ملهم الملائكة
مهرجان برلين السينمائي الدولي المعروف باسم “Berlinale”هو واحد من أبرز المهرجانات السينمائية في العالم، وإلى جانب مهرجانيْ كان وفينيسيا، يعد ضمن “الثلاثة الكبار”.
في فبراير/ شباط عام 2006 أوفدتني مؤسسة DW التي كنت أعمل فيها لتغطية وقائع مهرجان برليناله بنسخته السادسة والخمسين، لا سيما أنّ فيه مشاركات عربية وعراقية. وراودتني أحلام وردية عن نوع الفيلم العراقي الذي جرى قبول عرضه على هامش المهرجان وسرعان ما اكتشفت لدهشتي أنه فيلم كردي حمل عنوان (يزهر النرجس) يتناول بشكل بدائي جداً قصة حب ساذجة متداخلة بوقائع نضال البيشمركة في سبعينات القرن العشرين. الفيلم من كردستان العراق وتدور وقائعه باللغة الكردية من اخراج حسين حسن على ومسعود عارف صالح وذلك في عروض (بانوراما).
المشكلة الأكبر من سذاجة الفيلم وبدائيته، جاءت من مخرج الفيلم (حسين حسن وهو كاتب القصة دون أن يملك معرفة سينمائية أو أدبية من أي نوع). هذا الرجل المقاتل، كان متمسكا بالتحدث بلغته الكردية رافضاً بأي شكل التحدث لي لأني لا أتقن لغته! وهنا تكلمت مع رجل مرافق له ويدعى “مسعود” ويتقن العربية واعتقد انه كاتب السيناريو وافهمته، أنني الوحيد الذي أمثل القسم العربي في DW وهي المؤسسة الألمانية الوحيدة الناطقة باللغة العربية، وإذا رفض الحديث معي، فإن أحداً لن يلتفت إلى فيلمه حتى إذا كان جديراً بأفضل الجوائز. لكنّ الرجل تمسك بموقفه، فذهبت لشأني وشاهدتُ، ومعي زميلة صحفية متدربة، فيلماً عن مشكلات المهاجرين، واجرينا لقاءات مع الكادر، والتقطنا صوراً لهم، ثم عدنا إلى صالة اجتماع الصحفيين بالكوادر السينمائية، لأجد مسعود الكردي ينظر إلي مبتسماً، ثم يتقدم نحوي بخجل، وهو يدافع عن صديقه مخرج الفيلم مبرراً ما فعله بشدة اعتزازه بقوميته، فقلت له “الكردية لغة صغيرة عائمة بين العربية العملاقة، والفارسية العريقة، والتركية واسعة الانتشار، وإذا تمسّك الاعلام الكردي على مخاطبة محيطه والعالم بهذه اللغة، فسيبقى معزولاً عن محيطه الإقليمي، ولن يجد طريقه إلى الأفق العالمي”. تلك الجملة، أثبتت الأيام بعد عقدين أنها صحيحة 100 بالمائة، وها نحن نجد المحطات الكردية الناجحة المعروفة تتمسك بالعربية كجزء أساس في برامجها، لذا باتت “روداو” الفضائية الوحيدة المتصلة بالجوار الإقليمي وبالعالم من بين عشرات الفضائيات الكردية الأخرى. انتهى ذلك الحدث الصغير، بلقاء سجلته مع مخرج الفيلم، وتولى الترجمة بيننا صديق المخرج، والتقطنا صوراً مشتركة، وصور لملصق الفيلم.
المحطة المهمة الأخرى لنا في ذلك المهرجان، كان العرض الافتتاحي للفيلم المصري “عمارة يعقوبيان”، وقد نجحنا في مشاهدة الفيلم كاملاً دون قطوع، ثم حضرنا حفل عشاء أقيم في فندق “إيدلون” أفخم فنادق العاصمة الألمانية، ولم أعرف من هو راعي الحفل، السفارة المصرية في ألمانيا، أم شخص بعينه كان يرافق الكادر الفني، أم الفنانون أنفسهم؟
تناولنا طعام العشاء النادر من نوعه، على شرف الكادر الفني المصري الرفيع، ولم أفقه قط ما هو العشاء رغم أنّه كان قليلاً جداً، ولذيذاً جداً، ومغذياً لدرجة ابقتني شبعاً حتى الساعة الثالثة صباحاً! ثم أجريت لقاء اذاعياً مع الفنان القدير عادل إمام، ثم اتفقنا على إجراء لقاءات في الغد مع كل من الفنان نور الشريف، الفنانة يسرى، والفنانة هند صبري. وهكذا، وبعد لقائي بالفنان القدير عادل إمام، بدأ حفل راقص، تألق فيه أبطال الفيلم وتحدثوا وقدموا كلمات، ثم رقص عادل إمام والفنانة يسرا، نفس الرقصة على نفس اللحن الذي تغنت به بالفرنسية الفنانة يسرا La Vie En Rose.
تلك الليلة لم أستطع أن أنام، فموعدنا مع الفنان نور الشريف كان في الساعة الحادية عشرة صباحا، يليه موعدان مع الفنانة يسرا والفنانة هند صبري. وسجلنا اللقاءات، وكانت الزميلة عائشة الدوري موفدة الفضائية الحرة لتغطية المهرجان، وقد تحاورنا حول الأسئلة التي سنطرحها عليهم قبل أن ندلف لإجراء لقاءاتنا. كل تلك التغطية لوقائع المهرجان والتي بلغت نحو 10 ساعات إذاعية، ومعها تغطية أونلاين لأول مرة في تاريخ المؤسسة معززة بعشرات الصور المختارة، نشرتها أونلاين على موقع DWعربية، لكنها اختفت من أرشيف المؤسسة، ومن الموقع، ومن الطبيعي أن تختفي الملفات الصوتية بعد مرور فترة من الزمن (أحسب أنها عشر سنوات) لكن الأسئلة تتزاحم في رأسي حول مصير كل تلك اللقاءات المدونة المعززة بالصور النادرة، وقد عثرت على بعضها فحسب!؟
بعد تلك التغطية، واصلنا عملنا في تغطية وقائع المهرجان، وكدت أحصل على موعد لقاء مع الفنان العالمي جورج كلوني، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة حين عرف أن اللقاء المطلوب هو لقاء إذاعي، وليس لقاء متلفز.
كانت تظاهرة سينمائية ضخمة ضمت 16 ألفاً من النجوم والمخرجين والمنتجين والعاملين في السينما من ستين بلداً. برلين التي اكتست بالثلوج بدت حضناً دافئاً ضم نجوم الفن السابع. تسعة عشر فلماً ادرجت على لائحة المسابقة، لجنة التحكيم ترأستها الممثلة البريطانية الشهيرة شارلوت رامبلنغ.
دخلت المانيا المسابقة بسبعة افلام من أصل 19 فلماً ادرجت على لائحة المسابقة. الفيلم الالماني (الجزيئات الاساسية) من اخراج اوسكار رويلر والمأخوذ عن رواية الكاتب الفرنسي (ميشيل هوبلك) المثيرة للجدل خاض المسابقة وهو مرشح لنيل احدى الجوائز.
يسرد الفيلم بشكل غير متسلسل تاريخياً وقائع حياة أخوين غير شقيقين ليقف في كل مرة في احدى المحطات العاطفية في حياتهما. ازمة تتصاعد منذ بدأ الفلم لتشهد انفراجاً حين يلتقي كل منها بامرأة تجدد رؤياه وتبعث في قبلة الامل.
أكبر الشقيقين تنتهي علاقته بفاجعة انتحار حبيبته التي اقعدها شلل مفاجئ عن الحركة، اما الشقيق الاصغر فتصل علاقته الى افق أرحب بحبيبته التي التقاها صغيراً ولم يدرك انه يحبها الا بعد سنوات طويلة.
الولايات المتحدة الامريكية شاركت بعدة افلام منها الفلم المثير للجدل (سريانه) من اخراج شين روبنشتاين دانلوب ومن بطولة جورج كلوني …حبكة الفلم تتوزع بين امريكا والشرق الاوسط في تشابك المصالح النفطية بالسياسية الدولية بشكل لامعقول في اغلب الاحيان.
ومن الدانمارك جاء (فلم واحد بواحد) ليروي قصة عائلة فلسطينية تعيش في الدانمارك يعاني الولدان الاكبران فيها من صعوبة الاندماج بالمجتمع الغربي. يقطع الفلم في النهاية الطريق على الشقيق الاصغر الذي يقرر ان يندمج بهذا المجتمع إثر تعرضه لاعتداء من قبل مجموعة من الشبان الدانماركيين ثأراً لصديق لهم كان قد تعرض لاعتداء سابق.
لكن، خزائن الأسرار التي افتحها اليوم بعد عقدين من ذلك الحدث، فيها الكثير، وكلما حاول المرء أن يقلب الدفاتر القديمة والأوراق العتيقة في ألمانيا، كشّر له التاريخ النازي الدموي عن أنيابه. وهكذا، وإبان محاولتي معرفة تاريخ هذا المهرجان، عثرت بالصدفة على صفحة معتمة مشبوهة في هذا السفر. ففي أكتوبر 1950 اجتمعت لجنة متخصصة لتهيئ لإقامة “مهرجان برلين الدولي للفيلم السينمائي”. ضمت اللجنة عضواً عن السينما الأمريكية، هو اوسكار مارتاي، ونظيره البريطاني، علاوة على ممثلين اثنين من “إدارة سينات برلين”، وأربعة أعضاء من قطاع صناعة السينما الألمانية، علاوة على صحفي متخصص بالسينما. واتفقت اللجنة على جملة أشياء، من أهمها تسمية المهرجان “برليناله Berlinale “، وهي مختصر من التسمية الطويلة “Berlin International Film Festival”. وهناك رأي آخر حول كلمة برليناله سآتي على ذكره لاحقاً، لكني أبقى في شك كبير إزاء هذه التسمية، لأن المختصر لا يناسب الحروف الأولى من اسم المهرجان!؟
وما لبث أن عُين المؤرخ د. ألفريد باور مديراً للمهرجان في عام 1951. في أربعينات القرن العشرين عمل د باور ضمن (دائرة أفلام الرايخ)، وبعد سقوط النازية ساعد البريطانيين بالمشورة في قضايا السينما. وترأس مهرجان برليناله منذ عام 1951 حتى عام 1976 لكن الحقائق حول د. باور لم تنكشف سوى في عام 2020، في مقال نشرته صحيفة تسايت الألمانية المعروفة، حيث كشف مقال المجلة عن ارتباط المذكور بالحزب الوطني الاشتراكي وبماكنة الدعاية النازية الدموية، ومشاركته في أنتاج افلام تروج للعقيدة النازية، وقد نجح د.باور من خلال علاقاته الدولية، وعلاقته بصناع السينما النازية، وعلاقاته بالوسط السياسي في تثبيت نفسه كمرجع معتمد للمهرجان…وللمرء أن يتخيل قوة اللوبي النازي، حين يدرك أن الحقائق لم تتكشف سوى بعد نصف قرن من تاريخ تأسيس المهرجان! علماً أن د. باور قد فارق الحياة عام 1986.
هذه حقائق سريعة عن مهرجان برليناله:
التأسيس: أُطلق عام 1951 بدعم من الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، كجزء من إحياء الحياة الثقافية في برلين الغربية.
الأهمية: يُعرض فيه أكثر من 400 فيلم سنويًّا من جميع أنحاء العالم، مع تركيز على الأفلام المستقلة والجريئة والقضايا الاجتماعية.
الأقسام: يشمل مسابقات رئيسية (مثل القسم التنافسي) وأقسامًا متخصصة مثل بانوراما وفورم وجيل (للأفلام الموجهة للشباب).
اسم بريناله (بحسب رأي الذكاء الاصطناعي) هو مزيج بين كلمة “برلين” و**”بينالي”** (Biennale) الإيطالية التي تعني “كل عامين”؟ هذا رأي، وهناك رأي آخر باتجاه آخر…، رغم أن المهرجان يُقام سنويًّا. السبب يعود إلى الرغبة في استعارة هيبة المهرجانات الأوروبية مثل بينالي البندقية، حتى لو اختلف التوقيت.
لماذا اختير الدب شعاراً للمهرجان؟
الرمزية: الدب هو رمز مدينة برلين منذ العصور الوسطى، ويظهر في شعار النبّالة الخاص بها. اختير ليرمز إلى الهوية المحلية للمهرجان رغم طابعه الدولي.
الجوائز: تُسمى الجوائز بأسماء مرتبطة بالدب:
الدب الذهبي (Goldener Bär): الجائزة الأولى لأفضل فيلم.
الدببة الفضية: جوائز فرعية مثل أفضل مخرج أو ممثل.
أصل الدب الذهبي كجائزة
التصميم: صمم التمثال الفنان ريناتي سينتينيك عام 1951، وهو دب واقف يُرمز به إلى القوة والتفاؤل بعد الحرب.
التطور: أصبح التمثال أيقونة فنية، ويُصنع من الذهب الخالص للفائزين، بينما تُطلى النسخ المقدمة للمشاركين بالذهب.
*حقائق مميزة
افتتاحيات تاريخية: مثل فيلم “ريبيكا” لهيتشكوك في الدورة الأولى.
السياسة والسينما: يُعرف المهرجان بجرأته في عرض أفلام تتناول قضايا سياسية ساخنة على الساحة الدولية.
الجمهور: يستقطب أكثر من 500,000 مشاهد سنويًّا، مما يجعله أكبر مهرجان سينمائي جماهيريًّا. حيث ان المهرجانات السينمائية الدولية الأخرى تكاد تقتصر على صناع السينما والصحفيين المختصين بالفن السابع.
اليوم وبعد نصف قرن من تأسيسه، بات برليناله احتفالا سينمائياً هاماً يجمع بين الهوية المحلية لبرلين والرؤية العالمية، مع دبٍ ذهبيٍّ يرمز إلى التميّز الفني والتاريخ العريق. وقد نجح المهرجان في أن يقف بكل فخر جنباً إلى جنب مع مهرجان كان الدولي ومهرجان فينيسيا الدولي.
0 تعليق