان

حادثتان غريبتان

بقلم الكاتب والباحث محمد حسين صبيح كبة تمهيد في هذه المقالة / البحث سأقوم بذكر حادثتين غريبتين مرتا بي ثم اقوم ببعض التحليلات. المتن ألف- الحادثة الأولى: كنت في عمان الأردن أتابع التلفاز على إحدى القنوات الفضائية التي كانت مسموحة في الأردن وغير مسموح بها في العراق إلى...

قراءة المزيد
السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

السلامة من الحرائق في المنزل – الحلقة الثانية

أ. صباح علو / خبير السلامة اًولاً: تدابير السلامة التي يجب أن تتوفر في منزلك هي: طفاية حريق متعددة الأغراض (بودرة - ثاني أكسيد الكربون) ولابد من ملاحظة الآتي: -   وضعها في مكان بارز يعرفه جميع أفراد الأسرة وبشكل رأسي. -   وضعها في مكان لا يمكن الأطفال من العبث بها. -...

قراءة المزيد
السلامة المنزلية (الجزء 1)

السلامة المنزلية (الجزء 1)

سلسلة مقالات بقلم صباح رحومي السلامة هي العلم الذي يهتم بالحفاظ على سلامة الإنسان، وذلك بتوفير بيئات عمل وسكن آمنة خالية من مسببات الحوادث أو الإصابات أو الأمراض من خلال سن قوانين وإجراءات تحث على الحفاظ على الإنسان من خطر الإصابة والحفاظ على الممتلكات من خطر التلف...

قراءة المزيد

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *